10-12-2014 09:57 AM
سرايا - سرايا - ضخّ الكاتب داود البوريني في رواية قاربت الثلاثمئة وخمسين صفحةً، بعنوان (شجون على نهر سوميدا)، آلام ذلك العربي الفلسطينيّ الذي يجد كلّ شيءٍ أمامه أسود، وينوء كاهله بإرث الحضارة العربيّة الذي يتبدّد أمام عينيه. وهو إذ يعتمد على محفوظه التاريخيّ وشواهد السياسة والحروب المستنسخة التي ملأت في وجدانه الحيّز كلّه، وشبّ عليها تتنازع هذا (الوطن)، بمعنييه الفلسطيني والعربي، فإنّه ينثر كلّ ذلك على شجون نهر (سوميدو) الياباني، في حوار واعٍ، يقوم فيه بدور البطل مع صديقه الياباني (تساو)، ويمور في ثناياه بأحاديث لا تقطعها رومانسيّة الفندق وهدوء موسيقاه، ولا سحر النهر، أو رياضة المساء والصباح في طوكيو. فهو كاتب مهموم، ملتزمٌ بقضيّة بلاده، مرّةً تراه يُفاضل، ويقرأ التاريخ ويجهد في تغيير الصورة النمطيّة المتكوّنة عن العرب والمرسومة لهم، وأخرى تراه ينحاز لأبطال العرب وقادته الذين غابت شموسهم وانقطعت أخبارهم من قبل ومن بعد، وتارةً تجده يربط بين حوادث الدهر ربطاً محكماً، وكأنه أستاذٌ في التاريخ، أو تجده يعرّي السياسات أو يعتبر بمجرياتها، وهو، إلى ذلك، لا ينال منه اليأس، أو ينتابه الكسل أمام بلدانٍ تتقسّم وأدوار تتوزع؛ إذ سرعان ما يقوم مقام جبّارٍ يدفع الأذى ويفضح الأكاذيب، مباركاً بلاد كنعان التي بسببٍ من جغرافيتها وقدسيتها ونورها الربانيّ ظلّت على الدوام محطّ كلّ هذه الأعاجيب.
تتأسس الرواية على فكرة ذكيّة، يحرّكها سؤال الياباني (تساو) عن سرّ تجهّم العرب وتقطّب حواجبهم وسوداويتهم وغضبهم الذي جبلوا عليه، فهو الباعث وراء شجونٍ امتدّ بالبوريني في رحلة فكريّة تاريخية سياسيّة، يصوغها بأسلوبٍ لا يلبث خلاله أن يجمح أو يظلّ شارداً أو يقف على الماضي والحاضر ويقلق أشدّ القلق لما يستجد.
يبدو لمن يقرأ العنوان (شجون على نهر سوميدو) أنّ البوريني إنّما ينسى نفسه في خضمّ جوٍّ جديد، ونظام اجتماعي دقيق، وشوارع نظيفة، ونهر لا يجب معه إلا الاستمتاع، وجبل لا تملك معه إلا أن تكسر همومك عليه، لكنّ من يسير في الرواية يعجب لبراكين لا تماثلها البراكين أو التسونامات، إنّها براكين، وإن انفجرت في صدر (محمد إبراهيم) مرّةً واحدةً أمام الياباني (تساو)، ظلّت من قبل تروح وتجيء على عقل بطل الرواية الذي اشتغل على أكثر من اتجاه، العرب وماضيهم ومكتشفاتهم وقوّتهم ومراحل ضعفهم وركودهم وأفول أقمارهم، وأعاصير السياسة ومثالب التاريخ ومحطات النكبات وهموم الشعوب وتبدّل المواقف ونشوء الدول وقهر السياسات.
سؤالٌ أرهق الياباني (تساو) بعد أن رأى تداعياته وتبعاته على نفسيّة الفلسطيني الأردنيّ العربيّ (محمد إبراهيم) الذي اعتاد صدمات السياسة وملّ من الاعتبار بالماضي وشحنات التاريخ.
