05-04-2014 10:03 AM
بقلم : يوسف ابو شعيب
كما جَرت العادة ، فبعد أن يموت حصان عَربة يتم تفويض أمر قيادتها إلى حصانٍ جديد قد يختلف عن سلفه في بعض الصفات إلا أنه يتطابق معه في القوة والضخامة وبما أن عدد خيول المزرعة التي تنطبقُ عليها هذه المواصفات بات أقل من عدد العربات فيها ، كان من محاسن أو مساوئ الصُدف اقتراب وصول جحشالون القادم من المدينة بعد وفاة صاحبه العَطار والذي عَمل معه لفترات طويلة وأخذ عنه الكثير من طرق علاج شتى الأمراض ناهيك عن أنه يحفظ أسماء الأعشاب والعقاقير عن ظهر بَغل ، ولكن ما كان يقلق صاحب المزرعة أنّ هذا الجحشالون قد عمل سابقاً عند أحد المحامين ويخشى أن يكون قد حَفظ بعض القوانين بعد حمل على ظهره أسفار القانون ولمدة طويلة.
" لن أشغل بالي بهذه التفاصيل فجحشالون ليس حصاناً لهذا سأنتظر وصوله وبعدها أقرر ما أريد " قالها صاحب المزرعة وصَعد نحو غرفته كي يغط في نوم عَميق خاصة بعد المجهود الكبير الذي بذله في دفن الحصان الميت ودفن ذكره السيئ معه لكنّ الأفكار بدأت تتزاحم في رأسه من جديد فقد سَمع عن جحشالون الكثير من القصص وهاهو يستقدمه للعيش في مزرعته دون أن يفكر فيما سيحدث خاصة إذا كانت تلك القصص التي سمعها عن جحشالون صحيحة .
تثاءب باب الغُرفة نسمة جميلة حملت صاحب المزرعة إلى أحلامٍ كثيرة وبعيدة لم تعيدهُ منها سوى أصوات الحيوانات التي بدأت تعلو عن حد الضجيج كأن مكروها قد حدث ، وعلى الفور هرول صاحب المزرعة نحو الساحة مستطلعاً ما يحدث وإذا بعربة تقف على باب المزرعة وخلف تلك العربة كان هناك بغل ضخم كبير فعرف صاحب المزرعة أنها العربة القادمة من المدينة وعرف أن ذلك الضخم هو جحشالون.
انصرفت العربة بعد أن سَلّمت جحشالون لصاحب المزرعة الذي لم يكف عن التحديق في هذا الضخم " أي مصيبة تلك التي جرّها عليّ هذا الإرث الملعون " قالها واستمر بالتحديق في وجه وجسد جحشالون " إنه بحاجة لأطنان من التبن في كل وجبة وعشرات الجرادل من الماء في كل شَربة " قالها ثم أخذ بلجام جحشالون واقتادهُ نحو إسطبل الخيول وفي الطريق لاحظ أن جحشالون لم يرفع بصره عن العربة السادسة عشر وهي عربة الحصان المتوفى " تباً كأنك تعلم بما يجري ، أو أنكَ كنت تحلم بهذا طوال عُمرك حتى هيئهُ القدر لك ، أو أن التبن أخبركَ بمصيرك قبل أن تلوكه " ضحك صاحب المزرعة في سره وأودع جحشالون إسطبل الخيول التي بدت وكأنها تعترض على وجوده معها في ذات الإسطبل ، فهو بَغل وهي خيول "تُرى ماذا عساها تفعل لو عملت أنني أفكر وبشكل جدّي بأن أسلم جحشالون مهام قيادة العربة السادسة عشر" تمتم صاحب المزرعة بهذه الكلمات وغادر الإسطبل مسرعاً.
"أظن أن بلادتي ومناعة الإحساس عندي قد ضعفت لأنني أعجز عن تجاهل كل ما يجري حولي والغريب أنني أحسّ بأن خيول الإسطبل راغبة عن وجودي معها بل أنها ترفضه قطعياً " قالها جحشالون في نفسه ثم بدأ بمراقبة كل ما يجري حوله داخل الإسطبل الذي بدا مثل بركان قد ينفجر في أي لحظة.
