حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,26 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 22437

عباس بيضون شاعر السيرة بظلال سردية

عباس بيضون شاعر السيرة بظلال سردية

عباس بيضون شاعر السيرة بظلال سردية

10-01-2015 10:03 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - سرايا - خمس وثلاثون قصيدة في سبعين صفحة، في توزيع لا يكاد يخرج عن صفحتين على الأكثر لكل قصيدة.

هذا هو التشخيص العام للشكل البصري/ الكمّي لمجموعة عبَّاس بيضون الجديدة «صلاة لبداية الصقيع"- دار الساقي 2015 ولا أقصد بالتشخيص للشكل هنا معنى نافلاً، وإنما بوصف الشكل الشعري الذي يلتزم بيضون بديباجته الظاهرة، يشير إلى استراتيجية مقصودة لما يكتبه، فهو يستجيب إلى حدِّ واضح إلى وصايا النقد الفرنسي عن حجم قصيدة النثر. لكن تلك الاستجابة في الحجم لا تنسحب على مجمل خصائص الشكل الشعري الذي يكتبه صاحب «صُور» و«الوقتُ بجرعات كبيرة» في هذا الديوان، إذ لا يلتزم هنا التزاماً كلياً بالتسطير الكتلوي المتصل للنص كما أوصت به النماذج الفرانكفونية البارزة لقصيدة النثر، بل انه يلجأ، في عدد من القصائد وبتعمَّد على ما هو ظاهر، إلى الخروج نحو السطر المقطَّع في النموذج الأنكلوسكسوني، لدى والت ويتمان تحديداً، لكتابة القصيدة الحرَّة، الحرة من الوزن، وليست القصيدة الخارجة من البيت الإيقاعي نحو التفعيلة.


وفي المضمون العام لقصائد الديوان نجد أغراضاً شعرية مختلفة، لا مناخاً موضوعياً واحداً. بل أنَّ عنـــوان الديوان ليس بالعنوان الجامـــع المانع الذي يوحي بتجربة محدَّدة، إنما هو استعارة لأحد عناوين القصائد في المجموعة. إذاً فثمة وحــدة موضوعية مكتفية بذاتها، في القصـائد المتفرقة لا في الديوان كعـــملٍ شامل بمفهوم «الجشتالت» الكلـي وهو ما لا يمكن تجاهله في أي عــمل أدبي في شكل عام. ومع هذا نلمــح إشارات «إلغورية» في الديوان تــوحـــي بأن «الصقيع» الذي استدعى إبرازه على غلاف الكتاب، هو تلميح لتلك الإشارات المتفرقة عن استشعار أو ربما استدعاء لطوفان ما، في هذا العالم الشقي، ولذا نقرأ إحالات متضمِّنة إلى نوح في أكثر من مكان في قصائد الديوان. أما صقيعه فهو ليس شخصياً تماماً بل هو ملتبس بالصقيع العام حوله فهو يشبه فصوله المتداخلة، صقيع تجتمع فيه «النملة بالذبابة» و«النحلة بالكلمة». ذلك أنّ «الأزهار مريضة» و«لن أستطيعَ بِكلِّ المعجمِ الذي حصلته أنْ أصنعَ عقاراً للشَّباب»


ثمة لعب على التقويم الزمني لكن أي زمن؟ التاريخ أم الزمن الميتافيزيقي؟: «لم يكن اليوم الثامن من الزمن، كان غداً طويلاً يأتي في أي وقت، ويبقى إلى أن لا يعود هناك سنة ولا فصول، بل شطرنج كبير ملوكه متنكرون وجنوده كذلك» إذن هي الأبدية الوجيزة الممتدَّة ما بعد الخلق والأرض معركة لا تنهي تدور رحاها على رقعة الشطرنج، والحياة هي اللعبة، والبشر في كل العصور هم أدوات تلك اللعبة.


