17-11-2014 10:25 AM
سرايا - سرايا - يتوخى هذا الحوار مع القاص عدي مدانات أن يقيم جسراً بين الروّاد والمبدعين الشباب؛ انطلاقاً من حاجة الشباب المبدع إلى ضوابط ينطلقون منها باتجاه الإبداع. استندت المناقشة إلى كتاب مدانات (فن القصة: وجهة نظر وتجربة)، بصفته بحثاً في القصة القصيرة، منابعها وذخائرها وآلياتها وشروطها، يشكّل مادةً ثقافيةً لرواد القصة في توجيه الشباب.
يدعم تنظير مدانات للقصّ في الأردن أنّه من روّاد هذا الفن، وأنّه يمكن أن يضعنا في صورة هذا المنجز في سياق ريادته ومطمح تكريسه فناً أصيلاً، للإجابة على السؤال: هل تستوعب القصّة براكين الشباب المعبّر بكلّ اتجاه؟!. إذ يسخط كثيرٌ منهم على جيل الروّاد في لغته وضوابطه، وربّما في سيره الرتيب، في سبيل البحث عن الانزياحات في عالمٍ محمومٍ بالسياسة، على الأقل.
يتطرق الحوار، أيضاً، إلى موضوع تعدد الأيديولوجيات في خدمة القصّة، بصفة مدانات صاحب مذهبٍ، ويكتب القصّة، كما نقرأ شروطه في الواقعيّة الجميلة هدفاً اجتماعيّاً ومدرسةً فنيّة، لنستشرف إن كان في (اللغة) ما يفجّره، أو يخرج به عن جلده أو عليه في تقنياته؛ إذ يتنافذ كثيرٌ من أدبائنا على السحر الجديد.
وعن أحدث إصداراته القصصية نناقش مع مدانات توسّع قاعدته الإنسانيّة وهو يضيف إليها المجموعة (أنا والآنسة ازدهار).
تالياً الحوار:
هذه الأسئلة وضعتني في حيرة من أمري، ولو صح فهمي لقلت إن سياقها يهدف أن أقيم جسراً معرفياً يردم الهوة بين جيل الكهول والشباب، الذاهبين في أكثر من اتجاه، وربما الساخطين على جيلنا كما وصفتهم، لانعدام هذه الصلة وفقدان البوصلة، وهي حال مريعة لا أعرف من المتسبب فيها، أهم الكهول الذين يترفعون عن التواصل مع الشباب، مستصغرين أمرهم، أم الشباب المعرضون عن اقتفاء أثر من سبقوهم، مكتفين بما لديهم من معرفة. من جهتي أقول لك بصدق إن هذه الفجوة أو الهوة موجود حقاً ولا ترضيني، ولقد عملت جاهداً للتواصل مع الشباب، سواء من المقبلين على كتابة القصة القصيرة، أو الشارعين فيها دون جدوى تذكر، ما جعلني أكرّس وقتاً ناف على السنتين في تأليف كتابي الموسوم في «فن القصة وجهة نظر وتجربة»، قدمت فيه معرفتي وخبرتي وتوجيهاتي لك ل من يريد أن يفضّ سر هذا الفن الصعب والفاتن. أردته كتاباً لا يقف عند حدود التعريف بفن القصة القصيرة وذكر آلياتها، إنما يتجاوز هذا الحد القاصر ليدخل في معمعان القصة، إرهاصتها، مصادرها، الطريق إليها، آلياتها، ثم مباشرة كتابتها بفطنة. إنّ مهمة إعادة الروح للقصة القصيرة مهمة نبيلة وضرورية لأن هذه القطعة الوجيزة الفذة من الفنون الإبداعية، الأكثر شيوعاً وإشعاعاً، تستحق منا جميعاً كهولاً وشباباً هذا الجهد.
