14-05-2014 04:20 PM
سرايا - سرايا - رغم مرور 66 عاما على النكبة الفلسطينية بتهجير الشعب الفلسطيني من أراضيه إلى غزة ، إلا أن تلك اللحظات لم تفارق أحدا في بيوم من الأيام ، وتقام مناسبة ذكرى النكبة الفلسطينية وعرض صورها وتفاصيلها قائما حتى اليوم على لسان من عاش هذه اللحظات من المسنين .
نكبة حلت بالشعب الفلسطيني بعد وعد بلفور بوطن قومي لليهود في فلسطين ، وما زلنا نعانى الأجيال المتعافية ويلات هذا القرار وتبعاته ، رغم وفاة أجدادنا الذين قاموا بالدفاع عن أراضينا المحتلة ، إلا أن مفاتيح المنازل وأوراق الطابو ما زالت بيد الأجداد ويورثونها للآباء والأبناء .
وما زال المسن خليل احمد سلمان " من مواليد عام 1928 في قرية بيت طيما ، يحتفظ بتفاصيل منزله وأرضه وقريته ولحظات الدفاع عنها وإصابته برصاصة في صدره ، وفقدانه للبصر في عينه اليمنى مرسوما أمام عينه في كل لحظة بكل أحداثها .
سلمان لم يستذكر تاريخ ميلاده بالضبط ، لكنه قام بتقدير سنة ميلاده بناء على مشاهدته لحرق السكة عام 1936 ، حيث كان يعي هذه الحادثة جيدا ويسير على قدميه ، حيث كانت السنوات متعارف عليها قديما بألقاب مثل سنة المطر وسنة الفقر وسنة الجوع ، بناء على الأحداث التي تمر في تلك السنة .
بدأ حياته طفلا بين يدي " الكتاب المشايخ " الذين كانوا يدرسون أبناء المنطقة على ألواح بحجم كف اليد لعدم وجود مدارس ، وكانت دراستهم فقط تعتمد على حفظ القران ، وقد أتم سلمان حفظه للقرآن بعد إتمامه لعامه الرابع عشر من عمره ، حيث كان يقدم هدية فريضة للشيخ كل يوم جمعة رغيف خبر وبيضة بدل تعليمه هو وجميع الأطفال .
ويستذكر منزله وقرية بيت طيما قائلا " كانت منازلنا من طين وأبوابها من خشب ، لكنها أحسن من القصور بالعيشة الهادئة ، ومارست العمل في أرضنا كفلاح بعد حفظي للقرآن ، نزرع ونحرث وندرس القمح والشعير والذرة ، وكنا تحت الحكم البريطاني ، وكان الانجليز يقوم بأعمال دورة دائمة على كل القرى الفلسطينية انطلاقنا من المجدل ، ونهرب حينما نشاهدهم خوفا ورعبا منهم ، ويعتقلوا اى شخص يحمل سكين ومن يحمل مسدس يحكم عليه بالحبس خمس سنوات "
وانضم سلمان للثوار وكل مجموعة تنطلق من منطقتهم داخل القرى دفاعا عن المناطق الأخرى التي تقع فيها الأحداث والمواجهات ، وكان سلاحهم نابوت خشب و " شبريه " و " كريك " وقليلا منهم يمتلك سلاح .
وفى إحدى المرات هجم الاحتلال الاسرائيلى على قرية كوكبة ، فهم الثوار لنجدة سكانها والدفاع عنهم بأسلحتهم البسيطة مقابل الرشاشات الإسرائيلية ، وحينما وصلوا المنطقة انهال عليهم رصاص الاحتلال وقام بعض الشبان بالرد بإطلاق النار عليهم ، وقتل حينها جنديين إسرائيليين ، وتوقف سلمان عند الجندي القتيل واضعا قدمه على رقبة القتيل برفقة صديقه الذي انهال عليه بالسكين قائلا له " بدك وطن قومي؟؟ " ، ومن ثم قاموا بإحراق جيب جديد تابع للاحتلال الاسرائيلى قبل مغادرتهم للمكان .
وتابع " بدأنا بشراء الأسلحة من أموالنا الخاصة وامتلكت سلاح خاص من والدي ، وقام الكثير منا ببيع أرضه ليشترى قطعة سلاح يدافع فيها عن قريته ، وأصبح في كل قرية ما يقارب 30 مسلح ، وقبل خروج الانجليز قاموا بتوزيع 4 قطع سلاح وخمس رصاصات لكل قرية للدفاع عن أنفسنا ، في حين كانوا يدعموا الاحتلال الاسرائيلى بكل الأسلحة الثقيلة والرشاشات والدبابات والطائرات "
ثم جاء الجيش المصري للاهالى في القرى الفلسطينية مطالبينهم بالانضمام معهم للتدريب على القتال ضد اليهود ، وتصادف عودة سلمان من عمله ليقابل الضابط المصري وهو يتحدث مع والده ن وبعدما شاهده شاب في ريعان شبابه اصطحبه إلى معسكر التدريب ، وتم تدريبهم على القنص والزحف والقتال والاقتحام .
