27-01-2015 10:19 AM
سرايا - سرايا - سيرة جديدة عن ت س إليوت لمناسبة الذكرى الخمسين لوفاته في الرابع من كانون الثاني (يناير) 1965 عن ستة وسبعين عاماً. أقيمت جنازته بعد شهر في كنيسة وستمينستر، لندن، وتصدر «إليوت الشاب: من سانت لويس الى الأرض اليباب» لروبرت كروفرد في 5 شباط (فبراير) المقبل عن دار كيب. يقول كروفرد في المقدمة إنها أيضاً مئوية قصيدة « انتصار البول...» أو «انتصار الهراء» التي قدّمها مهاجر أميركي في السادسة والعشرين لمجلة طليعية لندنية رفضت نشرها تمسكاً بسياسة الامتناع عن ذكر السباب والكلمات المسيئة. قد يكون إليوت جلب معه تعبير «بول...» من أميركا، لكن لم يُعثر عليها مطبوعة في كلمة واحدة قبل أن يستخدمها إليوت وفق كروفرد.
هي أيضاً مئوية «أغنية حب ج ألفرد بروفروك» الشهيرة التي كتبها في الثانية والعشرين، ورفض محررون ثقافيون نشرها أيضاً، إما لأنها تقارب الجنون وفق أحدهم، أو لأن القارئ لا يتبيّن رأسها من ذنبها وفق آخر. لكن إليوت نشرها في ديوانه الأول في إنكلترا بعد صدورها في الصفحات الأخيرة لمجلة أميركية صغيرة. اعتُبرت لاحقاً إعلاناً عن بداية الشعر الحديث المكتوب بالإنكليزية، وستقيم جامعة هارفرد التي درس إليوت فيها معرضاً للمناسبة المئوية لنشرها علماً أن الولايات المتحدة رأته خائناً لتخلّيه عن جنسيّة بلاده وتحوّله بريطانياً منذ خريف 1927.
لم يكن إليوت قبل 1965 أشهر الشعراء الأحياء فحسب، بل كان أيضاً أرفع شعراء القرن العشرين. كوفئ بجائزتي نوبل وغوته، ميدالية دانتي الذهبية، ميدالية الحرية الأميركية ووسام الاستحقاق البريطاني. لا يزال شعره يوصف بالصعب، لكنه خلّد بضعة عبارات منها «نيسان أقسى الأشهر» التي يبدأ بها «الأرض اليباب» و»المريض المؤثّر على الطاولة» التي تفتتح «أغنية حب ج ألفرد بروفروك» واشتقّ الصفة فيها من كلمة «أثير» ليستخدمها بدلاً من كلمة «مخدّر». يعترف كاتب السيرة بأنه وجد صعوبة في التوفيق بين الشاعر الفتي و»بابا راسل سكوير» كما عُرف في سنواته الأخيرة نسبة إلى منطقة عمله في دار بلومزبري. هل تحجّر مع تقدّمه في السنّ؟ عمل في مصرف ثم دار نشر، لكنه بحث دائماً عن منفذ من ذاته الرسمية. يذكر ابن شقيقته غراهام بروس فلتشر أن الخال توم اصطحبه الى محل للسلع المضحكة حيث ابتاعا قنابل رائحة كريهة أطلقاها على مدخل فندق بدفرد القريب من دار بلومزبري، ثم هربا ضاحكين فيما كان إليوت يحرّك عصاه على طريقة تشارلي تشابلن. هذا الإليوت أقرب الى كاتب «البول...» الذي عاش ودرس في أوكسفورد الـ «جميلة جداً، ولكنني لا أريد الموت» منه الى الشاعر المبجّل. تابع دراسة الفلسفة في الجامعة الشهيرة، لكنه حنّ الى لندن حيث عاش صديقه ومواطنه إزرا باوند. ولئن نفر والداه من رفاقه الفنانين الطليعيين غير المحافظين، طالباه بالعودة الى هارفرد للتدريس فيها.
كان الحب ما أبقاه في إنكلترا، وتزوج فيفيان هيغ - وود في صيف 1915 بعد تعرّفه اليها بثلاثة أشهر فقط. كانت مثله راقصة جيدة، محبة للثقافة الفرنسية والشعر. لكن الزواج كان كارثياً، وفي رسالة من الستينات ذكر انه أقنع نفسه بحبها لأنه شاء حرق سفنه والبقاء في إنكلترا، وهي أقنعت نفسها، بتأثير من باوند، بأنها يجب أن تنقذ الشاعر بإبقائه هناك. «لم يجلب الزواج السعادة لها، وأتى لي بالحال العقلية التي أنتجت «الأرض اليباب». «أحب توم» كتبت «بطريقة تدمّرنا كلينا»، وفصّلت في رسالة الى باوند أعراض مرضها التي شملت الحرارة المرتفعة والتعب والأرق والصداع، لكن اضطرابها العقلي كان ما أبعد إليوت عنها. استضافهما الفيلسوف برتراند راسل، وأقام علاقة معها قد تكون انتهت سريعاً بسبب دورتها الشهرية التي دهمتها فجأة بلا انتظام. أرسلها في 1938، بموافقة شقيقها، الى مصحّ بقيت فيه حتى وفاتها بعد تسعة أعوام، ولم يزرها بتاتاً. كان في الثامنة والستين حين تزوج سكرتيرته في فابر وفابر، فاليري فلتشر الثلاثينية، الساعة السادسة والربع صباحاً في حضور ذويها فقط. كرّست حياتها لإرثه الأدبي، وتوفيّت في 2012 عن خمسة وثمانين عاماً.
