02-06-2014 08:46 AM
سرايا - سرايا - يتميز القرآن الكريم بالدقة في اختيار الكلمة، والدقة في اختيار موضعها ، فإن قدم كلمة على أخرى فلحكمة لغوية وبلاغية تليق بالسياق العام
- من ذلك مثلا قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله " الإسراء 88
وقوله عز وجل : " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا " الرحمن 33
لأن مضمون الآية هو التحدي بالإتيان بمثل القرآن ، ولا شك أن مدار التحدي على لغة القرآن ونظمه وبلاغته وحسن بيانه وفصاحته
والإنس في هذا المجال هم المقدمون ، وهم أصحاب البلاغة وأعمدة الفصاحة وأساطين البيان ، فإتيان ذلك من قبلهم أولى ، ولذلك كان تقديمهم أولى ليناسب ما يتلاءم مع طبيعتهم
أما الآية الثانية فإن الحديث فيها عن النفاذ من أقطار السموات والأرض ، ولا شك أن هذا هو ميدان الجن لتنقلهم وسرعة حركتهم الطيفية وبلوغهم أن يتخذوا مقاعد في السماء للاستماع ، كما قال تعالى على لسانهم : " وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع " الجن 9
فقدم الجن على الإنس لأن النفاذ مما يناسب خواصهم وماهية أجسامهم أكثر من الإنس
- ومن مواضع التقديم والتأخير ذات الأسرار البلاغية والحكم البيانية أيضا قوله تعالى:
" يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تؤويه * ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه " المعارج 11 ــ 14
فنلاحظ تقديم البنين ثم الصاحبة ثم الأخ ثم العشيرة
ولكن نجد آية في سورة عبس تقول : " فإذا جاءت الصاخة * يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " عبس 33 ــ 37
فبدأ بالأخ ثم الأم ثم الأب ثم الصاحبة وأخيرا الولد ، فالمقام هنا مقام فرار ، والإنسان عندما يفر ويريد أن يخلو لنفسه فإنه يفر من الأباعد أولا ، ثم ينتهي بأقرب الناس إليه ، فيكونون آخر من يفر منهم ، وواضح أن الابن ألصق الناس ، ثم الزوجة ، ثم الأم والأب ، وأخيرا الأخ فرتبهم ترتيبا تصاعديا بحسب عمق المنزلة وشدة القرب وقدم الأم على الأب لأن الأم أكثر حاجة إلى المساعدة ، فالفرار منها أولى ، أما الأب فمظنة النصر والتأييد فهو أقرب من الأم لذلك أخّـــر
أما سورة المعارج فإنها تصف مشهدا من مشاهد العذاب يوم القيامة ، حين يرى الإنسان مصيره وما أعد له ، عندها يتمنى أن لو استطاع أن يجعل أحدا مكانه حتى لو كان أقرب الناس إليه وألصقهم به ، لذلك عكس الترتيب فقدم الابن ثم الزوجة ثم الأخ ثم العشيرة وأهل الأرض كافة
كيف لا وهو ( مجرم ) بوصف الآية ، فلا يعنيه أن ينال آخرون من الأبرياء العذاب دونه حتى لو كانوا أبناءه ، فهو في حالة هلع وجزع تدفعه أن يضحي بغيره في سبيل نجاته مهما كان قربهم منه
قال تعالى بعد هذه الآيات : " إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا " المعارج 19 ــ 20
ولا شك أن هذا يوحي بشدة العذاب وعظمة الهول وسوء العاقبة مما يدفعه إلى التفكير بنفسه فقط
هذا وقد سبق في السورة قوله : " ولا يسأل حميم حمي