بقلم :
البيان الأول, الذي أعلنه الانقلابين الجدد في موريتانيا , كان ضد الديموقراطية الناشئة الوليدة .....والذي كان له الفضل في قيامها هو الجنرال محمد ولد فال (الذي انقلب على معاوية ولد الطابع بعد حكم دام لأكثر من عقدين) ووعد بإعادة السلطة للشعب!!! وصدق وعدة!!! وتنازل عن الحكم طواعية ...في بادرة كريمة....لم يسبقه إليها في التاريخ العربي الحديث إلا زعيمين محترمين اثنين هما ( المواطن العربي ) شكري القوتلي الذي تخلى عن السلطة في سوريا عام 1958 لجمال عبد الناصر لصالح دولة الوحدة ,كذلك الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب الذي انقلب أيضا على جعفر النميري في السودان و أعاد السلطة للشعب ...هؤلاء هم نماذج مشرفة للعسكريين العرب.. إنهم رجال حقيقيين وأبناء وطن ، كبار ,زهدوا بالسلطة وترفعوا عنها .. لذلك لابد من التنويه بأن هذا المقال ليس, تعريضا ولا تشكيكا , بالرجال الشرفاء الوطنيين المخلصين من منتسبي , المؤسسة العسكرية العربية , التي أتشرف و افتخر بأنني كنت أحد ضباطها,وأبنا لشهيد بطل من شهدائها .........
فالحديث عن دورها ودور منتسبيها وتفانيهم وإخلاصهم في قيامهم بواجبهم المقدس في للذود عن حمى الأوطان والمحافظة على أمنها واستقلالها وسيادتها ، و تقديمهم التضحيات الكبيرة في سبيل ذلك عبر تاريخ مشرف طويل هو محط اعتزاز واحترام وتقدير الجميع ,ولا يمكن المزا وده عليهم في ذلك أبدا ,هذه المؤسسة التي نتمنى لها التقدم والازدهار والعزة والقوة والمنعة والاحتراف ، وأن تبقى مؤسسة للشعب والوطن و الأمة , ولا تتدخل في الصراعات الوطنية السياسية الداخلية , ولا تسمح في أن يزج بها في أتونها, لذلك كانت هذه المقدمة ضرورية , لحرصنا على عدم وصم المؤسسة العسكرية العربية ,بصفات سلبية مثل التخلف والاستبداد والقهر والديكتاتورية ,وإنما المقصود هنا بعض القادة العسكريين المغامرين الذين استهوتهم شهوة السلطة فاغتصبوا الحكم واستأثروا به , بدون أي مبرر منطقي مقبول ومعقول وربما بتحريض وتأمر مع طرف خارجي.............
إن ظاهرة سيطرة العسكر على الحكم هي ظاهرة عالمية تاريخية , برزت بوضوح في عشرينيات القرن الماضي وازدادت في الخمسينيات والستينيات إلى آن باتت ظاهرة عامة ملفتة للنظر في العالم الثالث ثم بدأت ظاهرة الانقلابات وحكم العسكر تنحسر تدريجيا في العالم مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، مع تحول أغلبية الدول إلى حكم الدولة المدنية التي تحكم بواسطة المؤسسات والبرلمان والقانون.......
آما عن تاريخ العقلية الانقلابية العربية فقد برزت ملامحها الأولى عندما تمرد بعض الجند على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه وقتلوه,فحدثت بعدها الفتنه الكبرى , ما بين الخليفة الراشد على بن آبي طالب كرم الله وجهه و الخليفة معاوية بن أبى سفيان ( قميص عثمان ) وما زالت آلامه تعاني من آثار ذلك الخلاف إلى الآن ,وابتدع بعدها معاوية عمليه التوريث في الحكم ,ثم توالت الانقلابات داخل ألا سره الأموية الحاكمة وتمثلت بقتل الخلفاء .... كما حدث للخليفة عمر بن عبد العزيز ....
