29-05-2014 12:08 AM
سرايا - سرايا - "يا شام"، كم تغيرت الشام- سورية، لم تعد كما هي، والأمر من كل هذا أن كل معالمها باتت ذكريات محفورة في وجوه من عاش بها وزارها وحمل معه عطر ياسمينها من كل مدنها من حلب وصولا إلى دمشق وحمص وطرطوس، التي رسمها المخرج السوري محمد ملص بطريقته الخاصة في أفلامه.
عروض مختارة من أبرز أعمال المخرج ملص الروائية التي قدمها على حقب زمانية مختلفة رسم فيها الوضع الاجتماعي والسياسي في سورية من خلال التغيرات وهي تعكس ما يراه، فالسينما مرآة ذات أبعاد مختلفة وفن ورؤى مخرجها وإن ارتبطت بالواقع وهي تقدم أسئلة لا إجابات.
أما فيلم "باب المقام"، الذي أخرجه ملص في العام 2005، فيدور في حلب، بقلعتها الشامخة وتاريخها العريق في المقامات الحلبية والطرب الأصيل، ولكنه يتحول لأغنية حزينة ضحيتها امراة قتلت بسبب عشقها للغناء الذي بالنسبة لعائلتها لطخ شرفهم، وهي قصة حقيقية وقعت أحداثها في العام 2001.
حلب في "باب المقام" شامخة، تعج بالحياة، ولكنها في الوقت نفسه تعيش في كبت وعاصرت تلك التغيرات السياسية التي مر بها العالم، ويحتضن مشاهد من نشرات الأخبار هنا وهناك ومسيرات ضد القمع حول العالم.
السيناريو الذي كتبه خالد خليفة، وواجه مشاكل لاحقا مع المخرج، يستعيد أصوات حلب العريقة مثل عمر البطش وبكر الكردي، إلى جانب صوت اسمهان وأم كلثوم التي تتردد أغانيهما طيلة الفيلم من قبل بطلته سلوى جميل "إيمان" خصوصاً "رق الحبيب"، و"شمس الأصيل". تلك الكلمات التي ترسم مجريات الفيلم تخطف البصر لتعكس صورة لحلب التي لم تعد كما كانت وفق مخرجها، وتكشف عن شعارات متناقضة وعالم مختلف والواقع الاجتماعي الذي يعود للقاع بوصمة العار التي يلصقها للمرأة بتعامله وتلك السلطة الذكورية فيه.
فصورة العم القاسي "رياض ورداني" الذي يدير مطاعم في الحارات الشعبية لشواء الدجاج، وهي مشاهد رمزية تتكرر في أكثر من مشهد لذبح الدجاج في "النتافة"، التي تمثل القسوة المرتبطة بتاريخ العم، كونه أحد ضباط الجيش والانضباط والعنف، خصوصا أن أحد أبناء أخيه انضم للمعارضة وتم سجنه وهو شقيق إيمان الأكبر.
وللفيلم مساران؛ الأول هو اهتمام زوج إيمان سائق التاكسي العاشق لنشرات الأخبار والمظاهرات، وتلك الشعارات التي تحمل صور عبدالناصر، حتى ان ابنه يحمل اسم عبد الناصر، وكأنه يبحث عن مخرج لتلك التغيرات السياسية حول العالم، والتي تنعكس أيضا على الوضع في الحياة في الداخل، ولكن بدون إشارة واضحة وصريحة لذلك.
أما الخط الثاني فهو عشق ايمان لأغاني أم كلثوم، والبحث عن الأصالة والجمال في زمن تغير وفقد معنى الأصالة حتى في الفن ورموزه.
