23-12-2014 11:10 AM
سرايا - سرايا - بقي الفنان عبد الرحيم واكد مخلصاً للدرس الأكاديمي، وفي الوقت نفسه لملامسة عدد من التجارب التي تنوع مصادر المشاهدة البصرية التي تؤثث أعماله بصور الحياة المختلفة بين الريف والبادية، والطبيعة الصامتة، وذاكرة الفنان التي تنهل من بئر الطفولة ومن الأحداث التي جرت على وطنه.
وتعددت لدى الفنان الذي تخرج من كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1968 ، وحصل على دبلوم الدراسات الفنية عام 1969، وسائل التعبير بين المدرسة الواقعية والتعبيرية والتكعيبية، والانطباعية موائماً فيها بين الموضوع ومناخاته وأساليب التعبير التي تستجيب لشروط التلقي، إن كان بالألوان المائية أو الفحم أو الزيت، ويقول: «الأساليب الفنية ليست ملك أحد».
يمكن تصنيف المراحل الفنية انطلاقاً من روح الفنان الذي بقي محباً للفن متنقلاً بين الكلاسيكية النهضوية وفضاءات المعاصرة، وتوظيف قدراته في الرسومات التوضيحية، فهو لا يسلم نفسه لتفنية أو أسلوب أو موضوع بل يرسم لإشباع رغبة الجمال.
وفي أعمال الفنان الذي تنوعت مرجعياته ومشاربه ووسائل تعبيره وأساليبه وموضوعاته تضادات في اللون والحركة ما بين ضجيج الحياة وصمت العمل الفني.
واكد المولود في قطاع غزة عام 1945، أي قبل نكبة فلسطين بثلاثة أعوام، نوع بين الرسم والطرق على النحاس والبورتريه وأغلفة الكتب والزخرفة والاسكتش التي راكمت تجربة عميقة وتحديداً في موضوع المكان ومعالجاته للضوء، ولكن تلك التجربة على امتدادها ظلت هادئة دون ضجيج، وهي تشبه صاحبها الذي يعمل بصمت وإن كانت بعض أعماله تهدر بالثورة والمقاومة.
وما يزال الفنان الذي فاز بجائزة جمعية محبي الفن عام 1968 على مستوى مصر يذكر مدرسيه بتقدير المريد، ويكن لهم كل احترام، وكذلك يذكر التشكيلي الراحل إسماعيل شموط بالقول:» أنه رائد الفن الفلسطيني، وله تأثير كبير على الفنانين العرب وخصوصاً في المرحلة الانطباعية».
ويقول رفيق دربه الفنان التشكيلي زكي شقفة، إن واكد انتهج المدرسة الاكاديمية الكلاسيكية، متتبعاً المسار العام في كليات ومعاهد الفنون الذي كان يدرس في القاهرة وبغداد والشام هو الاسلوب الاكاديمي، وكان من رواد هذا الأسلوب في القاهرة ممن درسوا الفنان واكد، ومنهم: حسني البناني، عبدالعزيز درويش، عبدالهادي الجزار، حامد ندا وغيرهم.
مراحل تطور التجربة
ربما يكون من الصعب تحديد مراحل تطور التجربة، أو نزعات الفنان، فالمراحل ليست متتابعة ، ولم ينتقل من واحدة إلى أخرى ، بل ظهرت تلك التعبيرات في سائر التجربة عند الفنان الواكد، ويمكن تفسير ذلك لسببين ، الأول أنه يرسم بتداعي مشاعره، ويتفاعل مع المشاهدات بحب، وهو إلى ذلك يميل إلى التجريب، والثاني أن الفنان يؤمن بالعلاقة بين الشكل والمضمون، كما يشتغل على العلاقة بين الكتلة والفراغ، ويرى أن الواقعة التشكيلة تلقي بظلالها على الفنان.
وظل الفنان واكد كما يقول شقفة: «محافظا على قيم العمل الابداعي في سائر جوانبه ، من حيث التكوين الجيد والتوازن الشكلي واللوني الى مساحات التعبير بتوليفاتها التجريدية التي تشكل حاضنا لموضوعاته المنتمية للقضية الفلسطينية ومحمولاتها المكانية والثقافية والاجتماعية.
البناء عبر الضوء
ويمكن تقسيم مراحل التجربة عند واكد أو نزعة الفنان في التجربة بحسب التحولات الأحداث، والزمان وتغير المكان وانعكاساتها على اللون والشكل والمضمون، وهو تقسيم «افتراضي» لأن تجربة الفنان تتداخل فيها الأساليب والتقنيات وتتنوع الموضوعات في غالبية أعماله على امتداد التجربة منذ نهاية الستينيات وحتى الآن، وهي تتراوح بين الواقعية والانطباعية التأثيرية والتكعيبية والتجريدية التلوينية والطبيعة الصامتة، كما تتنوع بين الرسم والحفر والديكورات المسرحية والجداريات والتعليم وتصميم أغلقة الكتب.
