16-11-2014 10:48 AM
سرايا - سرايا - يقدم القاص والباحث نايف النوايسة مشروعاً ثقافياً مشرعاً على الأفق، يحاول من خلاله إعادة الاعتبار للمكان والزمان عبر سلسلة من الانجازات الإبداعية التي تسهم في تخصيبها بيئة إبداعية انحاز لها النوايسة منذ لحظة وعيه الأولى.
القاص الذي صدرت مجموعته الأخيرة بعنوان: «الشمس من جديد» ضمن مشروع التفرغ الابداعي، نضج معجمه القصصي واستوى، وهرس في مرجله مراحل عمرية وألوان إبداعية ومستويات فكرية وبحثية ارتقت بمستواها الجمالي حتى استقام.
يحمل المبدع النوايسة وجهة نظر تتوارى أحيانا خلف لحظة إبداعية يلتقطها، أو تظهر جلية في دراسة أو بحث أو نقش.
أثرى النوايسة المكتبة العربية بالعديد من الدراسات والأبحاث، وعمق المشهد الإبداعي بمجاميع القصصية ومقالات أدبية.
تاليا الحوار:
«مربعة السوق» هو المكان الذي يرغب النوايسة في إعادة استنبات الشمس التي غابت رغم شدة العتمة والغباش، إلى أي حد يلعب المكان دورا في صياغة وعينا وإعادة إنتاجنا؟
أتجاوز شرط المكان في بناء القصة وانظر فيه كعنصر مهم من ركائز المعادلة الحضارية، فهو الحاضن لحركة الإنسان كعنصر رئيس، والإطار الذي يضم شتات الزمن، لنتصور أن مكاننا الأول (الأرض) بلا جاذبية، فأين يقع الفعل الإنساني؟ سيكون من المحتم مقذوفاً في الفراغ وهذا ما ينافي شرط التكليف الذي حُمّله الإنسان منذ كان، وهي مسألة رياضية في قياساتها المنطقية وقضية فيزيائية كيميائية في تفاعلاتها المختبرية، أي أن الرمز الرياضي في الإنسان والتفاعل الفيزيائي والكيميائي في حركة جسمه النامية تحتاج جميعها إلى حاضن، والإنسان هو جماع ذلك طيناً وتشكيلاً روحانياً عاقلاً..
ولنتصور أيضاً أن الإنسان يموت بطريقة لا يرجع بها إلى الأرض (المكان/التراب) حتى لو كان رمادا أو هباباً متناثراً في السماء، فإننا سنعاني منذ كنا من جثة أبينا آدم عليه السلام مهما كانت درجة محبتنا لأحبابنا، ومن هنا أتمثل ما ورد في المثل المشهور: نظير الشيء منجذب إليه، وهي مسألة معروفة أيضاً في المختبرات العلمية والمنطق الرياضي.
(مربعة السوق)، هي كائن ينبض بالكلام والصمت، يتحرك بالإحياء والأموات، هي منبر للشهود الذين جاءوا حاملين رؤاهم ودماءهم وأرواحهم، مثلما هو ملتقىً لكل غريب، ونافذة مُطلّةٌ على الحراك الإنساني اليانع.
(المربعة)، مكانٌ استثنائي يتوالد فيه الحدث ويعظم، وينتعش بين يديه الزمن ويصبح كل من يدب فوق المربعة شخصيةً للقصة، بمعنى أن هذا المكان هو ناظم للرؤيا ومحركها، سواء أكان المكان المربعة أم المسجد أم الدار القديمة أم السجن أم....
في تقديري المكان ليس معزولاً عن الإنسان الذي يعيش فيه، والحديث عن المكان هو بالضرورة حديث عن الإنسان الذي يُعيد إنتاج نفسه أو ترتيب عالمه في هذا المكان من خلال أحداث يعيشها أو يتخيلها.
حينما رسم بيكاسو لوحته الشهيرة (الجورنيكا) وعرّى النازية بأفعالها البشعة في اسبانيا، طاردته السلطات المتواطئة مع النازية في كل مكان، واستمرت المطاردة على مساحة أوروبا بكاملها ذلك لأنه جعل المكان هو الحاضن لرؤاه ومُؤشِّراً والفاضح لفظائع النازية مهما كانت درجة الغموض في مدرسته التكعيبية.
المربعة، كانت وما زالت شاهد عصرٍ ومبتدأ جملة وإصبعاً ممدودة حين تغيب الأيدي خوفاً ورهباً.. هي عندي بطلة القصة وشخصيتها الرئيسة.
الإنسان المكابد والقابض على وجع الوعي والذي يتحرك على صفحات مجموعتك، من هو؟
هو الإنسان المسكون بالأسئلة، القلق الذي يظن أن السعادة كامنة بانتظارها، وان السُّلّم الصاعد إلى سقف الحرية والكرامة والعقل لا يقوى على الصعود من خلاله إلا من ملك مقاماً في المعاناة وتجرع من كأس المكابدة حتى ارتوى، الإنسان الذي يتحرك في قصصي هو منبثق من عمق المواجهة لحياة فضلى تحقق له وللإنسانية شروط البقاء الأمثل، والفعل الانساني المُجدي، والوعي المدرك الفاهم.
حينما تُلحّ عليّ فكرة ما وأرى أن اتجاهها صوب القصة فإنني ابحث لها عن أمرين مهمين هما الشخصية القادرة على حمل أعباء هذه الفكرة، وحدث يتناسب مع الفكرة والشخصية، قصتي تتحرك بين هذه الثلاثة وفي إطار زمني معقول وحاضن مكاني مناسب.. الإنسان عندي يحمل رسالة يرتبط فيها القول بالفعل من غير مواربة أو تردد، لأن الإيمان بالقضية المصيرية عند من أبتليه بحمل أعباء رؤيتي لا يجعل أمامه خياراً واحداً لوجهة نظر مغايرة، من هنا أرشح شخصيات قصصي لتكون مشاريع استشهادية فذة كما ظهرت في البحث عن الشعاع الحائر ومربعة السوق وإصبع على جرح غائر والمفتاح وقصة يا عبيد..
بمعنى، أن قصصي تخلو من لذاذة الترف وتجنح إلى التغيير الايجابي مهما كلفها هذا من ثمن، ولا تموت شخصياتي كأشياء مهملة تُلقى على أطاريف الطريق وإنما تظل واقفة كالأشجار العظيمة وتموت وهي كذلك.
تقنيات الزمن الجلية في مجموعتك تزيد من قلق وعمق أسئلتك.. كيف ربط باحث التراث بين الماضي والحاضر ليختصر الحياة بومضة زمنية؟
الزمن في قصصي عنصر رئيس لا تقوم القصة بدونه، وهو متوافق مع المكان لاحتواء الحدث وإبراز الفكرة بالقدر الذي يساعد على تنامي الشخصية، والسؤال الذي اطرحه على نفسي دائماً كلما هممت بكتابة قصة هل تعاقب الشمس والقمر زمنياً ليس له بصماته على المعاني التي تتوالد عند الخَلْق؟ هما بحسبان ونحن نرسم مواسمنا على محفة المنازل والدوائر الزمنية التي تكون من هذا التعاقب، ولأن ذلك شديد الصلة بتراثنا وماضينا الغاطس بالتراث والمأثورات فإنني تنبهت إلى غزارة هذا المأثور الذي يتقطّر كالندى على نصوصي.
واختصر الماضي من آدم عليه السلام حتى هذه اللحظة بزمن نفسي يتعاقب هو والمكان على كشف المستور من فكرة متوارية في نفسي؛ فالمساحة الصوتية لعبارة (الله حي، الله حي) هي في الزمن المعياري لا تتجاوز الثانية ولكنها في المكاشفة الصوفية حالة استغراق تذهب إلى عدة قرون حملت على عاتقها سقفاً حضارياً عتيداً، من هنا وجدت ثراءً وغنىً في تراثنا بزمنه الممتد على عمقٍ مكانيٍ واسعِ السيرورة، فاستغرقت به درساً وأبحرت فيه متوغلاً لأحظى بلؤلؤة من لآلئه على هيئة ومضة قصصية.
هل يمكان وصف المشروع الإبداعي الأردني «بالعرج» لغياب الوعي بأهمية النقد، أين النقد من فعلك الإبداعي على مدار سني وجعك المثقل بطين الجنوب؟
في البدايات - وكنت في مركز الفعل الثقافي،عمان - عانيت كثيرا من لسعات النقد الأصفر الذي ينتح من حوض غير أدبي، أو من زوايا مظلمة تتشكل من النقد الشللي أو المناطقي أو من سطوة السياسي على الثقافي وما زلت، ومن شأن هذا النقد أن يأخذ من الواقع بعضه ويعكس من الصورة جزءاً من مكوناتها، وبالتالي تظهر ملامح غير مكتملة من واقعنا الثقافي ويبرز على الساحة الأدبية على وجه الخصوص (محظيون) من الأدباء قدمهم النقاد الأصدقاء ولم تسعفهم نصوصهم وكتبهم بالاحتماء الكامل تحت مظلة النقد الموضوعي المنصف، بمعنى آخر برز في ساحتنا الأدبية الكثير من (الأشباه)، ولم يستطع النقد الأصفر تغييب الأقلام الجادة.
في السنوات الأخيرة من مشواري الإبداعي حظيت ببعض الاهتمام بكل مستويات النقد، في الصحافة والمجلات والندوات، وتُوّج ذلك بأطروحتَيْ ماجستير لطالبين في جامعة مؤتة والجامعة الأردنية، الأولى كانت سنة2004 وعنوانها (نايف النوايسة أديباً) للطالب خلف الفقرا، والثانية كانت سنة 2013وعنوانها(التشكيل الفني في قصص نايف النوايسة) للطالبة ريم زيغان، فضلاً عن بعض الأبحاث والدراسات حول قصصي ومجموعاتي في سوريا والمغرب وغيرهما..
مبدعو الأطراف، إلى متى هذا التجاهل من المؤسسة الرسمية المعنية بدمجهم في المشروع الثقافي للدولة في ظل ما نرى من مشاريع ثقافية عابرة وقاتلة في آن؟
طُرحت قضية ثقافة الأطراف منذ زمن بعيد إما بمواجهة المسؤول مباشرة أو عبر الصحافة، ومن المؤكد أن هنالك فجوة كبيرة بين ما يتم تعاطيه في المركز من قرارات أو نشاطات ثقافية، وما يقوم به مثقفو الأطراف من نشاطات، وتكمن الفجوة في ضعف ما يُقدم في المركز من منتوج ثقافي (أحياناً)، وقوة المنتوج الثقافي في الأطراف، واتضح لي ذلك من مشاركاتي في المركز والأطرافكما يمكن القول إن التغطية الصحفية والإعلامية غير المتوازنة بين الجهتين، فما يُكتب عن النشاط في المركز فضفاض (أحياناً)، أما الأطراف فلا تحظى إلا بخبر متواضع، وأما التغطية التليفزيونية فهي اقرب إلى الأمنية.
وأقول إن المؤسسة الثقافية الرسمية غارقة في المركزية ، وهي مؤسسة المدينة/الدولة بامتياز، أما الأطراف فهي في عرف هذه المؤسسة زيادة في كل شيء، وقد كشف مشروع المدن الثقافية عن الضعف الشديد في تواصل المؤسسة الثقافية مع الأطراف البعيدة إلا من بعض الاستثناءات.
لكنني أقول أيضاً إن النقلة التكنولوجية الهائلة في وسائل الاتصال والتواصل ضيقت من أزمة التهميش التي يعاني منها مثقفو الأطراف، فنتاجاتهم الآن مطروحة بقوة من خلال المواقع الاليكترونية ووسائل التوصل الاجتماعي، وهذا ما يجبر المؤسسة الثقافية على ضرورة النظر في استراتيجياتها وبناء خططها، حتى لا تصبح هذه المؤسسة عبئاً على الثقافة والمثقفين.
مشروع التفرغ الإبداعي..هل ترى ضروروة إعادة النظر في تعليماته ليغدو أكثر نضجا وأكثر فعالية؟
مشروع التفرغ هو واحد المشاريع المهمة التي أنجزت في زمن وزير الثقافة الدكتور عادل الطويسي، وفي تقديري انه وُلد ناضجاً وقد كانت الأعمال الإبداعية الصادرة ضمن هذا المشروع هي أعمال كبير وتستحق التثمين، لكن تعاقب الوزراء على هذه الوزارة جعل من المشاريع الثقافية ميداناً للأخذ والرد والاجتهاد ومحاولة التغيير، ولا ضير في ذلك إذا كان الأمر يتجه نحو الأفضل.
إلى أن جاءت الوزيرة الحالية وجمدت مشروع التفرغ الإبداعي إلى حين حتى يتم التوصل إلى صيغة جديدة من شأنها خدمة الثقافة والمثقفين، ولا أعلم حتى هذه اللحظة شيئاً عن مراحل ولادة هذه الصيغة.
أما وجهة نظري فهي ضرورة الإبقاء على هذا المشروع وتوزيع الاستحقاقات المادية مناصفة في كل حقل، وحماية المشروع بمأسسة يُتفق عليها حتى لا يكون عُرضة لآراء هذا الوزير أو ذاك.
ما هو مشروعك القادم على صعيد الإبداع والبحث والتوثيق؟
أقوم الآن بإعداد المسوّدة الأولى لمجموعة قصصية جديدة، وقد تحمل عنوان إحدى القصص (ربيكا..)، لكنني لم احسم موضوع العنوان حتى الآن، كما أنجزت من زمن بعيد مسرحيتي (مواطن من صنف ثانٍ)، ومن زمن قريب أنجزت مسرحيتي (لوجه الله)، وكلا المسرحيتين ابحث لهما عن ناشر، ولدي الآن كتاب (السجل المصور للواجهات المعمارية التراثية في الأردن/قسم الطفيلة)، وهو واحد من سلسلة موسوعة السجل المصور للواجهات المعمارية التراثية في الأردن وقد طبعت منه قسم الكرك وقسم معان.
وأنهيت قبل سنة الجزء الثاني من كتابي (نقوش على كف الأقحوانة) وهي مقالات كتبتها في الصحف المحلية.
وحالياً اشتغل على معجم لأدباء الشعر الشعبي السعودي، وقصة هذا المعجم هي أنني أردت نشر دراسة في إحدى مجلات التراث عن الشعراء الشعبيين التي وردت شواهدهم الشعرية في معجم اليمامة للمؤرخ السعودي عبد الله بن خميس، وحينما وجدت أن ما توافر بين يدي يتجاوز حدود الدراسة آثرت تعميقها منهجاً ومادة لتكون معجماً يشمل اكبر عدد من هؤلاء الشعراء.