الزرقاء
قبل أن يحيلنا الكاتب إلى حواره في أرض اليابان، يعرّج بنا على الزرقاء في فترة 1967 المشهورة، متحدثاً خلالها وحولها عن تلك المدينة الوادعة الزرقاء وتكاتف أهلها وناسها وسيلها النهر وهموم الناس أمام الضفة القريبة من النهر، وحماس بطل الرواية للتطوّع في صفوف المدافعين عن الأرض والإنسان، وفي كلّ ذلك نكون مع البوريني الذي يروي نفسه بالتأكيد أمام كاميرا متحركة توثّق لشوارع المدينة ومعسكرها وجوارها في خو والهاشميّة وعمان وتنافذها، بكلّ أحيائها- الطائرات والصواريخ، وفي تلك المقطوعات نحن أمام بانوراما حقيقية لأحاديث أهل المخيّم وإذاعة البي بي سي والتقاط الخبر بين مصدّقٍ لانكسار الحلم ونافٍ للواقع الجديد.
هذه اللوحات جميعها تدور حول خمسة عشر يوماً جفّت لها الحلوق وارتبكت أمامها الناس، ولعلّ ذكريات مكثّفة تصلح لأن يحملها مسلسل أو فيلم، لواقعيّة الأحداث ودقّة أسماء المحال والمكتبات والناس، فهي أحداث تحملها الحوارات المفصّلة، ونكون فيها أمام البطل الشّاب الذي يدرس في الجامعة ويتّجه للخليج، ثم يزور اليابان، وقد امتلأت ذاكرته بكلّ تلك الصور الاجتماعيّة المتورّطة بالسياسة في بلدٍ قُدّر له أن يكون في لبّ منطقة الصراع.
اليابان
ميزة الرواية أنّ الباحث فيها عن السياحة يجدها، مثلما يجد المولع بالسياسة محطاتها، ويفرح الأديب بتلك الشطحات الإنسانية أو الزفرات التي يبوح بها البوريني على لسان راويهِ. واليابان هي المحطة الأهم لدى البوريني الذي أبت أنّاته فيها أن تظلّ مكتومةً، فمنذ أن يسأل البطل عن فندق (البرنس) أو (نيو أوتاني)، ومنذ أن نسير معه وهو يروي مسار الرحلة الطويلة من عمان إلى بانكوك، وهونكونغ، حتى طوكيو، في اثنين وعشرين ساعة، ويقف على أربعين طابقاً في الفندق، متناولاً طعامه برفقة جبل (فوجي سان)-المبجّل- جار طوكيو، والقصر الإمبراطوري وطوكيو الساحرة وأحوال الطقس وكرم اليابانيين واستغلال كل ساعة،.. حتى نجد أنّ هذا الموظف لا تسيطر عليه هواجس التجارة لتقلّ لديه الإنسانيات؛ بل هو صاحب جوّانيات وكاتب مطبوع ومثقف يحمل المقارنات ويستخلص من العبارة الاقتصادية الإسقاط السياسيّ أو مقايسة الحال بالحال.
ولأنّه لا بدّ له من الإمتاع والتعاطف أو محاولة النسيان، فإنّ البوريني يمهّد للزفرة الكبرى فيما بعد- السؤال عن سرّ وجوه العرب المكفهرّة- بالوصف الهادئ، حتى تظنّ أنّك إنما تسير مع رحّالة يعجبه النسيم العليل واللباس التقليدي لليابانيين ويقارن بين زيارته أوائل ثمانينات القرن الماضي وزيارته هذه قبل أربعة أعوام، ويسوق سعر الأراضي في طوكيو بين الأمس واليوم، أو تحسّ أنّك مع سائح يرصد أناقة السيارات والأرصفة التي تشعّ نظافةً وواجهات المحلات الجذّابة وأناقة اليابانيين في (جينزا)، أو ترى فيه- الكاتب- شاعراً يحزن لمغيب الشمس وتكاثر الأضوية على استحياء، أو أنك تستفيد من خبرة رجل دين يروي تقاليد البوذيّة أو (الشنتو) أو احتفالات عيد الميلاد لمسيحيي ذلك البلد، أو تسير برفقة تربويٍّ يعجبه نظام التعليم الياباني، أو رجل قانون يفرح بغياب الشرطة في اليابان لعدم الحاجة إليها، أو أنّك تتناول مع الكاتب- الذي يأنس بلطف موظفات المطاعم اليابانية المتلاصقة حيث عبق المكان والهدوء والبساطة- طبق (الشابو شابو) المميز.
يستمرّ البوريني- الذي يروي نفسه في عمله وسفره وهمومه الوطنية والقومية وحواراته السياسية التي لا تنتهي بينه وبين نفسه وبين صديقيه اليابانيين،.. يستمر يصف عادات اليابانيين وقراءاتهم الكتب حتى وهم يحتجّون، فهو يستيقظ معهم ويتابع تنظيم الركاب في القطارات وأسبوع العمل الشاق الذي يتلوه يومٌ قد لا يرى الموظف أبناءه فيه إلا وهم نيام، عدا تقاليد الحب والعشق المحافظ في اليابان.