الواقعية الانطباعية
ارتبطت المرحلة الأولى في نهاية الستينيات بالواقعية الأكاديمية التي عبر من خلالها عن مشاهداته للمكان، وكان من أوائل الطلبة الذين حملوا الكانفس والألوان للرسم «الحي» أمام الجمهور، وهو يقول إن اللوحة هي من بين الفنون القليلة التي تشاهد مرة واحدة «دفعة واحدة» ، وليس على مراحل متتابعة مثل المسرح أو السينما.
وفي تلك المرحلة التي اتسمت بالتأثيرية الانطباعية كان يركز الفنان واكد الذي أقام مجموعة معارض فنية فردية وجماعية في مجموعة من الدول العربية لاسيما سورية والأردن والسعودية ومصر. على العناصر الأساسية للعمل الفني ، وتحديداً المنظور الذي أتقنه لحبه للهندسة الفراغية، فصور الطبيعة والعمارة ، والآثار ومشاهد النيل، وبرزت في تلك المرحلة البيئة المصرية الفلاحية في مختلف وجوهها، وكان استعماله للون مستعاراً من انعكاس الضوء على السطوح التي تبدو فيها الأماكن متوهجة.
التعبيرية الرمزية
في المرحلة الثانية تأثر الفنان بهزيمة العام ، وبرز الموضوع الفلسطيني في السبعينيات، فعبر عن حياة اللجوء، واستعاد من الذاكرة مشاهد من مدينة غزة ونخيلها وبحرها وقت الغروب، وظهرت فيها الأعمال لتعبر عن حالة الضياع والانكسار واللجوء، وبرزت فيها صورة الإنسان التائه، والخيول والبحر ، وفي المقابل صورة التحدي والمواجهة، وغلبت على الأعمال الألوان القاتمة ، والغروب، وتنوعت بين الأسلوب التعبيري والرمزي أو الإثنين معاً.
التكعيبية
المرحلة الثالثة ، وتحديداً في الثمنينات تأثر الفنان الذي عمل في سلك التعليم وتدريس الفنون الجميلة، والإخراج الصحفي، بالتكعيبية التي تلبي حبه للتفاصيل وأبعاد العمل في المنظور، والأهم من ذلك تشكيل الكتل وتكويناتها في الفراغ، وكان الأثر الكبير انتشار أعمال الاسباني بابلو بيكاسو ، وخصوصاً لوحته الملحمية الجيرنيكا التي تدون بصريا قصة تدمير مدينة جيرنيكا، وتداعيات ذلك العمل والأسلوب على الفنان العربي، وبالنسبة للفنان الواكد فقد وجد في التكعيبية مساحة واسعة لإثراء العمل، وإمكانية لتعدد المنظور والانتقال من اللوحة الكلاسيكية التي تقوم على الخلفية والتناغم والمنظور والظل والنور بتكثيف المساحة بإشباعها بعدد من الموضوعات والتكوينات، والإفادة من تدرجات اللون الواحد.
وقد سيطرت في هذه المرحلة التضادات اللونية بين القواتم والألوان الشفافة التي تمنح العمل نوعاً من المتواليات اللا متناهية والحركة، وتبرز الخطوط الحادة للملامح، وتحديداً في البورتريه، والأعمال التي تحتشد فيها الجموع البشرية، ومنها موضوعات اللجوء.
التجريدية
تنقل الفنان الحاصل على مجموعة الجوائز الفنية، وهو عضو مؤسس لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين بالقاهرة. بين عدد من الأماكن، وتأثر بالأساليب الحداثية ورغبته في التجريب اللوني غلبت على المرحلة الرابعة في تجربته، و»كان لتنقلاته ما بين فلسطين المحتلة ومعاناة شعبها من الحروب الى القاهرة لدراسة الفن التشكيلي، ومن ثم تنقله بالعمل ما بين الشام والسعودية والاردن الأثر في تحولات التجربة» كما يقول شقفة. وربما يكون ميل الفنان للتجريد هو التخفف من ثقل التاريخ الذي يتزاحم في الذاكرة بالأمكنة التي عاش فيها، مقابل ما يكابد من ضياع مكانه الأول الذي يراه كحلم، ولعله وجد في التلونية التي «تختزل البناء عبر الضوء» بحسب كاندنسكي ما يشفي حبه في جمع الأمكنة في لحظة واحدة لتبدو تموجات من الضوء.
إيقاع الصوت والصمت
يمكن القول على صعيد اللون، وفق تلك المراحل، فقد برزت الألوان الترابية وتدرجاتها، وكذلك الأخضريات والأزرفيات في المرحلة الأزولى، ولكنها في المرحلة الانطباعية مالت إلى الوحشية بالتركيز على الضوء دون إفراغ اللون من واقعيته، وفي المرحلة الثالثة ذهب إلى التضادت بين الحار والبارد للتخلص من تراتبات الكتلة والفراغ، ونوع في اللوحة بين الألوان الزيتية والباستيل والأكريلك.
ويقول الفنان التشكيلي الناقد رسمي الجراح:» إن تلوينية الفنان واكد غامره ففي كل السطوح نرى كل الألوان ولا يخشى اللون , لكنة يحافظ على تدرجات لونيه تتوافق مع الموضوع المختار ولا يبتعد كثيرا في الاقتراح اللوني اي ليس فنتازيا , وهو يعي قيمة اللون , وحريص على عدم الارتجال او تغريب اللون عن الشكل». وفي جانب الموضوع فقد اشتغل الفنان الذي أقام جدارية هندسية لملاعب الملك فهد بالطائف على المكان والبيوت القديمة والخيول والإنسان، وقد صور الكثير من الأماكن في مصر والسعودية والأردن، كما رسم من الذكرة بحر غزة وحركة القوارب والصيادين، ولحظات اللجوء.
كما رسم المرأة التي يرتبط حضورها بالعطاء والخصب والصبر، وفي غالبية أعماله تظهر المرأة معبرة عن هوية المكان من خلال أزيائها.
وفي الموضوعات التعبيرية والرمزية حاول الفنان الذي تأثر بانطباعية سيزان، وفان كوغ وغوغان وتكعيبية بيكاسو رصد الزمن من خلال إيقاع الصوت والصمت بدلالة المشهد البصري، فهو عندما يرسم الساقية، فإنه يعبر عن السكون ، وفي الوقت دوران الزمن وتكراره للتعبير عن التحمل والصبر.
سرديات بصرية
بالنسبة للفنان فإن كل عمل ينطوي على حكاية تسرد قصة فهو حينما يصور البيئة المصرية في سنوات دراسته منتصف الستينيات، فهو يصوغ القصص عن حياة الريف التي تتحدث عن الحياة الشعبية، وحكايات الفلاحين ووظيفة الكائنات في الحياة اليومية، يرويها الفنان بصرياً ويثري مساحات اللوحة بالرموز التي تشير لمعتقدات الناس ومعارفهم وأداتهم للعيش، ويعبر عن ذلك بحبه لتلك الطبيعة البكر، ويرسم ذلك ببساطة ودفء يشبه تلك الحياة التي تعيش بصمت وراحة. ويقول الجراح: لوحة الفنان واكد مليئة بالتفاصيل ومقصده من ذلك ان لوحته مبنية على الفكرة وليس على رمز واحد كما في المنظر الطبيعي، فهو محتشد بالتفاصيل وكذلك المواضيع المتعلقة بالهم والحراك الانساني فيما تقترب لوحات اخرى فكرة الملحمية اي التي تحتمل السرد البصري المكثف للعناصر والشخوص لانه يريد ان يفصح اكثر كما في لوحات المقاومه او المدافعين عن الارض.
في أعماله التي وثق فيها لحياة اللجوء والمنفى لحياة الفلسطيني، يستذكر دائما حرب 1956 التي أصيب فيها واله حينما كان طفلاً، وعرف معنى الخوف والألم ، فبرز الإياع عالياً في اللوحة من خلال خشونة الخط وتداخلاته، وتضاد الألوان والحركة التي تتسع على امتدادها للجسد وهو يحمل الشهيد، وكذلك الحركات السريعة للأجساد التي تتراكم في اللوحة وتبحث عن ملاذ للهرب، وفي المقابل إبراز زوايا الجسد في الأعمال التي تنطوي على التحدي والمقاومة.
يلخص الناقد التشكيلي عبدالله راشد تجربة الفنان واكد بالقول: «الواقعية التعبيرية عند الفنان واكد تفتح المجال لتوليفات المساحة التجريدية المتناثرة في الخلفيات التي تشكل حاضنة مناسبة لتوازن العناصرالأساسية المرصوفة في محتويات كل لوحة من لوحاته، ويبدو الموروث الشعبي الفلسطيني في لوحاته جلياً واضحاً في كثير من سردياته البصرية، يدرجها تقاسيم تراثية موصولة بغنائية الفكرة وتعبيرية الوصف التقني القائم على التجريد في تفاصيل اللوحات، وتظهر وجوه النسوة وملامحهن وثيابهن الموشاة بالرموز والزخارف وتنويعات شكلية مليئة بالحكايات، والأساطير المتوارثة كدلالة حسيّة واقعية ورمزية تعبر عن حقيقة الوجود الفلسطيني والتاريخ والشعب «.