هلامية الزمن هذه، وتداخله كما هو شأن عناصر كثيرة في الديوان، تبدأ من قصيدة «أربي قلباً» أولى قصائد الديوان، فهي تستعيد حدثاً في التاريخ، ناقصاً أو غامضاً فهو محدَّد باليوم لا بالسنة «14 شباط ذات عام على طريق الأرز، على رغم أنه «لا اسم له» هذا اليوم لكن «وستنُتج منه نسخاَ كل يوم!» وعلى رغم ما قد تحيله ذكرى هذا اليوم من دلالة في تاريخ لبنان الحديث، فإن القصيدة تنحرف عنه وتتفاداه إلى تفاصيل لا شأن له بها، فـ«هناك مفاتيح بتواريخ محددة» إنه تاريخ شخصي. متشظٍّ في العام، ومتسرِّب من ذاكرة الشاعر. فهل كانت قصيدة «أنا» حادثاً شخصياً ونسخة من ذلك اليوم؟ القصيدتان تُسردان بضمير المتكلم وهذا الضمير نادر في قصائد الديوان لصالح ضمير الغائب، إنها تلك الصلة والتداخل بين الحدث الجماعي والحادث الشخصي ما جعل القصيدتين تكتبان بلسان الحال! لكن حتى «الأنا» في القصيدة التي حملت هذا العنوان بدت في صوتها الداخلي التأملي غريبة عن الذات، بالمعنى الفلسفي لا النفسي فهي تبدأ هكذا: «أنظر إلى الشاشة، هذا رجل ليس له كلامي ولا وجه! مع ذلك أقول: إنه أنا»


ومع أنَّ السطر الذي يليه يبدو متصلاً بصرياً وكتابياً، إلا أن ثمة مساحة واضحة تشبه تلك المسافة بين «الذات» و«الأنا» في القصيدة وهو ما يفسر التشظي الذي بدأت به القصيدة: «تلك الحافلة التي دَهَسَتني نثرتني على الشاشات خرجتُ من تحت عجلاتها بروح صغيرة حملتُها كشمعة، لكنها ذابت في داخلي» هل هي محنة «أنا» الجسد بعد حادث السير الذي تعرض له عبَّاس قبل سنوات؟ على الأغلب هو ذاك.


وبنبرة مشابهة نعثر على ظلال سِيرة في جانب آخر من القصائد وهي النبرة الأكثر حرارة في الديوان «قصيدة نقود لمواصلة أحلامي» و«قصيدة إلى أختي» «ذكرى من السجن» و«مقطوعة من حياتي» والأخيرة نموذج لتخارج الذات وتشيؤها حيث نقع على الاغتراب مكثفاً في هذه القصيدة.
وعدا عن ظلال السيرة يحفل الديوان بقصائد وصفية، وشعر الوصف ينطوي غالباً على تأمل وعزلة، فحتى حين يتحدث عن الحشد يصف ما يراه ويستبطنه، خالقاً مسافة نوعية تأملية ليس عن الآخرين فحسب بل ربَّما حتى بما يجعل الذات «شيئاً» و«آخرَ» : قصيدة «متقاعدون» نموذج لطبيعة تلك المسافة المفترضة. فهو «يكتب بورتريه» ليس للآخرين تماماً، بل ربما لشخصه وهو على تلك المسافة المفترضة عن الآخرين.


هذا الحس الوصفي يتضارع مع الاختزال في عناوين القصائد فأغلبها يتألف من كلمة واحدة معرفة بأل التعريف تحديداً، ولذا تبدأ القصائد كأنها تعريفات للجانب الآخر من الكلمة، الجانب الملتبس قدر وضوحه، وبهذا المعنى فإن الديوان أشبه بمعجم للظلال الأخرى للأشياء، معجم لا ليتولى توضيحها بل ربما العكس يجسِّد الحيرة إزاء تلك الكلمات البسيطة، فهي في الواقع ليست مجرد كلمات أو أشياء، إنها بلاغة غير عاقلة أو إشارات مكثفة لعوالم ترتبط عادة بالغيب وغير المحسوس على رغم كل محاولات الحواس لاقتناصها ووضعها في إطار لصورة ما. فالصمت في دوران، ففي اللحظة التي لا نجد فيها كلمة لنا «يلوح الخيط المدفون فينا كفكرة وربما كاسم، وربما كنصل» هل يسعى الشاعر إلى القول؟ أم إلى تعقيد إخباره عما حوله؟ وهل هو تعقيد بلاغي، أم تعبير عن حيرة فلسفية؟
شعر عبَّاس بيضون في هذا الديوان، يتولى ترتيب أولويات تلك الأسئلة فهو ليس إفصاحياً، بل هو تكثيـــف لمـــا حـــوله من غامض. وبما أن شعــر الوصف يسعى إلى استبطان الخارج، لا نقله كما هو، سيظهر لكل شيء من حوله جانب خفي وغيبي ينتمي إلى أزمنة وتواريخ وأساطير، حتى وإن بدا ذلك الشيء موغلاً في عاديته، فشعر الوصف في عصر الحداثة لا يكتفي بأنسنة الأشياء بنزعة رومانسية موروثة، بل يضفي عليها طابعاً سحرياً وغيبياً.