أيضا لم تخلوا الخلافة العباسية من هذا, بعد آن تمكن عسكر المعتصم ( السلاجقه الأتراك ) بعد وفاته من السيطرة وقيامهم بالتحكم بالخلفاء بعزلهم آو قتلهم وتعيين غيرهم ,بل شملت الانقلابات كل الدويلات التي كانت تابعه اسميا لدوله الخلافة ....مثل العسكر المماليك ,في عمليه قتل السلطان قطز صاحب معركة عين جالوت الشهيرة, غيلة وغدرا على يد بيبرس .......
الدولة العثمانية أيضا كانت الانقلابات مستمرة بين الآسرة الحاكمة وقتلهم لبعضهم ,وتمرد جند الانكشارية الذين رفضوا التحديث ومن ثم القضاء عليهم , ثم انقلاب كمال اتاتورك ,الذي ألغى الخلافة الإسلامية ...و أعلن الجمهورية العلمانية في تركيا ,فإلى هذه الجذور الانقلابية تعود ...ذهنية العسكر التركي ,وسيطرة الجيش على الحياة السياسية وقيامه بعدة انقلابات عسكرية ,بحجه الحفاظ على علمانية الدولة , كان أخرها انقلاب الجنرال كنعان إيفيرين ,ومازال العسكر يشكلون خطرا على الديموقراطية في تركيا , وليست تركيا وحدها من الدول الإسلامية غير العربية التي تعاني من هذا الأمر ,فالكثير منها عانى من الانقلابات العسكرية ,انظر مثلا إلى باكستان وقارنها مع الهند ,فقد كانتا بلدا واحدا حتى الاستقلال , ثم انفصل محمد علي جناح بالمسلمين و شكل بهم دولة باكستان,التي ما لبثت أن وقعت فيها انقلابات عسكرية لا تنتهي,بعكس الهند التي ما تزال اكبر بلد ديموقراطي سكانا بالعالم, فهل الانقلابات عقدة تاريخية إسلامية متجذره ........
نحن في البلدان العربية فبالتأكيد متأثرين بهذا الإرث التاريخي لهذه الظاهرة (وبالفتاوى التي أجازت إمارة الاستيلاء) كوننا كنا محكومين للأتراك ,لخمسه قرون مضت (1516-1916), فكانت البداية حين أعلن العقيد حسني الزعيم,(بدعم أمريكي )في صباح 30/3/1949البلاغ رقم واحد للانقلاب , وتم له الاستيلاء على السلطة في سوريا ثم توالت الانقلابات فيها, وانتقلت العدوى إلى الكثير من الدول العربية المستقلة حديثا تباعا , كالضباط الأحرار في مصر ,ضد الملك فاروق,وعبد الكريم قاسم ضد الملك فيصل الثاني في العراق ,رغم آن هذه الدول العربية الثلاث كانت فيها حكومات برلمانية وأحزاب وحياه سياسية ,وبعدها وقع العالم العربي في دوامه من الانقلابات( السودان )( ليبيا ) ( اليمن )( الجزائر ) الغريب آن بعضها يتم داخل اسر وراثية حاكمة , وآما ما يسمى بانقلاب حماس في غزه , فهو بالتأكيد ناتج عن عدم اقتناع عسكر فتح بالديموقراطية التي أوصلت حماس إلى السلطة فبدءوا بمحاربتها والتضييق عليها ,فانقلب إسماعيل هنيه على نفسه , وطرد عناصر فتح من غزة ..... هذه الانقلابات تمت أحيانا بالتحريض من دول خارجية لها مصالحها أومن قادة انقلابيين عرب,نجحت أحيانا و فشلت أحيانا أخرى ولم تختلف الجمهوريات التي جاءت عن الملكيات التي ذهبت ، ولم يعد عهد الاستقلال أفضل كثيراً من حكم الاحتلال. وحدث ما هو أكثر، إذ سعت وتسعى بعض الجمهوريات إلى توريث السلطة إلى الأبناء.........
