23-10-2014 10:41 AM
بقلم : د. نزار شموط
ها قد انقضى عام هجري , وسيبدأ بحول الله عام هجري جديد , والهجرة هذه المناسبة العظيمة التي كانت بمثابة الانطلاقة الحقيقية لقيام دولة الإسلام وانبثاق شمسه التي أضاءت فضاءات البشرية بعدالته وسماحته ووسطيته .
هذا الدين العظيم الذي جاء خاتمة الأديان ليضع للبشرية الدستور الآلهي الذي أخرجها من الظلمات والطغيان والتخبط إلى النهوض بالإنسان لأعلى مراتب إنسانيته , بتوظيف طاقاته بتكامليه تسعى للتعايش بين أفراده بمحبة وانسجام ومساواة , تحكمهم فيه شريعة ودستور ليس فيه محاباه ، أهدافه واضحة , ونتاجاته كذلك .
كانت هجرة الرسول إلى يثرب ضرورة حتمتها الظروف الصعبة التي مر بها في مكة ، والتي مكث فيها صلوات الله وسلامه عليه ثلاثة عشر عاماً وهو يدعوا الناس للإسلام وبكافة السبل , دون أن يكل أو يمل , لم يثنه عن التبليغ أي وعيد ، طرق كل الأبواب ، وكان حصيلة كل هذا ان آمن معه نفر قليل التفوا حوله ، استخف بهم أهل مكة في بداية الأمر ، إلى أن تيقنوا ان هذه الثلة من المؤمنين بدأت تزداد حول نبيهم ، ووجدوا أنفسهم أمام رجل آخر يحمل دعوة مختلفة , وكتاب يتلى ، هالهم الأمر عندما صرح النبي وأصحابه بمحاربتهم للوثنية وعبادة الأصنام وتسفيهها , فكان التضييق والتعذيب للنبي وأصحابه , مما استدعى الهجرة .
الهجرة هذا الحدث العظيم الذي اتخذ له النبي صلى الله عليه وسلم كل الأسباب التي تضمن نجاحه . بدءاً في إعداد المكان الذي سينزل به هو وأصحابه , بتوثيق عرى العلاقات مع أهل يثرب بإرساله داعية موثوق بكفاءته وصدق إيمانه لنشر الدين وجذب الإتباع هناك .
وهذا ما حدث ، فكان هؤلاء النفر ممن أنار الله طريقهم بالهداية من أهل يثرب النواة الداعمة لقيام دولة الإسلام ، فبعد ان استوثق النبي من رسوخ إيمان هؤلاء , كان توقيت الهجرة , وبعد تعهدهم بحمايته والدفاع عنه , وذلك في بيعة العقبة الثانية فكانت رحلة الهجرة التي تعتبر من اجل ما عرف تاريخ المغامرة المدروسة في سبيل إظهار الحق وترسيخ العقيدة والإيمان وتأدية الأمانة بقوة وحنكة وروية ، كانت بكل تفاصيلها تنم عن تخطيط ودراية وتكتيك وسرية من قائد عظيم اختاره رب البشرية لحمل رسالته الى الناس كافة .
وصل الرسول صلى الله عليه وسلم يثرب يوم الإثنين 12 ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة الموافق 24 سبتمبر 622 ميلادي ، وكانت يثرب حينها عبارة عن واحات متفرقة في سهل فسيح تسكنه قبائل الأوس والخزرج ومجموعات من اليهود ، ولم تكن بذلك تمتلك مقومات المدينة .
بدأ الرسول بتنظيم العمران ، وشق الطرقات , وكان المسجد هو محور هذا التنظيم لأنه كان بمثابة مقر الحكم الذي تقام فيه الصلاة ، ويتم فيه التخطيط والمشاورات , وحتى استقبال الوفود ، ولمكانة المسجد انتظم حولة العمران في المدينة .
بعد ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلم على توحيد الصف في المجتمع ، فأصلح بين الأوس والخزرج ووحدهما في اسم واحد هو الأنصار ، ثم آخى بين المهاجرين ، وكان مفهوم الأخوه يطلق لأول مرة في الجزيرة العربية بعيداً عن القبلية التي كانت تسود ، فكان كل رجل في المهاجرين يؤاخي رجلاً من الأنصار ، له ماله وعليه ما عليه .
بعد ذلك كانت الصحيفة وهي بمثابة الدستور الذي وضعه الرسول لتنظيم شؤون الحياة في المدينة ، وتحديد العلاقات بينها وبين جيرانها ، فكانت هذه الوثيقة عبارة عن خلاصة مناقشات ومشاورات الرسول مع أصحابة من المهاجرين والأنصار وغيرهم . وما استقروا عليه من رأي وأصبحت دستوراً يحكم الجماعة حينها إلى أن أصبح القرآن بعد أن اكتمل نزوله هو دستور هذه الأمة. ومن المعروف أن الدول تبنى ثم تضع دستورها ، إلا إن الدولة الإسلامية عملت منذ أنشأها على وضع دستور مكتوب يحكم أمورها قبل أن تصبح دولة .
كل هذا أدى إلى قيام جماعة متحابة متماسكة متآلفة ، استقطبت بصورتها المشرقة عدد كبير ممن دخلوا في هذا الدين ، حتى ان الناس اقبلوا على المدينة من الامصار المحيطة بها طلباً للعدل والآمان في ظل الإسلام الذي جاء ليساوي بين الناس فلا فرق بين سيد وعبد اسود وابيض ، غني وفقير إلا بالتقوى .
أردت فيما تقدم أن أسلط الضوء على بعض مجريات الأحداث للهجرة بهدف استنباط بعض المعاني من هذه الحادثة العظيمة ، فالهجرة ليست واقعة زمنية أو حركة تاريخية فحسب وإنما هي حركة إيمانية دائمة شاملة المعاني , فالدروس التي نستخلصها من الهجرة , ودخول عام هجري جديد , ليست احتفالية بقدر ما فيها من تذكير دائم لهجرة الإنسان من الباطل إلى الحق ومن وثنية الغرائز إلى سمو المشاعر وصفاء الروح .