لقد عرف جحشالون الكثير ِطباع الخيول وفهم تصرفاتها خصوصاً علاقتها بالحصان الكهل حيث كانت ترجع إليه في كل الأمور ومنها أمر بقاء جحشالون أو عدمه ، فقد أمرها سابقاً بالهدوء والتصرف بشكل طبيعي حتى لا تُبرر لصاحب المزرعة أي تصرف من الممكن أن يتخذه ضدها " كونوا دقيقين في حساباتكم " قالها الكهل ثم أضاف " إن وجود جحشالون معنا في نفس الإسطبل لن يجعل منه حصاناً ووجوده معنا لا يعني أنه قد قائد عربة ".
شَعر جحشالون بالحقد اتجاه الكهل مثلما شعر به باتجاه بقية الخيول لكن عليه أن يُفكر ملياً في أمر هذا الكهل وعليه أن يتقرب منه أكثر فأكثر حتى يحقق ما يريد وهنا خَطرت في باله مجموعة من الأفكار أولها تملق الكهل وطاعته في الصواب والخطأ وحفظ كل كلمة يقولها بالإضافة إلى محاولة البحث عن علاج نافع ومفيد يجعل الكهل راضٍ تماما عن قائد العربة السادسة عشر الجديد .
سَرحت الخيول وظل جحشالون يتأمل ويراقب أحوال المزرعة وأحوال كل حيوان فيها " أنا هنا ، والويل لكم والويل لهذه العيون التي ترمقني بتكبر وازدراء، الويل لكم وغداً ستندمون " قالها ثم أخذ يبحث بين الأعشاب عن دواء لمرض الكهل المزمن وبالفعل وجد تلك الأعشاب التي سمع صاحبه العطار يتحدث عن فوائدها كثيرا والآن سيتحين الفرصة المناسبة كي يقدم هذا الدواء للكهل بعد أن يقنعه بفعاليته وهذا ما حدث تماماً فبعد أن عادت الخيول إلى الإسطبل مساءً بدأ الكهل يشكو من ألم شديد في قوائمه فهرع إليه جحشالون لكن خيول الإسطبل منعته من الوصول إلى الكهل رغم محاولاته المتكررة حتى سمع الجميع ذلك الصوت الرخيم الذي صَعد مع أنات الكهل " لم أعد أحتمل دعوه يقترب" وهنا طار قلب جحشالون من الفرح فهو متأكد من مفعول هذه الأعشاب كما هو متأكد من أنه سيحقق كل ما يطمح له بعد هذا النداء الهَزيل .
ما هي إلا لحظات حتى تلاشى ألم الكهل وانفتحت شهيته وبدأ بتناول الطعام والشراب من يد جحشالون الذي قام على خدمته حتى الصباح بينما كانت بقية الخيول تخلد للنوم بعد عناء يوم مضى وبانتظار عناء يوم جديد .
وفي الصباح نَهض الكهل ورأى جحشالون ممددا بجواره فتركه وانصرف إلى العمل مع بقية الخيول وعندما استيقظ جحشالون تفقد مضجع الكهل فلم يجده كذلك بقية الخيول فعرف أنه قد شُفي وأن عليه أن يبدأ بالخطوة الثانية ، وفوراً عمد إلى ترتيب مضجع الكهل و مضاجع الخيول الأخرى وجهز لها كل ما تحتاجه حين عودتها في المساء .
