17-01-2015 10:25 AM
سرايا - سرايا - حلّت الأيام الأولى من سنة 2015 وحلت معها ذكرى مرور مائة عام على ميلاد الكاتب والأديب والمفكر المصري لويس عوض (1915-1990) هذا الذي كان -من بين الأقلام المصرية والعربية- أغزرها إنتاجا وأشدها تنوعا في الملامح والأبعاد والمشارب، إلى درجة أن نقاده -وما أكثرهم!- لم يُجمعوا على رأي نهائي بشأنه ولم يتفقوا على محله من الإعراب.. بين من يرقى بأعماله إلى درجة الفرادة والإبداع، ومن يرميها بالسطحية والاجترار حد الاتباع.
رجل في غير زمانه
رسميا، واستنادا إلى السجلات المدنية، يُعتبر لويس عوض (هذا الذي رأى النور بمدينة المنيا "عروس الصعيد المصري" في أسرة مسيحية قبطية) من مواليد 5 يناير/كانون الثاني 1915، ولكن مجرى الوقائع غير ما تحتفظ به الوثائق.
فقد حكمت الأقدار على هذا الرضيع الذي جاء إلى العالم فعليا ليلة 20-21 ديسمبر/كانون الأول 1914 بأن يظل طيلة ستة عشر يوما معلقا بين الوجود والعدم، في انتظار أن يرد خطاب من أبيه "حنا عوض" المقيم في السودان يختار له فيه اسمه ويصدع بهويته.
"كان لويس عوض -بشكل ما- امتدادا لجيل الآباء المؤسسين الذين أثروا الثقافة في مصر والعالم العربي بعلمهم وصراعاتهم، كما كان صدى لأحلامهم وتناقضاتهم وخلافاتهم.. إنه ثمرة البذرة التي ألقوها على أديم الثقافة وكانت الجامعة المصرية آنذاك مجال قطافها والبيدر"
لاحقا، أي سنة 1989 وفي صفحات سيرته الذاتية "أوراق العمر" سيعلق لويس عوض على هذه الحادثة قائلا "هو سبب مضحك، ولكنه يدل على مدى سطوة الآباء في ذلك الزمان. ولو أن الخطاب ضاع في الطريق لتأخر قيد ميلادي شهورا".
ومهما يكن من أمر، فالثابت أن "لويس عوض" -منذ نشأته الأولى- كان رجلا في غير زمانه، أو هو -على أقل تقدير- رجل بين زمنيْن. وذلك ما تكشف لنا عنه بجلاء صفحات سيرته الثرية المتشابكة.
لم يُقيّض للويس عوض أن يكون من جيل الآباء المؤسسين الذين أثروا الثقافة في مصر وفي العالم العربي أيما تأثير بعلمهم الغزير وصراعاتهم التي لا تنتهي أمثال زكي مبارك (1892-1952) وسلامة موسى (1887-1958) ولطفي السيد (1872-1963) وعباس محمود العقاد (1889-1964) وشيخ النقاد محمد مندور (1907-1965) وطه حسين (1889-1973) وغيرهم. ومع ذلك، فإن الأقدار لم تحرمه من فرصة التعرف عليهم والاتصال بهم والاستفادة منهم.
لقد كان لويس عوض -بشكل ما- امتدادا لهم وصدى لأحلامهم وتناقضاتهم وخلافاتهم.. إنه ثمرة البذرة التي ألقوها على أديم الثقافة، وكانت الجامعة المصرية آنذاك مجال قطافها والبيدر.
تسليم المشعل
صحيح أن الصراعات المشوبة بالذاتية والظرفية، صراعات العصاميين والأكاديميين و"الأكثر أكاديمية" أمثال "الدكاترة" زكي مبارك والدكتور طه حسين والعصامي/الموسوعي عباس محمود العقاد وغيرهم، قد أنهكت الساحة المصرية وأضاعت من وقتها الكثير.
ومع ذلك فإن هذه الساحة لم تُضِع البوصلة. فقد كان هاجس الجميع فيها -بصرف النظر عن ضغائنهم الشخصية، ومواقفهم الأيديولوجية، ومواقعهم الحزبية المتغيرة- أن يخلقوا جيلا جديدا قادرا على تسلم المشعل وجديرا بمواصلة الرسالة.
"كان هاجس كبار المثقفين في مصر حينها -بصرف النظر عن ضغائنهم الشخصية ومواقفهم الأيديولوجية، ومواقعهم الحزبية المتغيرة- أن يخلقوا جيلا جديدا قادرا على تسلم المشعل وجديرا بمواصلة الرسالة"
وقد كان لويس عوض أحد أفراد هذا الجيل الذي تخرج من الجامعة المصرية، جنبا إلى جنب مع أسماء أخرى عديدة ربما سبقته أو لحقت به سنة أو سنتين، أمثال أمينة السعيد (1914-1995) رئيسة تحرير المجلة النسوية الشهيرة "حواء" وحسين مؤنس (1911-1996) صاحب التحقيقات الفريدة في الأدب الأندلسي، وحسن عثمان (1911-1997) مترجم "الكوميديا الإلهية" لدانتي ألغيري، وعائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ (1913-1998) محققة "رسالة الغفران" للمعري، وشوقي ضيف (1910-2005) صاحب سلسلة "تاريخ الأدب العربي" وغيرهم.