إن التوجه للشباب لتقديم مشورتي في فن كتابة القصة هي مهمة نبيلة ومشرفة، وقد راودتني الرغبة منذ زمن بعيد، وما تزال، في إقامة جسر يجمعني إليهم، فكان هذا الكتاب الذي ضمّنته ما تجمع لي من خبرة وحشدت له ما أمكن من مصادر تتصل بالموضوع وتغنيه، وعنيت بشرح الوسائل التي تساعد في انتهاج الطريق إلى فن القصة، والوسائل التي تؤدي إلى اكتناز المعرفة الضرورية التي من شأنها أن تنهض بهذا الفن، وتجعل منه قطعاً فنية تنبض بالحياة، ما دام أن الحياة هي موضوع القص. القصص التي تخلو من نبض الحياة هي قصص جوفاء باهته، والطريق إلى إشباعها بالحياة يتوقف على معرفة الحياة نفسها لا تخيلها، والطريق إلى معرفتها يتأتى عن طريق تنمية قدرات العقل مجتمعة، فلقدرات العقل وظائف تخدم القاص إن عرف كيف يفيد نفسه منها، وقد بيّنت على نحو مفصل مزاياها وكيفية تفعليها والاستفادة منها.
كتابي في فن القصة مقسّم إلى فصول، ويقترب من الثلاثمئة صفحة، يبدأ بمقدمة تتحدث عن نشأة اهتمامي بفن القصة ودوافع اهتمامي بها، ووازعي لكتابتها، ثم ولوجي إليها، وهي مقدمة ذات خصوصية، يمكن للقارئ أن يقف عندها لبعض الفائدة، أو يتجاوزها دون الإخلال بمتن الكتاب.
يستهل الكتاب البحث في قدرات العقل، وهو بحث مفصل، يأخذ ما يقارب نصف صفحات الكتاب، لأن الإلمام بهذه القوى العقلية التي تولد مع الإنسان وتنمو وتتطور مع تقدمه في العمر واكتسابه من التجارب الحياتية له دور ريادي لا غنى عنه في إثراء قدرته الإبداعية. ليس استهلالي الكتاب ببحث طبيعة قوى العقل ووظائفها ومزاياها ترفاً زائداً بل يدخل في صميم فن كتابة القصة. يتناول الكتاب بالشرح والتفصيل وظائف قوى العقل أو قدراته المنتجة للمعرفة واحدةً واحدة، ولا يبخل في البحث عن وسائل تغذيتها ومرانها، لتؤدي وظائفها على أكمل وجه، ليأتي الكاتب للفن القصصي ولديه معين غزير، من شأنه أن يؤهله ليحسّن مادته القصصية، ويشبعها بما يغنيها. البحث في قدرات العقل والتعريف بوظائفها باب رئيس من أبواب ثقافة كتابة القصة، أحسب أن لا أحد من قبل، ممن كتبوا في فن القصة، فطن إليه. إنّ كتابة القصة وظيفة إبداعية، وكغيرها من الوظائف يحتاج مريدها إلى معرفة المواد التي تدخل في صناعتها والأدوات والتقنيات المناسبة، فلدى الإنسان في دماغه غدد تتولى عملية التفكير والتحصيل المعرفي والجمالي والخلق يطلق عليها قوى العقل أو قدراته أو خصائصه، وهي قابلة للرعاية والتدريب والصقل وتنمية مفاعيلها، وهذه شروط ضرورية للنجاح في كتابة القصة، وأنا لم أكتفِ بتعدادها وذكر مفاعيلها بل أضفت من لدني وتجاربي ما يجعلها فاعلة في ميدان القصة القصيرة. ولا أشك للحظة أنّ من يأخذ موضوع هذا الباب باهتمام كاف سيلمس الفائدة المرجوة من تطوير قدراته العقلية وإنعاشها، وهو ما يجعل من مادته القصصية طيّعة الأداء، ثرية المضمون وافرة الجمال والكمال. إنّ استيعاب قوى العقل ومفاعيلها يعطي الكاتب الشاب مكنة جديدة ومفيدة من شأنها أن تشبع قصةً بمادة الحياة، ومن يتشبع من الحياة يسهل عليه التعبير عنها بفنه الفصصي.
الوعي
تقوم قوى العقل، أو خواصه، أو ملكاته، أو قدراته، بالوظائف الأساسية التي تشكل بمجموعها الوعي، وهي تنشط وتتفاعل وتغذي الواحدة منها الأخرى، فتزدهر وتتكامل ويتعاظم فعلها. وتشمل هذه القوى: الانتباه، والمبادرة، والذاكرة، والخيال، والمخيلة، والفكر والتفكير، والمزاج، والطبع، والخلق، والذائقة الجمالية. هذه القدرات تولد مع الطفل وتنشأ وتقوى ويتعاظم فعلها بالرعاية، شأنها في ذلك شأن وظائف الجسد الأخرى. وسأتناول التعريف بهذه القوى بأكبر قدرٍ من الإيجاز تاركاً للمهتم العودة لكتابي لطلب المزيد. لقد ثبت مع كل قوة عقلية أصلها اللغوي، كما ورد في معجم محيط المحيط للمساعدة.
الانتباه
الانتباه لغة: نبه من نومه نبهاً قام واستيقظ، وللأمر: فطن إليه، فالنبه: اليقظة والفطنة، وهو فاعلية عقلية إدراكية تتعاظم بالممارسة والمران والنضج تساعد في الخروج بالوعي من رحم الذات إلى الظواهر الكونية والاجتماعية، بكل أوجه تجلياتها.
أحسب أنّ المعنى القاموسي وحده كفيل بتأدية المراد، غير أنني لم أكتفِ، فقد كتبت ما يزيد على الثلاثين صفحة لأظهر الفائدة المرجوة من إعطاء الانتباه حصته الوافرة من البحث، ولأوجّه عناية الشباب القاصين لأهمية تعظيم انتباههم، لكل ما يحيط بهم، من صغيرة وكبيرة، حتى يأتوا الكتابة القصصية وجبعتهم مليئة بما يخدم القصة، فالتفاصيل على وجه التحديد تقرّب الصورة وتجعلها ماثله أمام القارئ. الإنسان العادي لا يشغل نفسه بتفاصيل ما يراه، فلا فائدة ترجى له من حشد تفاصيل وأشكال وألوان وقسمات وجه، أو انفعالات جسد هو ليس بحاجة إلى الاحتفاظ بها. أما كاتب القصة فهذه مادة للكتابة القصصية وهي نسيجها، وكلما عظم مخزونه وكثر، سهل عليه أن يقدم أشخاص قصته بكامل التفاصيل التي تقرب صورهم للقارئ.
المبادرة
المبادرة لغةً من بدر إليه يبدره بدراً، وبدوراً: عاجله، والأمر إليه: عاجل واستبق، وبادر إلى الأمر مبادرة وبادر أسرع. المبادرة تلي في الأهمية الانتباه، وهي التوجه إلى الشيء بغرض تركيز الانتباه إليه، إذ لا يكفي القاص أن ينتبه إلى ما يصدف أن يراه، إذا ربما ما لم يره، وهو موجود في مكان آخر، أكثر فائدة له. السعي لزيادة المعرفة يكسب القاص طاقة لا تنضب، ويوفر له مخزوناً معرفياً يلبي حاجته كلما ألحت عليه. فلينزع القاصون الشباب عنهم كسلهم وليتحركوا في كل اتجاه يخدم كتابتهم، ليستكتشفوا عميم فائدة سعيهم. لا غنى عن القول إنّ متابعة قوة الانتباه ينتهي إلى ثباتها، وثباتها يدفع إلى المبادر لرؤية وتصفح ما ليس تحت النظر، ولكنه موجود على مسافة أخرى وفي موقع مختلف، ما يضيف إلى انتباهه قائمة جديدة من المعارف.