رجعت الخيول مساءً وكان الكهل في غاية السرور والرضا كذلك بقية الخيول التي أذهلها منظر الإسطبل الجميل وبعد أن تناول الجميع وجبة العشاء دعا الكهل بقية الخيول كما دعا معها جحشالون ثم قال : "لا شك أن الجميع بات على علم بذكاء وحكمة جحشالون وقدرته على معالجة المرضى لهذا علينا أن نعمل جميعاً ومعاً كأننا فريق واحد وجحشالون عضو مميز في هذا الفريق ، له ما لنا وعليه ما علينا" صَهلت الخيول موافقة ورقص قلب جحشالون من الفرح بعد أن سَمع هذا الكلام خاصة وأنه بات قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح حصان لكنّ حلمه هذا لن يكتمل طالما أن العربة السادسة عشر ما زالت بعيدة عنه ومن غيرها لن يسمح له بالوقوف مثله مثل أي حصان في صَف الخيول .
فَكر جحشالون طويلاً لدرجة أنه نَسي طعم التبن والنوم من كثرة التفكير وبما أن ضخامته كافية لإقناع صاحب المزرعة بأمر قيادته للعربة فما هي الأشياء التي يمكنه أن يقوم بها كي يقنع الكهل بالأمر نفسه غير التملق والطاعة والسهر على خدمته وخدمة بقية الخيول وهنا خَطرت في باله فكرة شيطانية جديدة وعليه أن يبدأ بتنفيذها وبأسرع وقت ممكن وهذا ما حدث أيضاً.
فبينما كان جحشالون يراقب حيوانات المزرعة بدأ وعلى غير عادته يتقرب من كل واحد منها كما بدأت هي الأخرى تتقرب منه خاصة بعد أن سمعت عن حكمته وقدرته على معالجة كافة الأمراض وبعد هذا التقرب أخذ يشيع بينها الكثير من الحكايات والقصص التي كان يختلقها عن بقية خيول الإسطبل حتى أصبحت الحيوانات تنظر نظرة ازدراء لكل الخيول .
أحست الخيول بما يجري و أخبرت الكهل عن تصرفات بقية الحيوانات معها " نحن عاجزون عن حل مشاكلنا ...؟؟" صاح بها الكهل ثم أضاف "علينا أن نجد حلاً سريعاً قبل أن تتفاقم الأمور ويصل الأمر إلى صاحب المزرعة ...علينا أن نُبعد تلك الاتهامات عنّا ...تباً لتلك الحيوانات ..." هنا بدأ قلب جحشالون يخفق سريعاً ربما خوفاً من أن يفتضح أمره ، أو لأن حلمه على وشك أن يكون حقيقة ..."جحشالون...جحشالون ...."هتف بها الكهل لكن جحشالون بدا وكأنه يسمع هذا الاسم وللمرة الأولى في حياته " نعم يا سيدي ..." تلعثم بها جحشالون ، "...." الكل يعلم أنكَ محبوب من قبل كل حيوانات المزرعة وهذه الحيوانات لن تعرف أنك صرت واحداً منّا إلا إذا أوكلت لك مهمة قيادة إحدى العربات فما قولك في ذلك "قالها الكهل وكأنه يعزف لحنا جميلاً في أذني جحشالون ...هنا أجابه جحشالون ودون أي تردد "سمعا وطاعة يا سيدي أنا رهن إشارتك ..." صهلت الخيول معجبة برأي الكهل وصهلت إعجاباً برد جحشالون.
وفي اليوم التالي وقبل أي حصان وقف جحشالون بالقرب من العربة السادسة عشر بعدها خرجت بقية الخيول ثم حضر صاحب المزرعة الذي ما أن شاهد ما يجري حتى انفرجت أساريره فقد وجد لهذا الضخم عملاً بدلاً من جلوسه و بقاءه في الإسطبل دون أي عمل ، والأهم أن الخيول بدت راضية عن تقليده مثل هذا المنصب ورضيت له -ومع أنه مُجرد بغل- أن يقف في صف الخيول كذلك فرحت بقية الحيوانات وهي ترى جحشالون السادس عشر على رأس الخيول لأنه وبحكمته ودرايته سيخلص الخيول من مشاكلها لكنّها لم تكن تعلم بما تخيفه لها الأقدار وما يخفيه لها هذا الجحشالون.