ولكن الفيلم للأسف فقد عنصره التشويقي من خلال الإغداق في تلك الإشارات التي تنبه لنهاية إيمان بمقتلها منذ أول الفيلم، ولكننا ندخل ضمن الفيلم لعالم الصورة وسحر الغناء بصوت إيمان طيلة الفيلم حتى لحظة مقتلها، باللهجة الحلبية التي هي أكثر ما يذكر بتلك المدينة والمشاهد الخارجية، فيما البقية تفاصيل وحوارات تدلل على مقتل ايمان في المشهد الأخير.
فبعض تلك التفاصيل يوحي بتغير المدينة اجتماعيا مثل طريقة تأديب الوالدين وحرمان وقساوة الأعمام، إلى الطالب الجامعي المشغول بالأناشيد الحماسية والتجسس على العائلة، كلها توحي بما لا يمكن ستره بعد الآن في سرد ضعيف لتلك التغيرات والتحولات النفسية والاجتماعية والسياسية التي تفجرت.
وفي نهاية الفيلم، يهدي المخرج هذا الفيلم لروح امرأة شابة قتلت في حزيران (يونيو) 2001، وكان سبب قتلها ولعها الشديد بالغناء، وقد لا ينحصر باب المقام على حلب السورية من خلال جرائم الشرف، ولكنه يخصها برموزه التي لم تعد موجودة اليوم بعد الأوضاع في سورية وهذا هو الواقع المؤلم.
ولكن ملص ينقلنا في فيلمه الثاني "سلم إلى دمشق"، وهو أحدث أعماله السينمائية الذي أنتج في العام 2012، ويدور في أحداث الأوضاع السورية الحالية وثورتها المتفجرة، إلى عالم مختلف متناولا الأوضاع السياسية بطريقة غير مباشرة كما في فيلم "باب المقام".
ويدور الفيلم في إيقاع هادئ وبأجواء دافئة تنسج قصصها من خلال كبت داخلي أحداثه تقع في منزل دمشقي عتيق يضم شخصيات مختلفة هاجسها واحد هو الحرية.
فهو يقدم الثورة من الداخل، وذلك الخوف الذي يمنع ساكني المنزل من الخروج وسط حكايا تتلاقى من خلال أجيال عمرية مختلفة.
الفيلم يحمل ملامح سينماتوغرافية جميلة، ذات صور شعرية، تتألق في مشاهد الأمطار وصوت الأمواج والإضاءة الموظفة للانتقال من حالة نفسية إلى أخرى، لكنه مثقل بالرمزية المبالغ فيها ربما والإيقاع البطيء.
ورغم أن الفيلم يتناول الثورة، إلا أنه لا يقدم أي مشهد دام سوى أصوات مدافع وعيارات نارية وغارات جوية وصواريخ هنا وهناك وسط هتافات، وبالطبع هو لا يقدم تلك الجهة الأخرى.
و"سلم الى دمشق" صور في سورية، ويقدم تلك الأجيال المختلفة؛ بدءا من ضابط متقاعد يبكي على أحلام الماضي المفعم بالنصر ذات مرة، وطالبة جديدة في معهد الفنون تتقمص شخصية فتاة عاش والدها في السجن كمعتقل سياسي، وآخر من فلسطين يحلم بوطن حر، وقصص متناثرة هنا وهناك تعيش في خوف.
ولكن تجمعها تلك الرغبة في التحرر من ذلك الكبت الذي منحه ملص رمزية عالية من خلال المشاهد التي صورت في الشتاء وفي الأمواج المتلاطمة والبرد وسقوط المطر الغزير وأصوات القنابل، التي انعكست على المشاهد بضبابية وشعرية مفرطة لتحاكي ذلك القيد الثقيل "الخوف".
وبكل سلبيات "سلم إلى دمشق"، إلا أنه يتحد مع "باب المقام" ليرسم صورا مختلفة لحلقتين زمنيتين لسورية وحالها، ويطرح أسئلة مختلفة لن تتوقف حتى يتوقف ما يدور بها، ولكنه يدمي القلب على مدينة الياسمين العتيقة ومدينة الطرب الأصيل بقلعتها الشامخة حلب.