في الشكـــل العـــام تتجلى قصيدته تكثـــيفاً للشكل السردي، وقد يبدو هذا الأمر طبيعياً لشاعر كتب الرواية وجـــرَّب متعة السرد، لكن: أين هي الحدود الأجناسية الفارقة في الكـــتابة الأدبية؟ لا شكَّ أنها متشابكة بل ومتماهية إلى حد بعيد، كتداخل أشياء حيوية أخرى في تعقيدات الحياة المعاصرة، لعل أبرزها التداخل «الجنساني» بالتوازي مع هـــذا التداخل والاشتباه «الأجناسي» في عصر ما بعد الحداثة في الثقافة الغربية.


ومن هنا بدت قصائد عباس هُجنةٌ أو لنقل «خلاسية» مختلطة الجينات، ربما بسبب تعدد المصادر، فهي في معظمها هياكل لقصص قصيرة جداً، وما يمنحها الإهاب الشعري حقاً تلك الحبكة الغامضة، حتى البوليسية أحياناً، وذلك التأويل المشاكس، فهو سيء الظنَّ بتجليات الأشياء، لا ينصرف إلى شيئيتها المحضة، بل يتعقَّب روحانيتها المخفية خلف خريطة الأيام العادية. يتعقبَّها بنزعة لا تخلو من «هرمسية» لكن ما يتخفَّى خلف عباراتها ليس لاهوتاً دينياً واضحاً، بل لاهوتٌ شعري، لاهوت الماورائية خلف تلك التجليات العادية للأشياء والأشخاص حيث أشخاصه وأشياؤه، على رغم يومياتها وعاديتها، سرعان ما تتلفَّع بتلك الكتلة من الظلال الظلامية، بنوع من السحر والإشارات، هي هرمسية أقرب إلى أجواء مونتالي والمدرسة الإيطالية، منها إلى تلك الأجواء المغلقة لدى مالارميه وبقية الشعراء الرمزيين في فرنسا، لذا ستبدو قصيدة عباس عسيرة في مستواها الباطني، أكثر من كونها معمَّاة. عميقة على رغم بساطتها الظاهرة، فهي تنطوي كذلك على شحنة «سوريالية» في صور من البلاغة المنحرفة عن المعهود والواقعي. وأقول في الصورة، لأنَّ القصيدة بحدّ ذاتها تلتزم ببناء محكماً، ولا تتداعى بتلقائية، بينما ثمة في ثناياها تلك الشحنة من الأشباح والأشياء المتجاورة على رغم شتاتها الدلالي.


قصيدة «الغراب» نموذج مناسب لذلك، وهي في الواقع تصرف الذهن على نحو ما ومنذ العنوان إلى غراب «أدغار آلان بو» لكنه انصراف ليس بقصد المحاكاة، إنما للمقارنة، فثمة ما يمكن مقارنته فعلاً في القصيدتين، فكلتا القصيدتين سرديتان، لكن قصيدة بو درامية في بنائها وتقوم على حوار واضح، بينما لا يحضر الحوار في قصيدة عباس فقصيدته نوع من المونولوج، وهي تبدو سكونية في بنائها، غراب بو مرسل، وغراب عباس «يحمل رسالة خطرة في حوصلته» غراب بو كائن مجازي رمزي، بينما لدى عباس هو غراب حقاً، لكن ما يراه عباس خلف صورة الغراب هو المجاز كذلك. غراب بو يلتبس أحياناً بالببغاء فيتكلم عن وحدتهِ ببلاغة حادة، كلمة واحدة تبدو جواباً مقنعاً لأسئلة شتَّى بينما غراب عباس بيضون: غراب وحيد يقف على ساق واحدة أمام شاطئ عدن» لكنه يلتبس في النهاية بـ «عصافير الجو»... لماذا استرعى ذلك الغراب تأمل عباس بيضون في اليمن أرض الغربان والخرائب القديمة؟ ويتأمله قادماً من أزمنة بعيدة قبل أن تتجمع حشود الغربان حوله؟ إنه غراب نوح كما يوحي عباس بيضون في قصيدته وهو الدلالة المختزنة كذلك في قصيدة بو. لكن هل كان بيضون يفكر وهو يكتب قصيدته بغراب اليمن الذي رآه. أم بأدغار آلان بو الذي قرأه؟








طباعة
  • المشاهدات: 22437

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم