28-12-2014 10:10 AM
سرايا - سرايا - الحياة أشبه بمسرح، ولكل شخصية دورها، والأدوار يتم تبادلها بحيث تلعب دور شخص آخر باختلاف الزمن، هذا بعض مما يقدمه المخرج الفرنسي اوليفييه أساياس في فيلمه "غيوم سيلس ماريا"، من خلال دراما قاسية ورقيقة بتناقض متناغم عن علاقة الممثل بالسينما وبالدور الذي يحدد مسار مهنته والتغير في الزمن الحقيقي.
الفيلم الذي يدور في منطقة وادي سيلس في سويسرا المطلة على جبال الألب في مشهد ساحر لمضيق مائي يعرف بـ"الأفعى" من بطولة جولييت بينوش، وهو ثالث تعاون بينها وبين اساياس بعد فيلم Paris, je t'aime في العام 2006، وفيلم Summer Hours في العام 2008، لكنها هنا تؤدي دور ممثلة أربعينية هي ماريا اندرز.
وكان قد أسند دور لماريا في مسرحية أطلقت بطولتها ونجوميتها قبل عشرين عاما، بتوقيع مكتشفها ويلهام، لكنها هنا تلعب الدور المعاكس، من مسرحية "أفعى مالوغا" لمكتشفها الذي قادها للشهرة.
تنطلق المشاهد برحلة ماريا برفقة مساعدتها فالنتينا "كريستين ستيوارت" في القطار متوجهتين لزيوريخ؛ حيث تتوقف لليلة واحدة لتستلم تكريما عن صديقها ومكتشفها ويلهام، لكنه يموت فجأة، فيما هي تتلقى لاحقا عرضا لتلعب دورا في مسرحية لمكتشفها، لكن بالدور المغاير عن الذي لعبته قبل عشرين عاما، وهو دور سيغريد الشابة الفتاة اللعوب، وهو الدور نفسه الذي شهد ولادة نجوميتها، وستلعب دور الأربعينية هيلين التي تغويها سيغريد وتدفعها للانتحار.
وتشابك العلاقة بين ماريا ونفسها وبين نجوميتها يرتبط بشخصية هيلينا التي تكافح بالاقتناع بأنها تجسد ذاتها، حيث التناقض بين جيلين من النجوم، ويفرض أساياس في فيلمه هذا جرأة كبيرة وتحريكا ذكيا للشخصيات وسط خيال وواقع لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، ما يسبب تشويشا كبيرا في بعض من تفاصيله.
مشاهد التمرين على المسرحية بين فالنتينا وماريا في الكوخ في جبال الألب في سويسرا وطبيعة الحوار الذي يتداخل مع دور شخصيات المسرحية، تبرز صراع ماريا في تقبل تغير دورها وبأنها ممثلة قديمة، فيما أظهر اساياس "فالنتين" كريستي سيتويرات بشخصية مختلفة عن دورها في سلسلة أفلام "توالايت"، فهي هنا أكثر نضجا وعفوية وبحس سخرية مرتفع.
المخرج الذي بدأ حياته كناقد سينمائي، اعتمد في فيلمه على العاطفة في إدارة الشخصيات؛ فالفيلم يحمل شخصياته لنفس المكان المرتفع في سيلس ماريا بين الغيوم التي تمر في ذلك الوادي خلال مشهد جميل تتجمع وكأنها أفعى من خلال مرور السحب في وادي تحيط به الجبال على جانبيه، مستعينا بمشهد من فيلم قديم صامت ألماني من العام 1924 للمخرج ارنولد فرانك، ويربطه بالصراع الداخلي لشخصية ماريا.
اساياس من خلال صراع ماريا بتقبل دور هيلينا، يكشف عن نضال ممثلة تقدم بها السن ورغبتها في الحفاظ على نجوميتها في حوار ساخر مع مساعدتها ليطرق باب الأعمال الجارية لصناعة الأفلام بحس ساخر تطلقه فالنتينا، التي تمثل المرأة ذات المصداقية المليئة بالشكوك الذاتية التي تكمل مخاوف ربة عملها.
ومع هذا الخلط الكبير بمزيج من الحيرة والثقة، فإن شخصية ماريا تتطور وتكشف مخاوفها بتصعيد اكتشافها للمنطقة التي تتواجد فيها، فتغدو هي والغيوم والمناظر الطبيعية جزءا واحدا وكأنه خلفية معبرة يرتبط بالأداء المبني على التخوف وتغيرات جوانب الحياة.
وفي الوقت الذي لجأ فيه أساياس إلى تقسيم فيلمه لجزأين وخاتمة، انتقل للفصل بينهما بشاشة سوداء في كل مرة تكون فيها فالنتينا هي نهاية كل مشهد، وكأنها الحد الفاصل قبل أن يخرجها من الخاتمة، التي يكشف فيها الكثير في نصف الساعة الأخير من الفيلم، فهو في مجمله يدور حول صراع بين جيلين مختلفين في دراما تهكمية في منطقة رمادية بين الرومانسية والصداقة والفن والنزعة الاستهلاكية، وهاجس المهنة وتعامل الأفراد مع حالات عدم اليقين التي يمر بها.
بين مسرحية وفيلم، مزج أساياس "غيوم سيلس ماريا" بحيث كان أداء الشخصيات والايقاع بطيئا بدون أي تعابير واضحة في حوارات من الصعب تمييز أي منها إن كان حقيقيا أو مرتبطا بالتدريبات على المسرحية التي ستلعب فيها ماريا دور هيلينا.
فالبطء هنا مرتبط بالتغييرات التي تمر بها كل واحدة منهما ومواقفهما من بعضهما بعضا ومن الفكرة نفسها، التي تنعكس حتما على العلاقة بين فالنتينا وماريا، قبل أن تختفي فالنتينا، فيما ماريا تتقبل في النهاية فكرة تقدمها بالسن الواقع وتلعب دور هيلينا.
فيلم "اساياس" ليس بالسهل، ويكشف من جديد روعة جولييت بينوش أمام الشاشة، وذكاء اساياس في فهم المرأة وعاطفتها ومخاوفها ولو أنه قدمه بطريقة معقدة لا يمكن كشفها بمحض الصدفة.