07-01-2015 09:00 AM
سرايا - سرايا - للوهلة الأولى، تبدو المدينة الثانية في العراق، الموصل، نموذجا للنجاح لحكامها الجدد التابعين للدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، أكثر الجماعات التي يخافها العالم. الطرق المعبدة مليئة بالسيارات ويرتفع صوت الكهرباء والمقاهي مزدحمة.
ولكن في الأزقة الخلفية، تملأ القمامة الشوارع. تبقى الأضواء مضاءة، ولكن فقط لأن السكان المحليين تلاعبوا في المولدات. وخلف دوي أجهزة التلفزيون في المقهى، يتذمر كبار السن من الحياة في ظل الخلافة التي نصبت نفسها بنفسها.
وقال أبو أحمد، الرجل الهادئ ذو الأربعين عاماً والشارب الرمادي الكبير: "عندما كنت في السابعة من عمري بدأت الحرب ضد إيران. ومنذ ذلك الحين، ما زلنا في حالة حرب.. لقد تحملنا عقوبات دولية وفقرا وظلما، وكل ذلك لم يكن أسوأ مما هو عليه الآن".
مثله مثل جميع الذين تمت مقابلتهم لأغراض هذه المقالة، تم تغيير اسم أبو أحمد حفاظاً على سلامته.
رحب أبو أحمد في البداية باجتياح داعش - الذي سيطر على أكثر من ربع العراق وسورية - هذا الصيف. وقال، إنه ليس وحده: "شعر المسلمون السنة في كلا البلدين بالتمييز ضدهم منذ فترة طويلة من الأنظمة التي تهيمن عليها الطوائف المتناحرة - في بغداد، الأغلبية الشيعية في العراق. في دمشق، الطائفة العلوية الأقلية، وهي فرع من الإسلام الشيعي.
أنصار داعش قبلوا كل شيء – بدءا من الرجم وقطع الرؤوس وانتهاء بالضربات الجوية اليومية من قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة - ولكن من دون اقتصاد يعطي الناس فرصة لكسب العيش، يقول العديد إن داعش لا تستطيع تقديم أكثر مما قدمته الأنظمة التي حل محلها.
يقول محمد، وهو تاجر من الموصل، "بالمقارنة مع الحكام السابقين، التعامل مع داعش ليس أسهل. لا تزعجهم وسيتركونك وشأنك.. لو أنهم يتمكنون من الحفاظ على الخدمات فقط، سوف تدعمهم الناس حتى اللحظة الأخيرة".
نتيجة لهذه الأشياء بالغة الأهمية، يقول السكان المحليون إن داعش تفقد بريقها: للتنقل عبر "الدولة"، يحتاج المسافر إلى ثلاث عملات مختلفة؛ منظمات الإغاثة توصل الدواء لأغلب المناطق؛ والرواتب غالبا ما تدفع من قبل العراق وسورية - الحكومات التي تحاربها داعش.
وبدلا من تولي مقاليد الدولة، غالباً ما تساهم داعش في إضعافها من خلال الابتزاز.
يقول مدير شركة "يوتيسينسيس" لخدمات المخاطر، كيرك سوويل،: "في المدن السورية في الرقة ودير الزور، يمكن أن نقول إنهم يؤدون وظيفة تقترب من وظيفة الدولة، ولكن لا يوجد مكان في العراق تعمل فيه بشكل يشبه الدولة بأي من الأشكال".
وأضاف: "يعملون وكأنه نظام خليط بين مافيا ومقاومة وجماعة إرهابية. ربما كانوا يعتقدون قبل ستة أشهر أنهم في طريقهم ليعملوا كدولة، ولكن لا يمتلكون موارد بشرية أو قوى عاملة".
قمع داعش والقيود المفروضة على وسائل الإعلام تجعل من الصعب تصور كامل نظام إدارة المجموعة، ولكن من خلال سلسلة من أكثر من عشر مقابلات مع السكان، وزيارات إلى مناطق داعش من صحفيين محليين، وجدت صحيفة "الفاينانشال تايمز" أن محاولاتها للعمل على مستوى دولة فشلت حتى الآن في كسب جانب السكان المحليين.