ولكن ما ميز لويس عوض عن أبناء جيله أنه كان رجل المفارقات والمفترقات. فرغم ولعه "الفطري" بالعربية وآدابها، وانبهاره (وهو المسيحي القبطي) بلغة القرآن الكريم وأسلوبه، فإنه اختار أن يتخصص في دراسة اللغة والآداب الإنجليزية.
وبعد أن حاز الليسانس بتقدير ممتاز وبمرتبة الشرف (1937) سافر إلى إنجلترا ليحصل على شهادة الماجستير (1940). ولأن العربية والإنجليزية لم تشفيا غليله، أضاف إليهما الفرنسية وآدابها، وأنجز في أميركا أطروحة دكتوراه حول أسطورة "بروميثيوس" بين الأدبين الإنجليزي والفرنسي (1953).
وبقدر ما كان منجزه الأكاديمي متدرجا في انفتاحه على اللغات واحدة إثر أخرى، كانت الأعمال التي كتبها على امتداد أكثر من نصف قرن تذهب في كل الاتجاهات وتجمع -بتفاوت- بين الشعر والرواية والمسرح والسيرة الذاتية والترجمة والدراسات النقدية والتاريخ والسياسة وعلم الاجتماع.
لقد كان لويس عوض حقا رجل المفارقات الواقف في مفترق اللغات والأفكار والمواقف والحضارات. ومع ذلك، فإن أهم ما سيحتفظ به التاريخ عنه مقدمتان كتب أولاهما في ريعان الشباب، وثانيتهما في خريف العمر.
مقدمتان بقلم واحد
في سنة 1947 نشر لويس عوض ديوانه "بلوتو لاند وقصائد أخرى من شعر الخاصة" وهو ديوان ضم جملة من النصوص الشعرية التي كتبت منذ سنوات الثلاثين.
ولعل أهم ما يلفت الانتباه فيه أنه ديوان مفارقات ومفترقات، فقد كان غريبا مُلغزا إلى درجة أن ناقدَيْن من جيلين مختلفين، ونعني بذلك الناقد الشيخ محمد مندور والناقد الشاب رجاء النقاش (1934-2008) اختلفا في تأويل عنوانه، هل المقصود به "أرض الموتى" أو "أرض الذهب" كما ذهب إلى ذلك مندور، أم المقصود "أرض أفلاطون" كما فهم النقاش.
"ما إن صدر كتاب لويس عوض "مقدمة في فقه اللغة العربية" حتى صودر لأن الأفكار التي انطوى عليها والآراء التي تضمنها بدت حينها -وما زالت تبدو إلى الآن في نظر الكثيرين- مخالفة للأحكام السائدة عن العربية ومكانتها في أفئدة مستعمليها والناطقين بها واللاهجين بذكرها".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن قصائد الديوان كانت صادمة للذائقة الشعرية السائدة، فهي مزيج من الفصحى والعامية المصرية حتى إن القارئ لا يكاد يتبين هل هو إزاء شعر للخاصة أم شعر للحرافيش؟! والأهم من هذا وذاك أن لويس عوض صدّر ديوانه بمقدمة عاصفة لم تُبق ولم تذر.. مقدمة دعا فيها إلى الثورة على عروض الشعر العربي القديم والإطاحة بعموده واستبداله بنغمية أكثر تعبيرا عن الروح الشاعرة.
هذا عن المقدمة الأولى، مقدمة الشاب الشاعر في فورته وثورته. أما المقدمة الثانية، وهي ثمرة الكهولة والشيخوخة فلم تكن مجرد صفحات معدودة بل كانت كتابا كاملا حمل عنوان "مقدمة في فقه اللغة العربية" كتاب صدر سنة 1980 في أكثر من 400 صفحة حاول فيه صاحبه استجلاء الجذور التاريخية للغة العربية في صلتها ببقية اللغات وفي علاقتها بالبيئات المختلفة التي انتشرت ضمنها وأثرت فيها وتأثرت بها.
ولكن الكتاب ما إن صدر حتى صودِرَ لأن الأفكار التي انطوى عليها والآراء التي تضمنها بدت حينها -وما زالت تبدو إلى الآن في نظر الكثيرين- مخالفة للأحكام السائدة عن اللغة العربية ومكانتها في أفئدة مستعمليها والناطقين بها واللاهجين بذكرها.
بين مقدمتَيْن إشكاليتَيْنِ هما أبرز ما نحتفظ به من ذكرى لويس عوض في مئوية ميلاده، تتعاقب أمام أعيننا سيرة شخص هي في الواقع مسيرة جيل بأكمله.. جيل أخذ المشعل عن سابقه بقوة وسعى -بكل ما أوتي من جهد- إلى جعل المعرفة شأنا عاما والثقافة طعاما لكل فم.