الفكر
فكّر في الشيء لغة: أعمل النظر فيه وتأمله. والفكر تردد القلب بالنظر وتدبر المعاني. من هنا يكتسب الفكر أهميته بوصفه هذا، فهو قدرة عقلية، وأخاله قائد القدرات العقلية كلها وراعيها وله عوائد وثمرات عملها، وهو يتحكم فيها ويوجهها نحو المزيد من الحصاد المثمر، فهو ينهض بالانتباه ويقود إلى المبادرة ويغذي الذاكرة وينعش المخيلة ويفتح أبواب الإبداع على مصراعيها. من غير إعمال الفكر على وجهه الصحيح تذهب كل نشاطات قوى العقل شططاً. لا يستقيم الحديث عن قدرة التفكير في حساب صحة أو خطأ ما ينتج عنه، دون الإشارة إلى نمطي التفكير: المثالي النظري، والجدلي العلمي المادي، فعلى انتهاج أي منهما تتوقف صحة النتائج المرجوة، فهما اتجاهان متعارضان تترتب على انتهاج أي منهما نتائج متعارضة. قد يسأل سائل: ما علاقة هذا بالقصة القصيرة موضوع البحث؟ فأجيب أن كتابة القصة شأنٌ إنساني كما هو إبداعي، فكيف يختار الكاتب مواد قصصه وشخوصها إن لم يكن له منظوره الفكري الذي يوجهه الوجهة الصحيحة التي تبقي نظرته مسلطة على الواقع، فلا تنفصل عنه وتسبح في الفضاء. كاتب القصة ضمير أمته وضمير الإنسانية جمعاء، وبهذه الصفة تحمل قصصه هموم الإنسان، فإن حيّد موقفه، غير مبال بإشكالات حياته وهمومه وأحلامه، فمن أين يستمد فكره وأين يوجهه؟!
الذاكرة
الذاكرة لغة: قوة في الدماغ تذكر ما تدركه القوة الوهمية وتحتفظ به، وقد قالوا إنّ مكان هذه القوة الرأس.
في باب الإبداع القصصي الذاكرة مستودع المواد المحفوظة المتراكمة التي يحتاجها القاص، حيث تخزن المشاهد والصور وكافة التفاصيل لاستدعائها عند الحاجة والطلب، وهي شديدة الذكاء في ما يرد إليها وتحتفظ به، فهي ناظمة لما تحتفظ به تبعاً للتشابه أو الارتباط أو التعاضد آو التزامن، فالذكريات تهلّ تباعاً في اللحظة الواحدة عند استدعاء إحداها، ما يتيح للكاتب اختيار تلك التي تمنح كتابته أثراً أمضى. يتجمع في الذاكرة ما يقدمه لها الانتباه، وما تجلبه المبادرة، وكلما اغتنت الذاكرة عظمت خدمتها. تقوم الذاكرة بعملية تمحيص ذكية، فهي تحتفظ بالطيبات بلطف وحنو، وتضيف إليها من جنسها، ما يأتلف معها، وما يجعلها تهلّ على النفس على هدأة. الذاكرة معين لا ينضب للقاص، إذ أن شواهده الحاضرة قد لا تفي بالغرض، فإذا عاد إلى الذاكرة وطلب أن تمده من مخزونها بما يساعد في إيضاح الصورة أو تجميلها، فإنها ستلبي طلبه طوعاً.
الخيال
الخيال لغة: خال الشيء تخيله وخِيلاً وخالاً وخيلاناً ومخيلة ومخالة وخيلولة، وهو من أفعال القلوب. الخيال: الظن والوهم، وما تشبّه لك في اليقظة والحلم من صور. وهو عند الحكماء قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غيبوبة المادة، فهو خزانة الحس المشترك. وهو في الاستعمال الإبداعي القدرة على خلق عالم متخيل مستمد من الواقع في صوره ونسيجه وفي علاقاته الداخلية والقوانين التي تنظمها.
المخيلة لغة: القوة العقلية التي تخيّل الأشياء وتصورها وهي مرآة العقل. يقول د. شاكر عبد الحميد في كتابه «الخيال» إنّ المخيلة أو المفكرة تتولى استعادة صور المحسوسات المختزنة في الخيال أو المصورة، لكن وظيفتها لا تقتصر عل الاستعادة فقط، وإنما لها وظيفة ابتكارية مميزة، فهي تأخذ الصور المختزنة في الذاكرة وتعيد تشكيلها في هيئات جديدة..