في بعض الحالات يقولون إن داعش تتباهى بالنظام الموجود والمعمول به من قبل أن تستولي على السلطة؛ في حالات أخرى، يقول السكان المحليون إنها سرقت موارد المنطقة التي تسعى لحكمها.
في حزيران (يونيو) الماضي، قام مقاتلو داعش بجرف النقاط الحدودية السورية-العراقية، وأعلنوا نهاية اتفاقية "سايكس-بيكو"- الاتفاقية التي قسمت الشرق الأوسط بين السيطرة الفرنسية والبريطانية – وأنتجوا مجموعة من الأفلام عن متطوعين يوزعون أكياسا من القمح مختومة بخاتمهم الأبيض والأسود، حتى أنها أعلنت عن خطط لإصدار عملة، ونشرت المجموعة تصميما للدينار الذهبي الجديد في شوارع الموصل ووزعوا منشورات في الرقة، في شمال سورية.
في الظاهر، تبدو هذه المشاريع مثيرة للإعجاب، وخاصة للناس الذين يعيشون في حالة من الفوضى في شمال سورية، حيث كانت الجماعات المتمردة المتنافسة تحاول الإطاحة بحكومة الرئيس بشار الأسد في الحرب وغير قادرة على فرض النظام.
ولكن بالنسبة لأولئك الذين يسافرون على طريق ترابي وعر بين الموصل والرقة، فالحدود لم تتغير، حتى لو قامت داعش بتخفيض عدد المعابر. يحب المسافرون حمل الدينار العراقي لاستخدامه في العراق، والدولار الأميركي للطريق والليرة السورية بمجرد وصولهم.
إذا كانت "خلافة" داعش دولة، ستكون دولة الفقراء. معظم السوريين في المناطق يكافحون من أجل الحصول على نحو 115 دولار شهرياً، بينما يحصل المقاتلون الأجانب مع داعش على خمسة أضعاف ذلك.
في سورية، تضاعف سعر الخبز تقريباً إلى ما يقرب الدولار، حوالي ثلث الدخل اليومي للمدنيين السوريين.
وعلى الرغم من أن الموصل قطعت عن شبكة الكهرباء العراقية عندما استولت عليها داعش هذا الصيف، ما يزال فيها كهرباء، لكن في المجمل هذا الاستمرار جاء نتيجة لجهود من السكان المحليين، الذين اشتروا ونصبوا مولدات للحفاظ على الكهرباء في أحيائهم.
في المناطق السورية التي تحكمها داعش، ماتزال الكهرباء تعمل لبضع ساعات في اليوم من خلال نظام الأسد.
المهندس محمود، وزملاؤه، ما يزالون يعملون في محطات توليد الطاقة نفسها؛ حيث عملوا لسنوات قبل استيلاء داعش عليها. ولكن مع أن سلطة النفط والغاز التابعة للجماعة المسلحة تشرف عليهم الآن، ما تزال دمشق هي التي تدفع أجورهم.
الآلاف من موظفي الخدمة المدنية يعملون تحت نظام مماثل في المناطق السورية والعراقية التي تسيطر عليها داعش؛ حيث يخاطر السكان المحليون برحلات طويلة وخطيرة ليتسلموا رواتبهم من بغداد.
سيطرت داعش على ثلاثة سدود ومحطتي غاز على الأقل في سورية كانتا تستخدمان لتشغيل الكهرباء للدولة. بدلا من المخاطرة باحتمالية تفجير مساحات شاسعة من شبكة الكهرباء، يبدو أن دمشق قد توصلت إلى اتفاقية مع داعش.
يقول محمود: "تحكم داعش مصانعهم وتتيح لموظفي الدولة العمل.. تحصل بالمقابل على كل الغاز المنتج لأغراض الطهي والبنزين وتبيعه، ويحصل النظام على الغاز اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء، وكذلك يرسل بعض الكهرباء إلى مناطق داعش.
