28-04-2014 03:53 PM
بقلم : رائد علي العمايرة
زعموا أن الضبع يوما ترأس الغابة،في غيبة الأسد،فأوكل الى الغراب حفظ الخزينة، وجمع لذلك أهل الغابة، فقال: يا قوم إني رأيت الغراب أكثركم أمانة وهو في فراغ، فلو جعلناه قيِّماً على الخزينة،يجمع من كل واحد منا، سَهْماً من كَسْبِهِ،نستعين به على مصالح الغابة.
قال الجمع: نِعْمَ الرأي! وما نرى في اختيار الغراب من بأس، وما عهدنا عليه من سوء.
فتم للضبع ما أراد، من جعل الغراب قيِّماً،فقام الغراب خطيبا فقال:يا قوم تعلمون أنني فوق أمانتي، فلا يصلح لهذا العمل امرؤٌ سواي، فإن لي منقارا يعينني، على تدوين ما يدخل في الخزنة،وما يخرج منها، وسأعمد إلى جدار ٍقريب، فيه صخرٌ ليِّنٌ، فأدوِّنُ عليه، مقدار ما تأتونني به من أسهمكم، والقيدُ كما تعلمون،يمنع الشك أن يساوركم،بأنني أو سيدنا الضبع، قد نهدر ما تنفقون، أو نستأثر به دون مصالحكم.
وقال الضبع: ولعلي أزيدكم فأقول لا يخرج من الخزينة نفقةٌ، إلا بنقرة من الغراب ونبشة من مخلبي على (الجدار)لتطمئن نفوسكم.
مضى حولان والغراب والضبع،يتصرفان في الخزينة، فيدخلان فيها ويُخْرِجانِ منها،ما يشاءان من غير أن، يسألهما أحد عما يودعان أو ينفقان.
وذات يوم في اجتماع أهل الغابة، عند ضفة النهر، قام النمر خطيبا فقال: يا معاشر أهل الغابة،قد وَلّْينا أمرنا من قبل للضبع على أن يسير فينا بالعدل، وأن يصلح أحوال الغابة، وأن يرعى الضعفاء ممن لا يستطيعون الصيد،أو يسعون للكلأ، فقدَّم الغراب قيِّما على الخزينة، فقلتم ما عهدنا عليه من سوء، وأنتم تعلمون أن الغراب لا يؤتمن، وكأنما نسيتم أن الغراب لصٌ بطبعه، والطبع غالب على التَّطبُّعِ، ولا يفارق صاحبه حتى يفارق الدنيا.
قال الثور: قد أدخلت في نفوسنا الريبة، فما نحن فاعلون ؟!
قال النمر: لا يحتاج الأمر إلى طويل نظر،نقوم من فورنا،فَنُحَرِّزُ ما في الخزينة، ونضبط الخارج منها على تدوين الغراب والضبع.
فقاموا إلى الخزينة جميعا، ولما دخلوا إليها لم يجدوا فيها شيئاً.
فأسرعوا إلى الضبع فقالوا: يا أيها الضَّبْعُ،أين ما أتمناك عليه، فما وجدنا في الخزنة شيئا، وإنا لنعلم أنها دخلها كذا وكذا؟!
قال الضبع: وما أدراني! إنما الخزنة في عهدة الغراب، وقد ارتضيتموه من قبل قيِّما عليها، فاسألوا الغراب فلست عنها بمسؤول.
ففتشوا عن الغراب، فلم يجدوه وازدادت عندئذ ريبتهم فيه!
فقال الصقر: سأطير في كل مكان ولعلي آتيكم به مخفورا، ولا أظن أن يأتي من تلقاء نفسه، ثم طار يطوف في كل ناحية ولا يجد الغراب، فعاد والجمع مجتمعٌ في مكانه،فقالوا: أين الغراب مالك عدت من دونه، قال: ما وجدت له أثراً، وإني لأظنه قد هجر الديار فانظروا أمركم فيه، وإن كنت أظن أن الأمر كله من تدبير "الضبع" فلو جئناه مرة أخرى فسألناه.
قال أكثرهم: كيف نتهم الضبع، ولم يكن قَيِّماً على الخزينة، وإنما أوكلها إلى الغراب،قال الصقر: ألم تسمعوا ألى قوله حين ولَّى الغراب أمر الخزنة،فقال : في جوار كل نقرة من الغراب، نبشة من مخلبي، على كل نفقة ينفقها، قالوا :نعم قد صدقت فهلموا بنا إليه.