وقال " قرر الجيش المصري خرق الهدنة مع اليهود بوقف إطلاق النار ، وقررنا مبدئيا بالهجوم على كوكبة وحليقات وبرير ، وطلب منى الضابط المصري باصطحاب مجموعة للرباط على مقربة 100 متر من الموقع الاسرائيلى المتواجد في كوكبة لامتلاكي سلاح انجليزي ، وحينما ذهبنا هناك وشاهدنا الجيش الاسرائيلى قال لنا : لا تطيعوا أوامر المصريين وتعالوا خذوا بطيخ من عنا ، وبالفعل توجهت وجلبت القليل من البطيخ وزعته على المجموعة التي كانت برفقتي "
وشاهد سلمان خلال توجهه لجلب البطيخ مدفع منصوب وسط الموقع ، ليتبين له أن المدفع عبارة عن شكل مدفع خشبي فقط للتمويه والتخويف على انه حقيقي ، وأقام برفقة أصدقائه طوال الليل بالقرب من الموقع ونظرا لصغر سنه قام بالحراسة طوال الليل فيما نام كبار السن من المرابطين معه .
وانسحب اليهود في هذه الليلة من الموقع لداخل البلدة ، وجاء شخص من بعيد منتصف الليل عرف عن نفسه بكلمة سر متعارف عليها بينهم ، ليبلغه انه الجيوش المصرية والسعودية قادمة خلفه مبشرا ببدء تحرير كوكبة وكل القرى التي احتلها الجيش الاسرائيلى ، وأضاف " جاء بداية الفجر جيش عربي وسعودي ومصري كثير مكون من ثلاث فرق ، يسألوني أين اليهود ؟ ، ثم وكلوني برفقة أربع ثوار للذهاب لبيت طيما لقطع الطريق على اليهود ومقاومتهم بالأسلحة الرشاشة ، وحملت على كتفي صندوق ذخيرة كاملا مسافة طويلة ، ونتيجة التعب لم اعد اعرف أين نحن بالضبط ، فقام الجندي المصري بفتح خريطة أخرجها من جيبه حدد فيها المكان واصطحبني لقريتي "
وتابع "حينما توجهنا للموقع الاسرائيلى على رأس القرية وجدناه فارغا من اليهود ، فتوجهت فرقة أخرى لدوار عراق سويدان للتحكم في المفترق الرئيسي ، وشعر حينها الاحتلال الاسرائيلى بالتحركات الكبيرة فقاموا بإطلاق النار في كل اتجاه بشكل جنوني ، وبدأنا بالاشتباك معهم طوال النهار والليل وحررنا كوكبة والقرى المجاورة من التواجد الاسرائيلى فيها "
ومن كثرة إطلاق النار على مدار ساعات شعر سلمان بصدى صوت الرصاص بآذانه على مدار أسبوع كامل ، ثم أمرهم الضابط المصري بالهجوم على الموقع الاسرائيلى في قرية حليقات ، وأصيب سلمان برصاصة من رشاش اسرائيلى دخلت في صدره وخرجت من ظهره ، وغرق في دمائه منبها زميله المصري بإصابته ، فرد عليه " امشي يلاش خوف " ، واستشهد مقاتل سعودي في نفس المكان حيث قال لحظة استشهاده " اشهد يأرب عبدك شهيد "
وتابع " بعدما شاهدو دمائي شعروا بالخوف ، ونادوا على الحكيم السعودي الذي كان يرافق الجيش ، ومن حلاوة الروح انطلقت جريا مسافة طويلة للوصول للإسعاف رغم إطلاق النار المتواصل باتجاهي ، ووضعت طاقيتي على الجرح معتقدا أنها ستوقف خروج الروح من مكان الإصابة ، وحينما وصلت الإسعاف شاهدت ما يقارب 20 مصاب مصري منهم من استشهد في المكان ومنها إصابته خطيرة ، وتم نقلى للمجدل واستشهد بالطريق الكثير ممن كانوا معي وضمدوا جراحي بوضع القطن لوقف نزيف الدم ، وكنت اشعر بعطش شديد حينها لكنهم اعطونى حليب لأروى عطشى "
وأشار أنهم نقلوه بعد ذلك لغزة للمستشفى العربي " المعمدانى " ، وتم تخديره وإجراء عملية جراحية أولية له ، ثم نقلوه بالقطار للعريش ثم للقنطرة ، واستقر بعدها في مستشفى القاهرة ، حيث أجريت له عملية جراحية ، وزاره حينها كل القيادات المصرية فرحين بوجود مناضل فلسطيني عندهم ، وزارته أم كلثوم واهدته حذاء خلال تواجده في المستشفى .