أما الضباط الإنقلابيون فيعتمدون دائما , الشعارات البرّاقة ، ذات الأهداف الوطنية الكبيرة ,لخداع الشعب ولتبرير استيلاءهم على السلطة ، مثل ( ثورة , تحرير,إصلاح), وشعارات أخرى ، لتبرير البقاء في السلطة والاحتفاظ بها ,منها ( المحافظة على أمن الوطن من المؤامرات ) ( المحافظة على المنجزات والمكتسبات التي حققتها الثورة)(المحافظة على الوحدة الوطنية) إلى آن يأتي انقلاب آخر ويطيح بهم يحمل نفس الشعارات ,وهم طبعا يشكلون قوات خاصة من الجيش واجبها حمايتهم , مثل ( سرايا الدفاع, الوحدات الخاصّة , الحرس الجمهوري) وغيرها ,وأهم ما يميز العسكرية العربية الحالية هي إثبات الولاء المطلق لقائد الدولة وبشتى السبل والعسكر في تعاملهم معه يخافون من مصارحته في كثير من الأمور تجنبا لغضبه( تمام يافندم ) , وهم( مضبوعون) خائفون حين يقومون بعرض الآراء عليه بتحفظ شديد, لذلك تكون عمليه صنع القرار الاستراتيجي مبتورة وغير مكتملة ,وهم في تأكيد الولاء للقائد يبالغون بالعدوانية والشدة والبطش والشك خصوصا في الأعمال الأمنية الداخلية .......
وأما عن علاقة بعض قادة العسكر بالسياسة، هي علاقة جدلية ، وقيامهم بأدوار سياسة داخلية , فهي موضع نقاش , فالعسكري الذي يجيد القتال وتنفيذ الخطط الحربية باحتراف , يعود إلى تعليمه قيم الانضباط والضبط والربط العسكري , وتدريبه وتأهيله وإعداده (كي يقتل آو يقتل) لذلك يتعود على إطاعة الأوامر وتنفيذها عن اقتناع مطلق بدون نقاش وبشكل غريزي (نفذ ثم ناقش) فالجهل بمعرفتها ليس مبررا لعدم تنفيذها ,وعليه أن يتعلم التصرف السليم حتى في غيبه الأوامر والقادة ,حتى لو كلفه ذلك حياته,وقد يصاب بعض الضباط بجنون العظمة ,و الغرور والاستعلاء والخيلاء والتهور , نتيجة طاعة من هم دونهم لهم طاعة عمياء ناتجة عن الخوف,فيعتقدون انهم امتلكوا الحكمة والكمال, فيصبحون معتدين بآرائهم , ولا يقبلون رأي الآخرين , ويشعرون بالاستعلاء على من هم أدنى منهم رتبه وحتى احتقارهم, فهم يعتبرون التفكير والفهم والذكاء يزداد كلما علت الرتبة ( أي على مستوى الرتبة ) ,وذلك نتيجة العيش في مجتمع الجيش شبه المغلق والبعد عن الحياة العامة , التي يفشل الكثير من القادة العسكريين في التكيف معها بعد تقاعدهم ,وحتى عندما يتم تعينهم في المواقع القيادية المدنية , فهم يتصرفون وكأنهم مع عسكر لا مع مدنيين ,فهم لا يقبلون النقاش آو المعارضة ,لأنه متعودين على الطاعة المطلقة من الآخرين لهم , ويفشلون أيضا حتى في اتخاذ القرارات الهامة , لأنهم متعودين على تلقي الأوامر وإطاعتها وتنفيذها ,ولكن ليس ابتكارها ,فهي دوما كانت تأتيه من السياسي , العسكري ينجح فقط في مهمة محدده لها بداية ونهاية ,وحسب خطه موضوعه له ,تجده يبدع في تنفيذها,آما في السياسة, فهو لا ينجح .. ولكن قد يكون لكل قاعدة شذوذ .......
في عالمنا العربي حتى في الدول الغير انقلابيه , تجد العسكر يحكمون فيها بشكل آو بأخر,وهم المفضلون في دوائر صنع القرار والأكثر حظا لتسلم المواقع السياسية الرفيعة مثل رئيس وزراء , وزير , محافظ , سفير , مدير عام , والشاهد على ذلك آن دوله مثل لبنان تعتبر نفسها ديموقراطية , لم تجد في عز أزمتها , غير قائد الجيش ميشيل سليمان ,لتسلم رئاسة الجمهورية ,أليس اجتماعات كونزليزا رايس مع مد راء المخابرات في بعض البلدان العربية مباشرة ,هي الدليل على آن دوائرهم هي التي تدير السياسة الخارجية وتعتبرها شأن آمني ...........