الإرادة
الإرادة لغة: هي المشيئة، وهي طلب الشيء لذاته، وهي العزيمة. عزم الأمر وعزم عليه، أراده وعقد ضميره على فعله.
من يمل بطبعه نحو الخلق والإبداع ينبغي أن يتحلى بفضيلة الإرادة وتشديد العزم على تحصيل كل ما يحتاجه ويلزمه، لتكون ذخيرته المعرفية كافية لينجز ما يقدم عليه بكفاءة وإتقان. نأخذ مرحلة الطفولة، حيث يكتب الطفل أو يرسم ما يطلب منه مقلداً المادة التي تقدم إليه. يفعل ذلك عن إرادة وهذا صحيح، غير أن الإرادة هنا مسيرة، أما الشخص الراشد، متحرر الإرادة، فيختار بإرادته الحرة امتهان وسيلة التعبير التي انجذب إليها بمزاجه ثم تفكيره. قد يهمل الراشد طلب المعرفة وينصرف عن تحصيلها، مكتفياً بالقليل وتقبّل السائد منها، ويعمل غيره عن إرادة ووعي على تنمية معارفه، ويبذل في سبيل ذلك كل جهد ممكن ما يجعل إرادته مثمرة. الإرادة تتداخل مع الوعي وسعة الإدراك والوعي والإدراك لا يقفان عند حد، وكلما عمل الراشد على تقوية إرادته، سهل عليه اجتياز الصعوبات وزاد في محصول معارفه.
المزاج
المزاج والذائقة والطبع: المزاج لغة: كيفية متشابهة، يحصل من تفاعل عناصر متصرفة الأجزاء. الذائقة لغة: قوة منبثة في العصبة البسيطة على السطح الظاهر من اللسان، من شأنها إدراك ما يرد إليه من الطعوم. الذوق: مصدر الذائقة وهو من الحواس الخمس الظاهرة، وهي تعرف في الأصل بالطعوم، والطعم قد يكون مادياً أو معنوياً، ويشمل الذوق ما يتعلق بلطائف الكلام وأوزان الشعر.
تعابير المزاج والذائقة والطبع والسجية مجتمعة تأتي في سياق معاني الجمال، واللطافة، والرهافة، والميل، والإيثار، والانجذاب. يندرج الطبع في المزاج، والمزاج الإبداعي ينتج ذائقة جمالية والذائقة الجمالية تنتج إبداعاً جميلاً.
الخلق لغة: خلق الشيء لغة أوجده وأبدعه على غير مثال سبق، فهو فعل يتصف بالرفعة والسمو.
المعنى اللغوي يلبي على أكمل وجه كل متطلبات التعريف به لغرض موضوعنا، فهو خلق مبتكر في الأساس باستخدام المواد الأولية في تراكيب مستحدثة تخدم أغراضاً مفيدة في الاستعمال، أو جميلة لدى النظر إليها، أو معينة للقلب والفكر. والخلق هنا بيت القصيد ونهاية المطاف في بحث قدرات العقل، فالكمال أو الاقتراب من الكمال في العمل الإبداعي يتوقف على مدى الاستزادة من مردود فعل عمليات قوى العقل كلها مجتمعة، فهي جميعاً تعين الواحدة منها الأخرى، وهي قوى تتضافر في مفاعيلها وتنتج ما تطلبه النفس وما يتطلبه تحسين شروط الفعل والإبداع، وهو ما يمد الخلق بما يحتاجه من مؤونة معرفية وجمالية ليأتي في أفضل صورة. إنّ استيعاب وظائف قوى العقل وفهمها أكثر سهولة في سن الشباب، فليغتنموا هذه الفرصة.