وطلب سلمان من إدارة المستشفى العودة لقريته رغم إصرار العديد منهم على بقاءه معهم ، وعاد بعد شهرين من غيابه خارج فلسطين لقريته بيت طيما بالقطار من القاهرة للمجدل برحلة سفر استغرقت يوم تقريبا ، وتابع " حينما عدت للقرية بملابس جديدة ونظيفة قابلني احد اقاربى وهو يقول لي " أنت عميل عدت نظيف وبملابس جديدة " ، فاصطحبته معي داخل القرية ، وحينما شاهدني رفاقي المناضلين قرب منزل استقبلوني فرحا بإطلاق النار في الهواء بعودتي سالما ، فنظرت وقتها إلى قريبي الذي اتهمني بالعمالة وصفعته على وجهه أمام الجميع "
وعاد لعمله مع الجيش المصري بعد عودته لقريته ، وحينها بدأت النكبة الحقيقية والكارثة حسبما أفاد ، حيث تسللت فرق كثيرة من الجيش الاسرائيلى من الشمال منتصف الليل قاطعة الطريق بين العديد من القرى بمساعدة بعض العملاء والجواسيس لتستقر على مفترق طرق مهم يقطع أوصال الثوار والمناضلين بين بيت طيما والمجدل وعراق سويدان وقسموا المنطقة قسمين ، ثم دخلوا على قرية بيت طيما والقرى المجاورة بالدبابات والمدفعية وبإطلاق نار كثيف ، وهرب سلمان وأسرته وقريته للجنوب باتجاه هربيا واستقروا فيها ليلتين .
ثم انسحبت بقية الجيوش العربية من القرى التي احتلها اليهود ، وهاجر كل الفلسطينيين من قراهم باتجاه المجدل ثم غزة ، وقامت الطائرات الإسرائيلية بقصفهم وملاحقتهم لحين وصولهم لغزة ، تاركين خلفهم بيوتهم وأموالهم وأراضيهم هربا من بطش الاحتلال الاسرائيلى ، حيث التقى كل المهاجرين من قراهم بالجيش المصري في بيت حانون وبيت لاهيا .
وتوجه سلمان برفقة أسرته للإقامة عند أنسابهم في دير البلح من عائلة شاهين ، ونام برفقة 30 من أسرته وأقاربه في غرفة واحدة ، ثم انتشر المهاجرين في الاراضى الفارغة في دير البلح .
وأصيب سلمان بعد ذلك خلال مواجهات مع الاحتلال الاسرائيلى بإصابة في قدمه وأصابه في رأسه أدت لفقدان بصره في عينه اليمنى ، ولحظة دخولهم دير البلح يستذكر لحظات جمع الاحتلال لرجال دير البلح على البحر ومطالبتهم بتسليم الأموال التي معهم للضابط ، ثم توجههم للضابط الاسرائيلى للتحقيق معهم في يوم كامل للبحث عن الثوار والمناضلين واعتقالهم .
وتمكن مصطفى حافظ من قيادة الفدائيين بغزة ، والذي اغتيل بعد ذلك بطرد ملغوم في بالسرايا وسط مدينة غزة ، وتبين بعده بتخابر الضابط المصري مع الاحتلال الاسرائيلى وإرسالهم للفدائيين وقتلهم على الحدود مقابل تلقيهم أموال عن ذلك .
وتعتبر قرية بيت طيما من القرى الفلسطينية ، وكان يبلغ عدد سكانها 800 نسمة ، وينتمي لهذه القرية عائلة المبحوح وسلمان والكرد وعيسى .
ويحمل سلمان في طياته ذكرى لكل يوم عاشه في أرضه المحتلة بيت طيما ، وما زال يحلم بالعودة إليها رغم كبر سنه ، ويحتفظ بأوراق أرضهم مع مختار عائلتهم .
وتبقى ذلك شهادة واحدة من ألاف الشهادات التي لم تذكر مع الأبطال الذين عاصروا هذه الأحداث والنكبة الفلسطينية ، والتي تدل على بطش الاحتلال الاسرائيلى وسلبه للاراضى الفلسطينية دون رادع ، بانتظار وقفة جادة من العالم العربي الذي لم يحرك ساكنا منذ النكبة حتى ألان ، رغم استمرار تجريف الاراضى واعتقال المناضلين وقتلهم ، واسر الأطفال والنساء.