03-01-2015 09:57 AM
بقلم : رقية القضاة
السماء تتضاحك نجومها وتأتلق جذلا،وبدرها يرسل أشعته الفضية تباعا ترسم على مساحات الكون المتباينة ظلالا من النور البهيج ومكة الليلة ترتدي ثوب فرح ،طرّزت ثناياه بالفخر والمجد ،والتوقعات الجميلة ،وهنا في اقدس بقعة من رحاب الأرض المعمورة بالخلائق ،يرتفع فوق الأرض بيت الله المعمور ،وحوله تطوف قلوب وأرواح تعلقت به وقدّسته ،وإن كانت تعتنق الشرك عقيدة ومنهجا ،إلا أنها تعترف لرب هذا البيت بأنه بيته المحرّم وأن مئات الأصنام حوله ماهي إلاّ الزلفى والقربات إليه، وظلمة الفكر وظلام الجاهلية ، يوشك ان ينتهي زمنهما والقمر المشرق هذه الليلة يزداد ألقا ، أو ليس هذا أوان قدوم الرحمة والهدى أو ليست هذه الليلة هي إشارة البشرى لأهل الأرض ان قد آذن ليل الظلمات بالرحيل .
إيه مكة يا رمالا من الطهر، ويا جبالا من النور، ويافخرا تحدّث به الزمان على مر الزمان ،إيه يازمزم ياريّا طهورا ويا معينا ساريا لا ينضب ولا يغيض،موعدنا الليلة حين يهلّ خير مولود أهلّ على البسيطة الممتدة من مشرق الأرض إلى مغربها ، وامتدت المناجاة بين القمر والنجوم وبين الصحراء والليل وبين النخيل والظلال ،كل يهنيء صاحبه بولادة النور البهيّ والخير الجلي والرحمة المرجوة فالليلة يا اهل مكة سيولد فيكم خير مولود وغدا يااهل مكة يحمل إليكم وليدكم بإذن ربّه رسالة الحق والنور.
وارتقب يا عبد المطلب فالليلة ستقف على بابك آلاف الأحلام المعذبة ،تنتظر ان تصير حقائق مشرقة، العيون التي حرمت النظر إلى الشمس لأنها في الأعلى ، وهم في حضيض المكان والتصنيف والإعتبار ،سترفّ اهدابهابالرجاء ،أن الشمس ستصبح مرتادا لأحداقها ،ولن يكون محرما عليها أن تكتحل بدفئها متى شاءت، فالأرض اكتفت مما ساد فيها من الظلم ،والبر والبحر والفضاء اختنقت مما ظهر فيها من الفساد ،والإنسانية تكاد تطمس معالمها في ظلمات بعضها فوق بعض، ركاما يعلو ركاما ،فمتى ينجلي كل هذا ؟متى ترتدي الارض ثوب الحنوّ متى تغدو مكانا صالحا للحياة،متى يولد البشير النذير.
وهاهو عبدالمطلب يحمل الوليد المبارك ،ويطوف به حول الكعبة المشرفة ،حامدا شاكرا لربه وقد أناله المراد ،ورزقه بمحمد ولم يدر عبد المطلب أن حفيده سيكون {شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسرجا منيرا }،لم يدر ان الخير الذي استقبلته الأرض الليلة وأشرقت به السماء وبشرت به الملائك بعضها بعضا ،،وتغنت به كل القيم النقية التي نحيت عن موقعها الطبيعي في الحكم بين الناس ،وترقبته طويلا النفوس التي أرهقتها ربقة الجاهلية والأيدي التي قيدتها سلاسل العبودية ،والقلوب التي حرمت حتى من الهمس توقا إلى الحرية، لم يدر عبد المطلب أنّ تلك الاصنام التي أقيمت رغما عنها حول بيت الله ، هي أيضا تنتظر محمدا وشرعته ، لكي لا تعبد من دون ربها ،فبشراك ايتها الأرض فقد ولد النبي الرؤوف الرحيم ،وارتقبي بضع سنين ،لتري كيف يصير الظلام نورا ،وكيف تغرد في جنبات الكون المآذن ،معلنة شرع محمد ودين محمد{أن لا إله الله}
أقبلي يا{ أم أيمن }،ايتها الموعودة بالخير المقبل ،واحتضني المولود الحبيب، وتذكري هذه اللحظات الجميلة، حين تتحررين غدا من ربقة الشرك ،وربقة العبودية ، وأرضعيه {ياثويبة} لحظة مولده ،فغدا ستذكرين هذه اللحظات الندية، حين تصلك صلاته وعطاياه من المدينة إلى مكة ،وحين يبحث عنك يوم الفتح ليعلّم الدنيا سرّ الوفاء والمعروف .