لكنّ عقل الكاتب يأبى الاستراحة مع كلّ هذا الوصف أو الفرح بالعجيب من طقوس السياحة والسفر وعبارات المجاملة والسلام والحب والمقاهي والفنادق والشوارع، إذ يتهيّأ لعقد مقارناتٍ تُطبخ على نار هادئة في ذهنه بين اليابان و(الغرب)، ويبدو أنّ لهذه المقارنات أثرها النفسي على كاتب محموم بالسياسة مهجوس بأمةٍ فقدت كثيراً من مقومات وجودها وتاريخها المجيد.
حوار سياسي
هنا، تنطلق بواكير الهمّ السياسي والقلق بسؤالٍ محزن عن اليابان وظروفه مع جيرانه القريبين، وربّما هو يحاول أن يجد العذر بين إشكالية الموت بالسيف الياباني أو الموت بالحريّة الغربيّة، ليسوق كراهيّته للإمبريالية المشؤومة في كلّ لغات العالم وعبر كلّ قسمات الوجوه، ليستعيد من مخزونه المرير قوة (الغرب) واكتشافه البارود والجشع الإمبريالي والمعادلة غير المتكافئة بين (السيف والرمح والقوس والسهم والخنجر) و(البارود).
يبدو أن رومانسيّة المكان لا تقف أمام عقلٍ قادمٍ من أرضٍ لم تعرف في القرنين الأخيرين سوى الموت والألم والدمار والاستعباد والفقر والطغيان، بل وتستبيحها الحرب والدماء والنيران، ونحن لا نملك مع هذا الألم الدفين إلا أن نتعجب معه لهدوء النوم العربي وسط كلّ هذا الذي يستجد.
لكن، يبدو أن الكاتب يشفق على قارئه من ناره التي يكويه بها في كلّ فقرةٍ أو سطر، فتراه يروّح عنه بقليلٍ من الحديث عن رياضة المشي الصباحي وطقوس النوم المتأخر، والفندق الشاهق، والجبل المبجّل فوجي سان، ليدخل على النصّ ضيفاً جديداً ومهماً هو صديقه في العمل (ساتو) سان، لتتكرر (سان) اللازمة التي تعني المبجل أو السيد أو ما شابه من التوصيفات.
تتسع الدائرة وتكبر البؤرة في حوار إبراهيم وساتو بماذا يقول العرب عن الضيف في أشعارهم، والرغبة بزيارة حديقة الحيوان، وزيارة (شيمباشي) بالقطار، مع أنّ حنيناً خفيّاً يروح ويجيء على ذهن البوريني الذي يَخلص إلى أنّك لا تشعر بقيمة موطنك العربي وعذوبة لغتك إلا عندما تبتعد عنه لأيام... لنكون مع السؤال (القنبلة) الذي قطع على الرجل شروده واستمتاعه المؤقت، إذ بادره الياباني (سان): (إبراهيم سان، لماذا العرب لا يبتسمون؛ بل لماذا حينما أنظر إليهم أرى غضباً وحزناً في قسماتهم وتعابير الوجوه؟!).. ومع أنّ الطرف الآخر اعتاد ذلك أو هو غير متفاجئ منه، إلا أنّه فتح اسئلةً لا تنغلق، وإجاباتٍ لا تنتهي وحرّك مجداف القارب في شجون اختلطت فيه السياسة بالتاريخ بالعقائد بالأيديولوجيات بقادة العرب بالحروب بانكسار الحلم، فكان المخاض الأكبر لكلّ ما كان يطمح إليه الكاتب منذ زمنٍ بعيد، لينزع عنه فتيل الانفجار.
تداعيات
ينطلق الكاتب، في أحاديثه التي تتزايد في كلّ وقفة أمام النهر أو صعودٍ للقطار أو استراحةٍ في المقهى، من (الابتسامة العصيّة على العرب) ليرفدنا بتاريخ هائل جدّاً، لا يمكن الإحاطة به في هذه العجالة، وهي أثقالٌ ناب عنّ العرب البوريني بحملها في كلّ مفصلٍ أو عنوانٍ جديد يجيء في سياق الحديث.
