27-01-2015 10:18 AM
سرايا - سرايا - في متحف "دلفي" المقام على سفح جبل برناسوس اليوناني، أثار تمثالٌ، يرجع تاريخه إلى ما تدعى الفترة العتيقة في تاريخ اليونان، انتباه زائرة تقف بجواري، وسمعتها تهمس: "إنهم المصريون" .
لم يكن التمثالُ مصرياً، إلا أنه حمل ملامحَ تماثيل ما يطلق عليه "الفن الفرعوني": الوقفة ذاتها التي يقدّم فيها الشخصُ رجلاً ويؤخر أخرى، والذراعان الممتدان على الجانبين باستقامة ملحوظة، وتسريحة الشعر المميزة . . وبقية التفاصيل .
أخذت الأمرَ، من جانبي، المأخذَ المألوف، هاهنا يظهر تأثير مصر القديمة على بواكير الفن اليوناني، ولكن كيف؟ ومتى؟ لا أدري . وظل السؤالان معلقين إلى أن ظهرت أطروحة مارتن بيرنال 1937-2013 في تسعينات القرن العشرين تحت عنوان "أثينا السوداء"، وأشاعت القول إن أصول الحضارة اليونانية ذات منشأ شرقي، وتحديداً ذات منشأ كنعاني - مصري قديم . والسبب، حسب اعتقاد بيرنال، هواستيطان أو استعمار هؤلاء الشرقيين لأرض اليونان، وكأن لاسبيل لانتقال بوساطة التجارة والزيارة وتبادل السفارات والخبرات .
كان هذا موقف أولي ملموس أصادفه في سياق نظرية انتشار التأثيرات الحضارية من منطقة إلى أخرى . ولكن الأمر سيثير المزيدَ من الفضول حين أصادف فناناً نرويجياً مثل إدفارد مونش 1863-1944 تشتهر له لوحة تحمل عنوان "الصرخة"، وأعرفُ، كما عرفت الأوساط الفنية، أنها رُسمت تحت تأثير صورة مومياء تعود إلى حضارة "الأنكا" في بيرو محفوظة في متحف الإنسان في باريس، ويجيء بعد ذلك فنان صيني من هضاب التبت فيجد قرابة بين صرخة مونش وخطوط لوحة "الماندالا" الممثلة لعجلة الحياة والموت في المعتقدات التبتية . وتمد هذه الدورة من دورات اللحظات الفنية قوسها إلى فضاء الثقافة العربية، فأجد الفنان سامي محمد (1943- ) يستوحي تمثالاً شهيراً له من تمثال فخاري يعود إلى حضارة من حضارات المكسيك القديمة، المايا كما أعتقد، تمثال سجين مقيد إلى جذع شجرة يتحول على يد النحات الكويتي إلى سجين مقيد إلى عمود، إلا أنه غاضب يكاد يقتلع العمود بحركة عنيفة .
إذا انتقلنا إلى لحظة فنية أخرى، وهذه المرة في مجال الأخيلة الروائية، سيقال لنا إن ثلاثية الشاعر الإيطالي دانتي الليجيري (1265- 1321)، الأعراف والجحيم والجنة، مستوحاة من "رسالة الغفران" المنسوبة في التراث العربي للشاعر "أبو العلاء المعري" (973-1057)، ولكننا نتساءل، هل هذه الرحلة المتخيلة لبشري إلى السماء ابتكار حصري للمعري؟ الجواب سيكون لا بالتأكيد، لأن أمثال هذه الرحلة سجلتها أخيلة السومريين والبابليين في عراق الأزمنة السحيقة، وبخاصة في أسطورة صعود "آدابا" على ظهر نسر إلى مقام السماء، وعودته خائباً بعد أن حمل معه توصية خادعة، بأن لايتناول ما يقدم له من شراب، وليكتشف فيما بعد أن ما رفض تناوله كان شراباً يفتح له بوابة الخلود .
إذا تركنا الأساطير جانباً، سنجد لدينا المزيد من تنقل اللحظات الفنية، سنجد أقاصيص "ألف ليلة وليلة" تتمدد في أكثر من ثقافة، فلها جذور في ثقافات شرقي آسيا، في كوريا بخاصة، ولها امتدادات في أوروبا حين تجسدت محاكاتها في الليالي العشر (ديكاميرون) للإيطالي جيوفاني بوكاتشيو (1313-1375)، و"أقاصيص كانتربري" للإنجليزي جيفري تشوسر (1343-1400) . وسنجد أكثر من نسخة لقصة "سندريلا"، المعتقد أنها غربية حتى الآن، في آدابنا الشعبية، سورية وخليجية . . إلخ، وصولاً إلى الصين حيث تتخذ سندريلا اسم "يي شان"، وتحل سمكة ذهبية محل الساحرة ذات العصا، وتنقل سندريلا من بؤس المطابخ ورمادها إلى نعيم القصور وأضوائها .
هنالك أكثر من "مصادفة" من هذا النوع، هذا إن جاز لنا أن نسميها مصادفات، ولكنني في ضوء تعدد الشواهد وتنّوعها، أصلُ إلى مسألة لم تكن تخطر على البال، إن هذه لحظة من اللحظات تجسّد علو اللحظة الفنية على الزمان والمكان، أي تخطيها كونها تقليداً ينتقل بالمحاكاة وإعادة الصياغة أو السرقة أحياناً، وتحولها إلى سمة أساسية من سمات الفن، أعني أنها نتاج شروط نفسية وحضارية، قد لاتكون بالضرورة تقليد فلان لعمل من أعمال فلان، أو محاولة سرقة إبداعه . ربما يفجر هذه اللحظة نبأ أو خبر أو إطلاع عابر على صورة، ولكن شروط إبداع هذه اللحظة الفنية تكمن في شخصية ثقافة من الثقافات، فتستدخل هذه الشخصية النبأ أو الخبر أو الصورة وتحولها إلى نسخة خاصة بها .
ما هذه الشروط التي تتيح مثل هذا التفاعل الشبيه بالتفاعل الكيميائي؟ إنها الإمكانية الكامنة في هذه الثقافة أو تلك على الانفتاح والاختيار . ومؤشرات هذه الإمكانية جملة من المضمرات، تهيؤ لاطراح الأفكار المسبقة، وتنكب طرق التقليد، وإعادة النظر النقدية في مختلف السياقات بلا رهبة ولا خوف .
إن حوار أي ظاهرة مع سياقها حواراً إبداعياً يخلق سياقاً جديداً لها، ويخلق معنى غير مسبوق، وهذا هو المغزى الحقيقي للقول إن السياقات هي التي تخلق المعنى، وتمنح الهوية التي لاتتوقف عن التشكل قواماً . وحين يكون الحوار بيننا وبين سياق بهذا الاتساع والغنى، أعني الموروث الإنساني، ستكون لنا لحظتنا التي نعلو بها فوق أمكنتنا وأزمنتنا، ونكون في قلبها في الوقت نفسه .
(*الخليج الثقافي - *محمد الأسعد)