ياربوع بني سعد تجملي بالاخضرار بعد اليباس ، فهاهي حليمة السعدية تحتضن بين يديها مولود مكة المبارك ،وهاهي تنكر لبنها، وتنكر أتانها ،وتتعجب من البركة التي حلّت بها وبركبها ،وزوجها يؤكد لها أنها بركة {محمد}،اليتيم القرشي الذي زهدت فيه المراضع ليتمه وفقره ،ورغبتي فيه انت ،ليكون لك ولدا وهاديا ،ونورا وبركة إلى يوم القيامة .
ويظل المصطفى صلى الله عليه وسلم في مرابع بني سعد،وفي كل يوم تظهر لهم بركة جديدة ،وحادثة فريدة فمن لعبه إلى نموّه إلى عزّة نفسه،ولطفه ،كلها تنبيء بالتميز والشان العظيم ،وياتيه ملكان وهو مع إخوته في مراعي بني سعد ،فيشقان صدره ويستخرجا حظّ الشيطان منه لكي يحمل الرسالة وما في قلبه من الشيطان نصيب ،ولا للهوى حظ، ولا للزيغ مكان
وحليمة وزوجها يرتعدان خوفا على الغلام المبارك، ويخشيا تبعة الأمر، فيحملانه إلى أمه ،فتعجب غاية العجب ،إي حليمة السعدية ،ألم تكوني أحرص ما تكونين على ان ارده معك قبل شهرين ؟،فلم أعدتيه إليّ إذن؟ ولم تجد المرضعة الطيبة مفرا من ان تنبئها النبأ اليقين ،لقد خفنا عليه من الشيطان،، فقالت آمنة بنت وهب، وهي مطمئنة ساكنة:فتخوفتما عليه؟كلاّ والله إن لإبني هذالشأنا،ألا أخبركما عنه،إني حملت به ،فلم أر قط حملا كان أخفّ ولا أعظم بركة منه،ثمّ رأيت نورا خرج من حين ولدته ،أضاءت لي أعناق الإبل ببصرى،ثم وضعته فما وقع كما تقع الصبيان،وقع واضعا يده بالارض،رافعا رأسه إلى السماء فدعاه والحقا بشأنكما.
وتستعيد مكة ولدها ،وتتلقاه امّه {آمنة بنت وهب }، وتمكث معه زمنا قصيرا ،وسرعان ما تلحق بأبيه ليغدويتيم الأبوين ،في فصل آخر من مدرسة إعداد الأنبياء، وصياغة الشخصية القادرة على حمل الرسالة الثقيلة، ثم يموت الجد عبدالمطلب ،وهو الصدر الحاني ، المليء بالعطف والود والحنوّ، ومن فراق إلى فراق ،ومن صدر حنون إلى آخر ،ينتقل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو يكبر وتكبر معه أخلاقه العظيمة ،ومآثره الجميلة ،تزداد نفسه الطاهرة كرها لذلك الرجس المسمى آلهة ،مسنّدة إلى جدران البيت العتيق ،حجارة صنعتها يد البشر وعبدتها، دون إدراك ولا تمييز بين الحق والباطل، بين المعقول واللا معقول ،حجارة اتخذها القوم المشركون قربة إلى الله، وسنّوا باسمها من القوانين الظالمة مالم ينزل الله به سلطانا ،ومالا يصبّ الا في مصلحة الأقوياء ،أما الضعفاء المستعبدون المقهورون فقد زادتهم رهقا وعنتا واضطهادا ، ألابعدا لتلك القيم الجاهلية ،وأبشري أيتها النفوس الظامئة للغد المشرق بالود والحرية والنقاء والتوحيد ،فقريبا ستشرق شمس العدل ،وقريبا ستنطلق أول كلمة في كتاب الهدى والرحمة والكرامة والتحرير والوحدانية{إقرا}.