اليابانيّون الذي تبقى ابتسامتهم مرسومةً في أحلك الظروف، بل هم لا يخفونها، حتى أمام أعدائهم، بعد أن تجاوزوا التدمير اللاإنساني للمدينتين هيروشيما وناغازاكي، محطّ مقارنة مع حال العرب، ومن ذلك يتعاطف الكاتب معهم محترماً شجاعتهم واستبسالهم، منسجماً معهم- رغم ألمه التاريخي الثقيل- في طقوسهم وعاداتهم وعلمائهم ومهندسيهم وتقنيتهم ومعابدهم( الشنتو)، وكثيرٍ من مثل ذلك، لكنّ هذا التعاطف لا ينفي مناكفاتٍ أو (مماحكات) تشدّ سير الرواية الطبيعي نحو هموم السياسة وأوصال العرب المتقطّعة هنا وهناك، ذلك أنّ الكاتب يبقى قابضاً على جذوة النار مفتخراً بأرض كنعان قلب العالم القديم وسبب نكبات الأرض في ما قُدّر لها من خيرات.
لا يمكن أن نضع في الرواية فصولاً متسلسلة في أحداث التاريخ أو نقوم بتبويبها، وإنما تُقرأ بعفوية القارئ، وانسياب الكاتب، وكلّما كانت خفيفة في مروره عليها كنّا نتعاطى معه بارتياحٍ وتلقائيّة، لأننا لا يمكن أن نقرأ كتاباً في التاريخ تحمله رواية، لكنّ براعة الكاتب في حديثه عن طيوف المغول والتتار وجغرافيّة أرض العرب وذلك التاريخ، مع ثقافاتٍ تزداد بجرعاتٍ مقصودة في تعابير (البترودولار) و(النفط الممزوج بالدّم والخبز المحروق) تعطينا فكرةً عن البوريني غير المحايد في شعوره، وهو يروي لصديقه (ساتو) حوادث التاريخ في السدّ العالي وما أريد لمصر من قبل، ويقرأ خيارات العقل والعاطفة والنماذج الماضوية والمعاصرة في تدمير الإنسان العربي في شمال إفريقيا وفي المنطقة محلّ الصراع، ولا ينكر الكاتب موقفه من تاريخ الأديان وإسهامها في شرذمة الجغرافية، مستدعياً شواهده الموضوعيّة وثبوتاته التاريخيّة في كلّ ذلك.
الهولوكوست
تشتمل الرواية على وعي سياسي في حديثٍ عن (الهولوكوست) الفلسطيني الأوسع من نظيره اليهودي كما يرى الكاتب، وتتطرّق صفحاتها إلى النفط نقمةً في احتساب عوائدها والديمقراطيّات المفصّلة بمقاسات، ويسوق الكاتب الماضي القريب في الانتداب والاستعمار وضياع الكرامة العربيّة، مفصّلاً في صفحات متتالية حول الثلاثي(محمد علي، وجمال عبدالناصر، وصدام حسين)، ومع تعاطفه مع الأخير، إلا أنّه يعرب عن أسفه للخسارة الكبيرة في الحرب الإيرانيّة العراقيّة، وإذ تفتح هذه المحاور والمواضيع شهيّة الياباني ساتو للسؤال عن غزو العراق الكويت، وتوظيف الدين، فإنّ إيماناً لدى الكاتب تحمله مؤتة، والكرامة، وقيادة خالد بن الوليد بين واقعه الموضوعي في المعارك واستراتيجياته في الانسحاب أو الإقدام.
يتواتر القادة الفرسان في ذهن الروائي، مستثمراً كلاًّ منهم في توضيح حالة أو الرّد على سؤال، من مثل سبارتكوس وهنيبعل وخالد بن الوليد ورومل ومونتغمري والجنرال جوكوف، وفي الواقع فإنّ الروائيّ الذي يبدو أنّه مجبولٌ على التلذّذ بالبطولات هو يتلذّذ بالخسارات والهزائم أيضاً معتبراً في عزل مصر عن واقعها العربي قارئاً كيسنجر، واقفاً أمام تقسيم البلاد إلى أقاليم في العراق والسودان، متأملاً تاريخ الجزائر وليبيا والقارة السوداء، حزيناً للدول التي (تلبس قفازاً من حرير يغرق مخالبها بالدّم).
يصدح الكاتب بأشعار المتنبي، وما يزال صدى(أحمد سعيد) المعلّق السياسي المصري بين عينيه في خمسينات القرن الماضي وستيناته، ولا ينسى في حديثٍ تجلبه الحوارات أن يتحدث عن الإنجليز والفرنسيين، والغرب عموماً، وهو ينشد ديمقراطيّةً لا توجد إلا بوجود الماء في الصّوان على حدّ تعبير أحد كتّاب الأمريكان.