الانقلابات في العالم العربي آدت إلى ضعف الجيوش وكانت سببا في الهزائم العسكرية , بعد آن اصبح الهاجس الأمني سببا في عمليات التطهير المستمرة للضباط داخل الجيوش وتفضيل (الولاء على الكفاءة) ,بل آن الحاكم العسكري من خوفه قد يقوم بالانقلاب على نفسه ,ليتخلص من خصومه آو من يشك بولائهم والأنظمة العسكرية الديكتاتورية لا تحب المتعلمين والمثقفين من أبناء الشعب,وهي قامت على الانفراد بالحكم، و القمع ، ومحو التعددية السياسية، وتبنت أكثرها نظام الحزب الواحد الأوحد واطروحات الاشتراكية بدون مشاركة شعبية ،وبتنظيم سياسي واحد، يدعي المعرفة المطلقة بالحقيقة السياسية ويحتكرها، ولا يقبل على وجه الإطلاق أي معارضة لسياساته، حتى لو أدت به إلى الهزيمة العسكرية على يد أعداء الأمة العربية.......
فما الذي يبرر بقاء الحكم بيد العسكر؟؟, هل هي مقولة أننا كعرب تعودنا على الاضطهاد والظلم عبر تاريخنا ؟؟, ام الجهل والتخلف ,الذي أدى إلى جهل الشعوب بحقوقها ، وجهلها بأساليب الاحتفاظ بها, و تناقضات المعارضات فيها ، وتشتّت آرائها ، وتباين مصالحها ،وقناعاتنا بالفكر الشمولي؟؟, لذلك على قوى الإصلاح والتغيير في المجتمع إن كانت جادة ، مثل الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وقوى المعارضة والمستقلين والمثقفين والكتاب، آن يدعوا من خلال برامجهم وكتاباتهم ودراساتهم إلى التغيير والإصلاح، ونشر الوعي , ويسعون من خلال عملهم لتصبح هذه الدول دول مدنية حديثة، دولة حق وقانون ومؤسسات، يسود فيها الدستور وتنفصل فيها السلطات، ويكون فيها الشعب هو مصدر السلطة, فالحرية تؤخذ ولا تعطى ؟؟............
وبالعودة إلى موريتانيا ونظريه المؤامرة ,هل اكتشاف النفط والغاز فيها بكميات كبيرة ، يعزز من أهميتها ؟؟ مثل إقليم دار فور السوداني , وهل آن الغرب قرر اعتماد أساليبه القديمة بعد اكتشافه آن الديمقراطية التي يلوحون بها في البلاد العربية , تمثل مغامرة غير مأمونه العواقب؟ , وسوف تأتي بعناصر رافضة لسياساتهم وتهدد مصالحهم , فقرروا العودة إلى الاستعانة بالعسكر, للقيام بديموقراطية تكون تحت السيطرة , شكلية , زائفة غير حقيقية توهم الناس , لذلك حصل ما حصل في موريتانيا كتجربة ناجحة ، فهل نشهد انقلابات جديدة في العالم العربي تسير في هذا السياق , اسهل عليهم من تفكيك ألا نظمه الحاكمة المعارضة لهم بالتدخل العسكري المباشر كما حصل للعراق...ام انهم يدرسون كل بلد عربي على حده , ويفعلون به ما يناسبه من تغيير لمصلحتهم ........ وأخيرا أقول لقائد الانقلاب الجديد الجنرال محمد ولد عبد العزيز آن لا ينخدع بتأييد بعض الموريتانيين له كما ورد على لسان شاعر موريتاني خاطب الجنرال محمد ولد فال عندما نفذ انقلابه ضد معاويه ولد الطايع قائلا له ..... .. (لا تدع تأيدنا آن يخدعك ...فقد كنا معه وها نحن معك).