لا تقتصر مشاركة حكومة الأسد على دفع رواتب العاملين في مصنع الغاز، ولكن يقول العمال، إنها أيضاً ترسل قطع غيار من الخارج وترسل متخصصين إلى المنطقة لإجراء أعمال الصيانة. يقول محمود: "أنا ضد داعش من كل قلبي... لكن لا يمكنني إلا أن أعجب بذكائهم".
يقول باحث مستقل في العراق، سجاد جياد، إن داعش تناضل من أجل تحقيق التوازن في ميزانياتها، ولكن الدوائر ما تزال تعمل لأن بغداد ما تزال تدفع رواتب لموظفي الخدمة المدنية في الموصل.
ومن جانبها، تقوم داعش بفرض ضرائب على هؤلاء الموظفين تصل إلى 50 % من رواتبهم.
يقول أيضاً: "تعتمد داعش على قدرتها على الاستيلاء على الأراضي والموارد لمواصلة تمويل المناطق القائمة.. يتم تشغيل التوسع في بعض الأحيان من خلال تابعين يستخدمون نفس العلامة التجارية لداعش ولكنهم في الواقع مرتزقة محليون. يبدو الأمر كما لو أن داعش تمول نفسها جزئيا من خلال نظام هرمي بدأت مؤخرا بالتعثر".
الخدمات الأساسية تعمل بشكل سيئ، ولكن الخوف يمنع الناس من التحدث علنا.
أضاف: "انخفضت خدمات الكهرباء والوقود والأدوية والمياه، ولكن الناس على قيد الحياة".
وبالرغم من أن العديد يشككون الآن في الإدارة الاقتصادية لداعش، فإن براعتها العسكرية ومهاراتها التنظيمية واضحة. وعلى الرغم من ضربات التحالف، التي أخرت من تقدمها، تسيطر داعش على مساحات ضخمة من الأراضي تشمل ما يصل الى ثلث العراق وربع سورية.
يرى البعض أن بعض سياسات داعش أفضل من الأنظمة السابقة. تسمح داعش بسهولة الحركة خلال أراضيها لتسهيل التجارة. يتم فرض ضرائب على الشاحنات التي تمر، تبلغ حوالي 10 % من قيمة حمولتها. بعض رجال الأعمال في منطقة كردستان في شمال العراق، الذين يقودون شاحنات عبر أراضي داعش يرون أن ما تقوم به داعش "ملائم للأعمال التجارية".
كما أنه من السهل نسبيا إنشاء مشروع تجاري - لا توجد رسوم مبدئية بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في فتح متجر، على الرغم من أنهم يضطرون لدفع ضريبة مقدارها 2.5 % من إيراداتها بعد كل عام.
ولكن للسكان المحليين، لا تقدم هذه السياسات فائدة تذكر. هناك فرص عمل قليلة في منطقة الصراع، وعادة يتدبر السكان أمورهم من خلال مساعدة تصلهم من أقربائهم الذين فروا إلى الخارج.
في محافظة دير الزور شرق سورية، حيث تتواجد معظم آبار النفط في سورية، يشكو السكان المحليين من أن داعش استولت على مواردهم. يقول مهندس الغاز محمود مازحاً: "اذا لم يأخذوه، يفرضون عليه ضريبة". وتعتبر داعش – التي يقدر أنها تسيطر على ما يقرب 40,000 برميل يوميا من إنتاج النفط في شرق سورية - أغنى جماعة متشددة في التاريخ، مما يضع دخلها عند مليون دولار يومياً من النفط والابتزاز.
وقد حاول التحالف تفجير مصافي النفط المؤقتة لإيذاء داعش اقتصادياً، ولكن السكان المحليين يقولون إنه ليس لهذه التفجيرات تأثير يذكر. تجني داعش الجزء الأكبر من أرباحها من خلال بيع النفط الخام من آبار النفط إلى وسطاء تركيين وسوريين وعراقيين، ويقوم الشركاء المحليون بتصفية النفط وبيعه. ولكن بخلاف هؤلاء التجار، يقول معظم السكان إنهم لا يرون شيئا من تلك الثروة النفطية.