يذكر كروفرد أنه كتب كلمة إليوت الشاب في عنوان السيرة لأن بعضهم يرى في كاتب «الأرض اليباب» رجلاً لم يكن شاباً يوماً. السيرة ليست رسمية، لكن كروفرد كان أول من سُمح له بالاقتباس بتوسّع من كتابات الشاعر المنشورة وغير المنشورة، أمر لاحظ معه بسهولة الاتصال المؤلم بين شعره اللامع وحياته الهشّة. أواخر هذه السنة ستنشر أعماله الكاملة بما فيها تلك غير المنشورة التي تشمل قصائد عنصرية كارهة للنساء عن الملك بولو وملكته السوداء الضخمة. أتاحت هذه القصائد للفتى الجاهل جنسياً بالتباهي أمام زملائه في هارفرد وتقوية علاقته بهم. جامعة جون هوبكنز ستنشر أيضاً أعماله غير الشعرية كاملة على الإنترنت بما فيها الفروض الجامعية عن الفلسفة الألمانية. اتُهم باللاسامية ونفى وهاجم الاضطهاد النازي لليهود، لكن ثمة دلائل واضحة على لاسامية والديه. لم يكن إليوت قديساً، يقول كروفرد، لكنه لم يكن شيطاناً في المقابل، ويجب ألا نختزل عمله بقضية واحدة. افتقر أحياناً الى الحساسية، وعادى المرأة، لكنه كان موهوباً في شكل خارق وابن زمنه.
لماذا لا يزال عمل إليوت يـعنـيــنا؟ هـــــاجم الأنــظمة التوتاليتارية في مسرحيته «جـريمة فــي الكاتــدرائــيـة» ومسرحية «هرر» تستند الى قصائد له في «كتاب البوسوم العجوز عن الهرر العملية». مزج في شعره الحداثة والوعي بالذات، ورأى هذه غير ثابتة، مبنية على الأفعال والافتقار اليها في آن، على اللغة والقراءات والصور المستعارة. تبدو الذات في قصيدة «بروفروك» قائمة على لعب الأدوار أو محاولة التمثيل، لكن ثمة شعور بالضعف والألم. مع تطور شعره في «الأرض اليباب» وما تلاه تبقى الذات واعية بذوات أخرى، ممكنة وغير ممكنة، وتُقدَم الحياة المعاصرة طقساً متكرراً نسمعه بعمق أكثر مما نراه عبر الوهم والاقتباس والصدى والترجيع.
كان إليوت في 1915 المهاجر الذي تريد وزيرة الداخلية اليوم تيريزا ماي ترحيله الى بلاده. تسكّع في سوهو بعد انتهاء دراسته، ولم يعمل. لكنه كان أكثر شعراء القرن العشرين ثقافة، ودرس الفلسفة، السنسكريتية، الرياضيات المتقدمة، البوذية اليابانية والإغريقية الكلاسيكية. رأى أن على الفنان أن يجمع الحذلقة الثقافية والبدائية، وأن على الشعر أن يعكس حسّاً بالتعقيد في مرحلة معقدة في الوقت الذي يستعيد شيئاً بدائياً، ويشبه صوته «دق الطبل».
كان شاعر حب كبيراً، لكن حبه محبط ومفقود. قلّة من الشعراء تناولوا الحنين والشيخوخة والحاجة الى أطفال بالعمق الذي نحسّه في شعره. كان أيضاً من أكبر الشعراء الدينيين بالإنكليزية، وأضاف ذلك الى تأثيره العالمي. كتب معظم «الأرض اليباب» إثر الحرب العالمية الأولى، فرأته أوروبا رثاء لحضارتها المعاصرة قبل أن يكون صرخة من القلب، ووجد شعراء يابانيون وصينيون أنه يعبّر عن حالهم بعد قنبلة هيروشيما واندلاع الحرب اليابانية - الصينية في 1937. وكان أكبر شعراء لندن والحرب العالمية الثانية، ليس فقط لأنه قاتل فيها، بل لأنه سجّل أيضاً نضالها ودمارها في شكل كامل. كتب عن خبرته كمراقب للحرائق خلال الغارات الألمانية على لندن، عن ماضيه الأميركي قبل أن تنضمّ الولايات المتحدة إلى الحلفاء وتنقذ بريطانيا من الغزو. جهد بعد الحربين ليروي حبه لأوروبا وإيمانه بوحدتها و«عقلها». قال إن «التاريخ هو الآن وإنكلترا» لكن كان هناك إليوت الإنكليزي والأوروبي والأميركي والهندي واالصيني. كل هذه الذوات جعلته شاعر العالم.
(*الحياة - *مودي بيطار)