29-06-2014 11:21 AM
سرايا - سرايا - تميز سمير فؤاد خلال السنوات الأخيرة بأعمال تحتفي بحركة الأجساد، يعالجها بطريقة تُحِيُل كثافتها إلى شفافية. وتكشف عبر تشوّشها المتعمد عن أسرار الأرواح التي تسكنها. وهو يواصل في معرضه الجديد «مقامات» اكتشافاته حول الجسد الإنساني في ثباته وحركته، ويضيف هذه المرة الآلات الموسيقية، لتبدو مرة كمعادل أو شريك للأشخاص في عزلتهم، ومرة كأدوات لِبَثّ الألم والبوح بالأسرار أو حتى الاستعراض الزائف. المعرض الذي تم افتتاحه مؤخراً بقاعة بيكاسو في القاهرة يضم مجموعة من الأعمال التي تُصوّر عازفين على آلات موسيقية مختلفة وتعبيرات جسدية، ويتجاوز الصورة المباشرة إلى العزف على مقامات العزلة.
بالعين المجردة يمكن مشاهدة هذا النوع من التشكيل في حالتين: الأولى تحت تأثير حالة الهذيان نتيجة إرهاق أو إعياء، والثانية في حالة الحركة السريعة جداً، حيث تَعْلَقُ لقطات الجسم المتحرك في الذاكرة متجاورة في جزء من الثانية. والحركة والهذيان يصلحان مدخلاً لقراءة أعمال سمير فؤاد؛ فالهذيان ينتج لقطات مشوّشة بلا حدود، لكنها متماهية مع محيطها، وكاشفة للوشائج الوجودية العميقة. إنها لحظات بين اليقظة والغياب أو حالات من الوجد الصوفي، وعبرها تَعْلَقُ الأجسام في الزمن.
وإذا كانت اللقطة في ذاتها هي اجتزاء للزمن ومعاندة لسريانه وحتميته، فإن لوحات سمير فؤاد هي تواطؤ مع الزمن الذي يُطِلُ معلناً حضوره في مقابل صفقة يتيح فيها الزمن أن نرى ما لا نراه عادة في جريانه المادي خارج اللوحة، وهو وإن كان زمناً حاضراً، إلا أن حضوره يتوارى خلف المعاني التي عادة ما تُهدر في أحوال مسيرته غير المكرسة عادة، لكنها تترك لنا الحسرات بعد أن يترك الزمن حكمه ولم يعد بالإمكان تفاديه. في لوحات سمير فؤاد تتجاور اللحظات داخل حيز الممكن المتذبذب، والذي ينبهنا دائماً إلى لعبة الزمن الذي يُلهينا باستعراضاته السريعة المبهرة ولا يترك لنا فرصة اليقظة إلا متأخراً.
يواصل سمير فؤاد اهتمامه بالجسد الإنساني، بعد تناولاته السابقة في معرض بعنوان (لحم) منذ عدة أعوام، وفي معرضه الجديد (مقامات) يُعيد معالجته برؤية أخرى في نطاق حركيته؛ فمن الرقص إلى عزف الموسيقى يخوض هذا المعرض في إمكانيات مادتي الصوت والزمن؛ إذ يشكل سمير فؤاد عازفة التشيللو وهي في لحظة ذروتها الإبداعية بكامل معاناتها الشخصية في قصة مرويّة بالحواس يجهر بها فم مفتوح كأنما ينشد مع أغنية تعزفها، وهي تكابد الوصول إلى آفاق العزف القصوى. ذلك أن التكوين في هذه اللوحة يوازي جسد العازفة وشكل آلة التشيللو الذي لا يعدم ملمحاً إنسانياً وسمتاً أنثوياً، ضمن عائلة الوتريات التي تحمل نفس الخصائص من الفيولينة والفيولا إلى التشيللو والكونترباص، وإن كان التشيللو موضوع اللوحة يقف صوتياً أيضاً على الحافة بين الأنوثة والذكورة معوضاً ذلك بعمق وغواية امرأة نضج نضوجها واكتمل كمالها. وتبقى بساطة الألوان مجرد فارق في الدرجات بين جسد المرأة وثيابها وجسد الآلة.
ومن التشيللو إلى البوق، انتقال بمساحة النقلة بين لمسة الوتر ونفخة النحاس. وهنا العازف رجل على الأرجح يطل علينا من أحد جوانب اللوحة المواربة، وكأنه يريد أن يرينا شيئاً. لا يرتدي الرجل ملابس العازفين، ويبدو كأنه يمارس سحراً ما عبر آلته التي يمسكها بحرص في منتصف اللوحة وعلى آخر حدود الرسم المتوغل في الخلفية الفارغة، وبينما تحتل ظلمة قلب الآلة، بؤرة اللوحة تقريباً، تظهر على حافة الفوهة ناحية الفراغ لمعة النحاس كبؤرة مجاورة مضيئة وذات امتداد وهاج.
بين الترومبيت والترومبون والساكسفون يُظْهِرُ الفنان وَلَعَه بالأوركيسترا النحاسية التي على وقعها، أيضاً، تقوم الحروب وتتصارع الأحداث، فتبلغ الدراما مداها والصخب قمته. لكنها أيضاً آلات للبهجة، تذكرنا بفرقة «حسب الله» في شارع محمد علي بآلاتها النحاسية وملابسها شبه العسكرية وهي تحيي الأعراس. وعلى غرار الفرق الاحتفالية يتفانى العازفون في لوحات سمير فؤاد ويعتصرون خلاصات أرواحهم موسيقى سائلة بينما العازف نفسه ظامئ لا يرتوي، مهمش غالباً، ضائع ومحروم من البهجة. وألمهم منفتح على أبعاد إنسانية عميقة وغير محددة ببلد أو فئة أو طبقة. فالجميع في اللوحة يعاني ويكابد مخاض الإبداع الذي يشكل مرادفاً اختيارياً للحياة.
في لوحة زرقاء يحتضن العازف نحاسه ويميل عليه، يهمس له، يبث فيه عشقه ويبوح له بأوجاعه. تبدو الملامح مُشوّشة بفعل الضوء والحركة، والضوء على وجوه موسيقيين يتخذون منه أقنعة لطقوسهم في العزف، وعندما يصل العازف لحظة العزف القصوى، يسقط قناعه وينفلت من جسده. عازف آخر محبوس في جسد ضخم يدل على عبء وحمولة إضافية، وآلته الموسيقية على جانبه تشعرنا بأننا أمام سجين يعزف. وفي لوحة، بين الأحمر الحجري والأصفر الترابي، يعود سمير فؤاد من جديد إلى وَلَعِهِ بالحركة. أجساد مصورة من الجانب كالرسوم الفرعونية، رغم اهتزازها بتأثير الحركة فإنها تبدو كأجساد أنثوية ترتدي ملابس تَشُفُ ما تحتها. لكنها على مَهَلٍ تظهر كما لو كانت حركتها حركة مستحيلة لتماثيل حجرية.
في معرض (مقامات) يتنقل بنا سمير فؤاد بين عازفين وتعبيرات جسدية في لحظات عزف منفرد أو عُزْلَةٍ في أجواء تبدو خالية من أية إسقاطات خارجية، إنها لوحات مكتفية بطقوسها الداخلية وبعوالم أقرب ما تكون إلى حجرات أرواحهم المظلمة أو الملونة بألوان بؤسهم. هم يعزفون ليعيشوا، يعزفون ليأكلوا، ولينفثوا أحزانهم بين الأوتار.
_______
*الدوحة