الحبشي الذبيح
قراءة الكاتب المنطقة في الحرب الباردة والساخنة والأحاديّة والدول الناشئة والعصبيات تجعله شديد الرثاء على ماضي العرب الغابر، خصوصاً وهو يطلب في إحدى الحفلات أن يرقص رقصة (الحبشيّ الذبيح)، بما تحمله العبارة من دلالات. وطالما أن الحديث عن العرب ومآلهم ومستجدات جغرافيتهم وتاريخهم فإنّ الكاتب يقف قريباً من إسبانيا، ثمّ لا يلبث أن يعود إلى ميزة اليابان في بعدها عن النار والحريق والقتل، متعاطفاً مع ذلك البلد، واجداً مشتركاتٍ بينه وبين الأردنّ في العلم والجدّ ومحدوديّة الموارد، معجباً بنموذج القيادة لدى المغفور له الحسين بن طلال في ذكريات الستينات من القرن الماضي، وكلّ ذلك يسوقه إلى حديثٍ عن منطقة الشرق الأوسط في شرحٍ يسهم فيه الياباني ساتو بمفاتيح المواضيع أو الأسئلة، ثمّ يكون حظّه فيها الاستماع. لمزيدٍ من التنظيرات والقراءات و(الفضفضات).
يتعاطف الكاتب مع صورة الجندي الياباني الذي صوّرته أفلام هوليوود صورةً نمطية، مع أنّه بلد يتقدّم أبناؤه بسرعة هائلة ويتجاوز النكبات باتجاه العلم والتكنولوجيا، ليكسب إيمان صديقه الياباني ويقينه من أنّ العالم العربيّ إنّما هو في النهاية عملاقٌ مصلوب.
لا تهدأ الخواطر والآلام تلازم عقل البوريني في نظرته إلى اليابان بين العرب والغرب، ليسوق في ثنايا الحديث حرب الأفيون وسنغافورة والهند الصينية وماليزيا وبروناي مارّاً على كثيرٍ من جيران اليابان، لكنّه يعود ليصرّح بإعجابه للأنموذج الياباني: (..مساء طوكيو الرائع.. مساء الهدوء والسكينة والنظافة والاحترام الذي تلمسه من الناس.. كل الناس مصحوبة بابتسامة خفيفة أو هزة رأس.. المدينة العملاقة.. التي ما إن تنتهي من زيارتها حتى يعاودك إليها الشوق).
كتب البوريني الرواية عند حدود عام 2009، وبيدو أنّه لم يرو فيها الحدث الأكبر، وهو (الربيع العربي)، إذ ربّما غيّر من أفكاره المكثّفة في الرواية قليلاً في قراءة الواقع واحتساب التاريخ، مع أنّ أفكاره كلّها كانت توحي بشيءٍ من هذا الربيع.
الأغيار
وفي مقطع سينمائي بامتياز، يشتغل البوريني على تقنية (الحلم) في استشراف ما تكون عليه منطقة الرافدين في عام 2048، وهي المنطقة التي تكون- كما رأى في الحلم وهو يغادر اليابان- قد حرّرها جيش الدفاع الإسرائيلي من الأغيار أو (الجوييم) عام 2025، كما يروي الأستاذ شلومو لطلابه إثر عودته إلى بلدته المحببة كفار اشكول الواقعة على نهر الفرات.
هذه الرحلة الفكريّة المؤلمة المضمّخة بالحزن والأشواك كفيلة بأن تنشئ صراعاً متخيّلاً بين بطل الرواية وشلومو في اشتباكٍ مرير، لا يوقظه منه إلا تلطّف مضيفة الطائرة بتهدئة المسافر الذي أخذته الحمى وانطلق صوته من حنجرة ظلّت تتحمل طيلة أعمال الرواية كلّ ضغوطات الواقع وسيرورة التاريخ.
تنتهي الرواية برسائل يكتبها عبدالله- بطل الرواية- إلى ولده (عرب)، وفيها هموم وآلام وعزيمة مستمدة من ذلك الزمان، من مثل: (أخاك أخاك إنّ من لا أخاً له/ كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح)، وكثيرٍ من وصايا التلاحم والشعور الصادق بين عرب وإخوانه العرب هنا، وهناك.