وقال باسم، وهو موظف في مستشفى في دير الزور، عندما بدأت الحرب الأهلية في شرق سورية قبل عامين، تحولت المنطقة من منطقة يسودها الركود والفقر إلى مدينة مزدهرة عندما سيطر الثوار والقبائل على الثروة النفطية المستخرجة سابقا والمستخدمة من النظام. "بدأت ترى السيارات الفاخرة والمحلات الجديدة. كان الناس في وضع جيد حقا"، يقول باسم.
ولكن في ظل داعش، تسوء الظروف الاقتصادية بشكل مطرد. "لا توجد إدارة اقتصادية لداعش - لا يوجد سوى ناس يأخذون النفط ويقسمونه بين الأمراء ويرسلونه إلى الخارج. أين؟ نحن لا نعرف. جزء صغير جداً يعود إلى الشعب".
حاولت داعش تنصيب نفسها كحاكم عادل عن طريق تحديد الأسعار على كل شيء من الخبز إلى الولادة القيصرية، التي تكلف نحو 84 دولارا. لكن يتجاهل السكان المحليون بشكل روتيني سقف السعر، بحسب باسم، لأنه من المستحيل المحافظة على مثل هذه الأسعار نظرا للتكاليف المرتفعة للوقود والنقل. "لا تدرس داعش السوق، ولا تحسب التكاليف.. سقوف الأسعار عبارة عن مهزلة".
لأنه يعتبر نفسه مسلما سلفيا محافظا، قال إنه كان متعاطفا مع أيديولوجيا داعش عندما سيطروا في البداية، ولكن أمله قد خاب بسرعة مع تدهور الأوضاع الاقتصادية. وقال مازحا: "قد أكون سلفيا، ولكني لست أحمق".
مستشفى باسم يعمل على الحدود القصوى للأسعار عن طريق فرض رسوم على المرضى على كل شيء ابتداء من الكهرباء وانتهاء بالأدوية. "عندما لا يكونون (داعش) في الجوار، أطلب أعلى سعر... السكان المحليون يحسون معنا. الأسعار ليست عند المستوى الذي تدعيه داعش، لأنها لا يمكن أن تكون عند هذا المستوى".
غالبا ما ترسل منظمات الإغاثة الدولية الأدوية والمستلزمات، التي تسمح لها داعش بالمرور بدافع الضرورة. العراقيون يرون هذه الممارسة في مستشفيات الموصل أيضا.
في حين أنه من المستحيل معرفة مدى عمق الإحباط الناتج عن سياسات داعش؛ حيث إن البعض وبلا شك يستفيدون منها، كل الذين تمت مقابلتهم قالوا إن دلالات وجود سخط تزداد.
عندما جاء أعضاء داعش مؤخرا لجمع الضرائب على الكهرباء في الرقة، أصاب ميكانيكي السيارات غضب إلى درجة أنه صرخ عندما اقتربوا من مرآب منزله: "كيف يمكن أن تطلبوا رسوما على خدمات متاحة بضع ساعات في اليوم فقط؟".
إذا ذهبنا باتجاه الشرق، إلى مسجد في مدينة الميادين السورية، ناشط سابق نظم احتجاجات مناهضا للأسد، يقول: إنه شهد مشهدا مألوفا بشكل مخيف. بعد صلاة الجمعة، قام إمام بتقليد ممارسة كانت شائعة في عصر سيطرة الأسد، عندما كان يطلب من المصلين الدعاء لرئيسهم. هذه المرة، طلب منهم الدعاء لزعيم داعش أبو بكر البغدادي.
من الجزء الخلفي من الغرفة جاءت همسات خافتة ولكن مسموعة: "لينصرف"!.
إيريكا سولومون/ فاينانشال تايمز