السرد
القص لغةً من قصَّ. قص أثره تتبعه، وقص الخبر أعلمه، وحدّث بتّ على وجهه. السرد لغة: تقدمة شيء إلى شيء، تأتي به متسقاً بعضه إثر بعض.
القص والسرد يشكلان العمود الفقري للقصة، وهذا مجرد هيكل للقصة، وليس كامل القصة بجسدها وروحها، ولذلك لا يكفي الأخذ بالشكل بمعزل الجسد والروح وهذا ما سأدخل في تفاصيل بحثه.
ما هي القصة القصيرة؟، ما موقعها بين الأجناس الأدبية الأخرى؟، وما هي طبيعتها وشروطها؟، ما الذي يميزها عن أصناف الإبداع الأخرى؟ أهو قصرها، أهو اقتصارها على حادثة واحدة وقوة هذه الحادثة؟، أهو طريقة سردها وبناها وقوة حبكتها؟، أهو السرد الماضي؟، أهو الغاية التي تسعى إلى بلوغها وكشفها البليغ عن سر من أسرار النفس؟ وما الذي يميز قصة قصيرة عن غيرها من جنسها؟ أهو مقدار ملامستها الشفيفة والشغوفة للمشاعر؟، أهو قوة الخيال والمخيلة فيها؟ أم هو بالنتيجة قوة الأثر الذي تخلفه في نفس القارئ في لحظة مكثفة بعد الانتهاء من قراءتها؟. يصعب الفصل بين خاصة وأخرى، ولكن أخذ هذه كلها مجتمعةً ومتناولة بمهارة وإتقان هو ما يميز القصة عن غيرها من الأجناس الأدبية.
الولادة
ولادة القصة القصيرة لا تواتي الكاتب في كل وقت، فللحمل بها شروط ولولادتها ميعاد، فالحمل بها يأتي من بزوغ لحظة معاشة، خاطفة وبراقة، في سياق حدث عادي، فتبهره وتجعله أسيرها، تمارس عليه سلطانها. يمضي الكاتب في حياته نابهاً متحفزاً لا تفوته اللحظات الآسرة والفاتنة القصيرة بحجمها والكبيرة في وروعة لمعانها، حتى إذا ما ألحت عليه الحاجة لكتابتها مهّد لها (فرشتها) وشرع في كتابتها. تقدم الحياة للكاتب بغزارةٍ وتنوعٍ موادَّ قصصه، وما عليه إلا أن ينتقي أكثرها خصوصية ولمعاناً وشغفاً. حركة الحياة تنتج أحداثاً نمطية لا تصلح لأن تكون مادة القصة القصيرة، غير أن اللحظات ذات الوهج الاستثنائي المؤهلة لكتابة القص قد تبزغ فجأة، والكتاب الماهر القنّاص هو من يقبض عليها ويجعل منها موضوع قصته.
يتسع كتابي في فن القصة القصيرة في أبوابه المتعددة ليضمّ كل ما تتصف به القصة من تنوع وثراء، وما يميزها عن غيرها من الأجناس الأدبية الأخرى. أخذ الكتاب بالتعريف بها وتعداد مزاياها وتقليب النظر فيها ما زاد على الثمانين صفحة في عدد من الأبواب، غير أن المجال المتاح لا يسمح، ولو بتقديم إيجاز لكل باب، ولهذا سأكتفي برأيٍ قدّمه الراحل الكبير إحسان عباس في تناول مجموعتي القصصية الثانية «صباح الخير أيتها الجارة» تضمّن رؤيته لما يمكن أن تكون عليه القصة القصيرة، وما ينبغي أن تبتعد عنه. قال: أول ما جذبني فيها إخلاصها للمفهوم الذي تمثله القصة القصيرة بين الفنون الأدبية الأخرى، فهي لم تنحرف نحو الشعر، ولم تصعد على جناح كسير من مبنى الروايةِ، ولم تمتلئ بفيوض اللاوعي، ولم تقف عند حدود اللوحة، ولم تحاول أن تتصدى لقضايا كبرى، موهمة أنها تستطيع احتواءها.
الشباب
رسالتي إلى الشباب: عليكم أن تعدّوا عُددكم، وأن تثروا معرفتكم بالحياة، واطّلاعكم على أمهات القصة القصيرة، لتعرفوا كيف تتوجهون للتركيز على اللحظات اللمّاحة وجعلها بؤرة القص وغايتها. لا تفرطوا فيها أو تخفوها تحت ستار من الكلام الجاني الزائد عن الحد، واسألوا أنفسكم ما الذي أسركم في كتابة الأوائل، وهل من الصعب الاقتفاء بهم واقتناص اللحظات الأغنى وإهمال ما يطمرها برصف كلام لا يلزمها ولا يخدمها. أعدكم أنني سأفتح بابي لكل من يرغب بالتواص معي.
«الآنسة ازدهار»
آمل أن أكون قد أجبت بأكبر قدر من الإيجاز، وأن أكون أحطت بجميع متطلبات الأسئلة، وسأنتقل إلى السؤال المستقل عن إصداري الجديد « الآنسة ازدهار وأنا»؛ فلكم أشغلني موضوع الصلابة الداخلية للإنسان التي تجعله يواجه الحملات التي تشن عليه، سواء الصديقة منها، أو المغرضة التي تستهدف قناعته، وترمي إلى النيل منها. لم يرد الموضوع إلى بالي كفكرة بل كعمل قصصي قادني إليه عدد من الحالات شديدة الخصوصية، تعرّض خلالها أشخاص ضعفاء في ظاهر أمرهم لحملات من غيرهم، دون أن يطلبوها، من شأنها أن تهدد استقلالهم وشل إرادتهم وتجعلهم مجرد أتباع. كنت أتناول الحالات منفردة، وأكتشف أنّ خيطاً رفيعاً يجمعها معاً في ما يؤشر لعزة النفس. بعد مداولات أجريتها مع نفسي، أخذت واحدة من الحالات، وشرعت في بناء قصة تميط اللثام عن سرّ الثبات وقوة اليقين المختزن في صدر مخلوق ضعيف في ظاهره، لكنه عند المجابهة يكشف عن قوة تجعل أشدّ الناس بأساً يتقهقر مهزوماً. لم ينقصني ميدان القصة ولا الأحداث، فقد تجمّع لدي كل ما أحتاجه، ولم يبق لي إلا أن أشرع في الكتابة، إلاّ أنني ما إن قطعت شوطاً حتى وجدت أن القصة القصيرة لا تخدمني، وأنّ مساحات نفس الشخصية التي أتعامل معها أوسع من أن تختصر في قالب قصصي قصير، فوجدت نفسي أتوسع على راحتي، وأتدرج في الدخول إلى عالم شخصيتي الداخلي لأكتشف أن نخالة جزئيات زائدة لا تفيد العمل الإبداعي ويمكن التخلص منها بسهولة تشكل في حقيقتها عناصر أساسية في بناء الجبهة الداخلية الصلبة للشخصية المختارة، إذ أنها كلها إذا دقّقنا فيها تقرّبنا من فهمها وتوضّح ما غاب عنّا، فأطلقت لنفسي العنان، ورحت أتجوّل بحرية داخل عالم شخصيتي الداخلي الرحب. كان يمكن أن أكتفي بالمواجهة الظاهرة، غير أنّ العمل فرض علي الوقوف على كافة التفاصيل التي تخص المتواجهين، الزائر المغير بقوته الظاهرة، والمستهدفة بضعفها الظاهري وصلابتها الداخلية، ما جعل المواجهة تميل لصالحها، وإذا بالزائر المسلح بالقوة يهزم، ويبقى الضعيف على صلابته وهدوئه، ما فرض علي التوسع في التفاصيل التي من شأنها أن تزيد الصورة وضوحاً لأحصل على أكبر قدر من وضوح الشخصية، ما أخرج العمل عن حدود القصة القصيرة، وأدخلها في نمط جديد من فن السرد، أُطلق عليه في الغرب اسم « نوفيلا».