09-07-2014 01:32 AM
سرايا - سرايا - يكتب بعضنا لمن ماتوا ولا يدري أنّ قرّاءه في المقابر. ويكتب بعضنا لإرضاء معاصريه، حاسباً أنّ في ذلك العظمة، والخلود فيخطئ المرمى. ويكتب بعضنا لأنّه إنْ لمْ يكتبْ يمتْ، وهذا من الخالدين.
بهذه العتبة المقتطفة من أحد نصوص جبران، يستهلّ الباحث التونسي الهادي العيّادي كتابه "خصائص الكتابة عند جبران خليل جبران" الصّادر عن دار سحر- تونس. وهو الكتاب الذي يروم، كما جاء في المقدّمة، الوقوف على مدى ريادة جبران لنهج جديد في الكتابة الإبداعيّة وهي ريادة سعت إلى إنجاز "حداثة أولى" في أدبنا العربيّ الحديث وتأسيس وعي متحرّر يفكّ ويتخطّى "أزليّة المعيار" وفق عبارة "محمد جمال باروت".
ويرى الباحث أنّ تجربة الكتابة عند جبران سبقها تأمّل في مسار اللغة بصفتها أداة إبداع. وكان من نتائج هذا التأمّل الوقوف على قصور اللغة السائدة عن احتضان التجربة الجديدة والإفصاح عن حقيقته. من هنا باتت وظيفة المبدع، في نظر جبران، تتمثّل في إحياء جذوة الابتكار وإعادة الحياة الى اللغة حتّى تصبح قادرة على أن تقول تجربة المبدع الداخليّة وتفصح عن عميق رؤاه. أي أنّ وظيفة المبدع باتت تتمثّل في تحويل اللغة من مؤسسة جماعية واجتماعية إلى لغة خاصة، إلى تجربة ذاتية.
هذا التجديد، في مستوى اللغة، كان، في نظر الكاتب، نتيجة الدّعوة إلى الحريّة في مجال الإبداع، وهو مبدأ أدرجته المدرسة الرومنطيقية في مجال الفنّ، "ففنّ الشعر لا يستطيع التفتّح حقّاً إلاّ في جوّ الحريّة، والشعر قد وعى نفسه بالتدريج ويمكن القول إن الحركة الرومنطيقية تمثّل اللحظة التي نما فيها، للمرّة الأوّلى، هذا الوعي بالذّات".
وقد أطلق الكاتب على هذا الوعي اسم "الوعي الإبداعيّ"، أي وعي التجربة الأدبيّة بما تدعو إليه من مفاهيم جديدة. لذلك نجد، كما قال الكاتب، إضافة إلى التجربة الكتابيّة، نصوصاً نظريّة هي بمثابة البيانات التي تؤسّس الأصول التي ينهض عليها الإبداع. وما على القارئ إلاّ أن يتبيّن الفرق بين ما تزعمه تلك النصوص وبين ما تنجزه الكتابة.
إنّ دعوة جبران إلى تأسيس لغة جديدة متفتحة على العصر، تحمل إيقاعه، وتحتضن أسئلته، ناهضها الكثير من النقّاد لعلّ أهمّهم مصطفى الصادق الرافعي الذي علّق على نص جبران "لكم لغتكم ولي لغتي"، قائلاً: "من يقول في هذه اللغة بعينها لك مذهبك ولي مذهبي. ولك لغتك ولي لغتي. فمتى كنت يا فتى صاحب اللغو وواضعها، ومنزّل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها، من سلّم لك بهذا حتّى يسلّم لك حقّ التصرّف كما يتصرّف المالك في ملكه". لقد نهض الرافعي بدور "الأب الثقافيّ"، على حدّ عبارة الباحث، بما في هذا الدور من صلف وتعال، ومحاولة للحفاظ على الأصول يردّ عنها غوائل الزمن.
كتب جبران في مختلف الأجناس الأدبيّة، موظّفاً خصائص كلّ جنس للتعبير عن تجربته. ففي مجال السرد لم يعتمد جبران مصطلحاً واحداً للإشارة إلى أعماله السرديّة، بل أدرج مصطلحات كثيرة من قبيل حكاية ومأساة ورواية وقصّة، كما لو كانت من قبيل المترادفات. ولا غرابة في ذلك بما أنّ فنّ القصّ، على عهد جبران، كان جنينيّاً، على حدّ عبارة ميخائيل نعيمة، لم تستقرّ بعد قوانينه.
لعلّ أهمّ ما تتميّز به أعمال جبران السردية "إقحام الذّات" التي تسعى إلى توظيف كلّ الصيغ والأساليب اللغويّة قصد الحضور في النصّ وإعلان هويّتها.. واعتماد ضمير المتكلّم في الخطاب الروائيّ عند جبران فيه إخلال بموضوعيّة عمليّة القصّ ذاتها لأنّها تصبح خاضعة لسلطة المؤلّف ولاختياراته.
على أنّ أهمّ ما تميّزت به هذه الأعمال السرديّة إلغاؤها الحدود بين الأجناس، فهي مزيج عجيب من القصّة والشعر والخاطرة والسيرة الذاتيّة... وبانتفاء الحدود بين هذه الأجناس أصبحت كتابات جبران فضاء يستغرق كل أجناس الخطاب وتعتمل داخله نصوص قادمة من أزمنة شتى.
والسمة الثانية للكتابة في نصوص جبران السرديّة ما تتسم به من لون محلّي، فمن "الموسيقى" إلى "عرائس المروج" يمضي جبران يعرض عليك صوراً لبنانيّة ووجوهاً لبنانيّة وقد كان لصلة الكتاب بالمرجع أن نزّل جبران أحداث نصوصه السردية في شمال لبنان ويتّسع الإطار ليصبح لبنان أو سورية أو الشرق في بعض النصوص القصصيّة.
ويلتفت الباحث، بعد ذلك، إلى تجربة جبران الشعريّة متأملاً، على وجه الخصوص، قصيدة "المواكب" التي أرادها جبران بياناً يفصح، من خلاله، عن موقفه من فعل الكتابة. لكنّ هذه القصيدة المطوّلة (203 أبيات) ظلّت، من حيث بنيتها الفنّية، وفيّة للتقاليد الشعريّة التقليدية، فقلّما خرجت عنها ومن ثمّ مثّلت، وفق تعبير الباحث، نقضاً لبعض الأسس التي بلورها جبران في مقاله "لكم لغتكم ولي لغتي".
إذا كان جبران قد خضع في مواكبه لإطار القصيدة التقليدية، فإنّه في مرحلة أخرى من كتاباته قد بحث عن طرق مبتكرة في الأداء، تنشئ شعريّة نصوصه فتجاوز الوزن والقافية وقسّم نصوصه إلى مقاطع ذات إيقاع داخليّ تضمن للنصّ موسيقاه.
اختتم الباحث دراسته بالإحالة على منابت النص الجبراني وقد اختزلها في الموروث العربيّ الإسلاميّ، والتراث المسيحيّ، والفكر المشرقيّ القديم ونصوص الإبداع الغربي... وهذا يدلّ على أنّ الذاكرة النصّية للمبدع متنوّعة الروافد، متعدّدة المصادر. غير أنّ الذات الكاتبة لا تضيع في مسالك هذه المرجعيّات، بل تظلّ حاضرة في نصوصها وتوقّعها بنبرتها الخاصة.