وكان الضبع حين فارقه الجمع، قد عَمَدَ إلى "الثعلب" وكان أثيراً عنده، وبينهما صحبة، وإدام وشراب؛فقال الضبع: أدركني أيها الصديق، فقد وقع ما كنت أحْذَرُهُ من قبل، وانكشف أمري، عند أهل الغابة، فدبِّر لي فإني، لا أحسن التدبير.
قال الثعلب: يا أيها الضبع، قد أسْرفتَ في الاطمئنان، للغراب حتى خدعك،فألقاك في الشبهات، ولم تَحْتَطْ لنفسك، بما يمنع عنك المساءلة، فاتركني أفكر في بَلِيَّتِكَ، لعلي أجد لك منها مخرجا، فليس ثمة شيء ينجيك في الإنكار والمماحكة،وإنما اتركني أدخل، في جمع أهل الغابة، فأستدرجهم الى ما أريد.
ثم إن الثعلب سار إلى الجمع، قبل أن يصلوا إلى جُحْر الضبع، فقال: ما شأنكم يا قوم وفيمَ اجتماعكم ههنا؟! قالوا : قد كان من أمر الضبع والغراب كيت وكيت،فما تشير علينا، قال إني صاحب تجربة وقد مررت بمثل ما قلتم من قبل، وليس ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من الغضب، فإنما يدرك الحليم بغيته بالأناة،ويخسر بالتسرع من يركب الغضب، فاجعلوا في الأناة والمشورة، ما يخرجكم من التسرع،فتستردوا ما سلب منكم.
قالوا فما ترى أن نفعل؟! قال أوكلوني بالضبع والغراب وسأستخرج لكم منهما ما يكتمان، قالوا: قد وليناك فانظر، ما تصنع في أمرهما.
ثم إن الثعلب غدا إلى الضبع فقال، هات لنا شرابا وطعاما ثم لنجتمع في الأكَمَةِ المجاورة، حتى لا يستمع إلى حديثنا أحد، قال لبيك سأروح ولن ألبث إلا قليلا وسآتيك بما تشتهي، فقابلني عند الشجرة اليتيمة، فسأوافيك إليها ! فلما وافاه الى الموعد، قال الضبع: إني أخاف أن يأخذوني بجريرة الغراب،قال الثعلب: لا تخف ففي المماطلة والتسويف، ما يشتت الجمع، فاصدقني: هل كان لك مع الغراب، حصة فيما سلب؟ فإني رأيتك تنبش بمخلبك، عند نقرة منقاره،معقبا على كل ما دونه على الجدار من النفقة، ولا أظنك تنجو،إلا أن نحتال في الأمر.
قال الضبع فما حيلتك؟! قال الثعلب: نماطلهم ونزيد في الأخذ والرَّد، ونُقْحم في الأمر من ليس فيه ، ثم إن اضطرونا إلى ما نَكْرَهُ،من الإجابة المحددة، دفعنا عنك التهمة، بإلقائها على الغراب وحده،ثم نعيد ونزيد حتى يتكاثر القول، ويكون التفريق بين صحيحه، وسقيمه مستحيلا، ثم نخترع الخصومات، وننحاز لقول ثم نرتد عليه، ثم نوافقه ، فإن افتضح قول بدلناه بقول، فأكثرنا التفاصيل وتعللنا بالعرف،فإن رأينا أنهم تشتتوا استعنا بالشهود من أهل صحبتنا، فأدخلناهم في الأمر فشهدوا لك بالنزاهة، وأشادوا بما تصنعه مما لم تصنعه أبدا، حتى يكثر أنصارك فينقسم الجمع إلى فُرَقاءْ،فمن رأيناه مواظبا على العداوة،اسْتَمَلناهُ! فإن لم نفلح استدرجناه، حتى يمضي الوقت وتتشعب المسائل فَيَمَلُّ من الأمر من ليس له جَلدٌ، على متابعته، ولا نزال بهم، فيما ذكرت لك من المماطلة، حتى يختلفوا فيما بينهم، فيكفونا مؤونتهم، ويطول انتظارهم ،ويتفرق جمعهم، ، ثم تستقيم الأمور كما كانت، ولايعود للقول فيها من جدوى، لكثرة اختلاط الحجج ودفوعها ، وتنتهي هذه الغمة عنك وعنا.
فكان ما أراد الضبع والثعلب، من استدراج أهل الغابة بالتسويف، وعرضهما لكل حقيقة بالتحريف،ومطالبتهم لكل صاحب رأي بتعريف.
وأمن الغراب غائلة العقاب،فعاد إلى الغابة، مستأمناً على ما لذَّ وطابْ،فكان في خطة الثعلب بلوغ المرام، وفصل الخطاب.