28-01-2015 10:29 AM
سرايا - سرايا - نهاية 2003، كنت مدعواً لندوة مع طلاب كلية الهندسة (إحدى صفوة الكليات في مصر) في جامعة الإسكندرية، عنوانها: هل تنظم مصر نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2010؟.. وفي نهاية الندوة، تلقيت أسئلة كشفت – بكل أسف – عن تدنٍ في الإلمام بقواعد اللغة العربية وركاكة في التعبير.. وكانت إحدى أوراق طالب في الصف الرابع قد شملت كلمة هزتني من الأعماق..
فقد صاغ سؤالاً بشعاً شكلاً. وأقدمه أولاً في الصورة الطبيعية التي كان يجب أن يكون عليها. ما هو سر اضطهاد عيسى حياتو لمصر؟ لكنه جاء مكتوباً على النحو التالي: ما هو سر اجتهاض عيسى حياتو لمصر؟ تحوّلت كلمة اضطهاد إلى اجتهاض.
ولولا إدراكي لسياق السؤال ما تمكّنت أبداً من فهمه. تلك الحالة تكشف حجم انهيار اللغة العربية عند المتعلمين في مصر، فما بالك بغير المتعلمين!.. تُرى ما هي الأسباب الرئيسية وراء ذلك الانهيار؟
وكيف لعبت التكنولوجيا دوراً تدميرياً؟
وقبل الدخول في صلب الموضوع يهمني الإشارة إلى أن خمسة أرقام لها مدلول خاص مع اللغة العربية.
أولها مليار وخمسمئة وخمسون مليون مسلم ينطقون اللغة العربية في مناسكهم وصلواتهم اليومية.
وثانيها أربعمئة وسبعون مليون شخص يتحدثون العربية في بلادهم أو في البلاد الأخرى التي يقطنونها.
وثالثها اثنتان وعشرون دولة تعتبر «العربية» لغتها الرسمية.
ورابعها الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول كان اليوم الذي احتفل فيه ناطقو اللغة العربية بعيدهم السنوي.. خامسها وآخرها رقم ستة.. بعد أن أصبحت اللغة العربية سادس اللغات المُعتَمدَة في الأمم المتحدة.. بعد الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية والروسية.
زلات الشاشة
منذ وجد الكثيرون في استخدام اللغة العامية أمراً أسهل من تعلم قواعد اللغة، أصبحت العربية مثل كرة على جانب جبل تتدرج بانتظام من عام إلى آخر.
لكن البشر في استخدامهم الوافر للغة العامية لم يؤثروا بالسلب على اللغة العربية إلا بجزء يسير جداً قياساً بما فعله الجماد.. ومع الاعتراف بعدد من سلبيات الصحف والمجلات والراديو على اللغة إلا أن بداية الانهيار كانت مع دخول التليفزيون إلى العالم العربي مطلع الستينيات، ثم انتشاره الواسع في السبعينيات.. حتى وصلنا إلى الكارثة في العقدين الآخيرين، مع ظهور قنوات فضائية خاصة بأعداد تفوق الآلاف بلا نظام أو حساب.
الحقيقة أننا كنا قُساة في نقدنا لمذيعات التليفزيون المصري في عقد الستينيات وأذكر منهن أماني ناشد وسلوى حجازي ونجوى إبراهيم لاستخدامهن اللغة العامية بوفرة في أحاديثهن.. وكنا نوقر كثيراً المذيعة الراحلة همت مصطفى لإصرارها على الحديث باللغة العربية في كل ظهور لها. والواقع أن التليفزيون نفسه كان أكثر سلبية من مذيعاته وضيوفه وبرامجه لأنه دفع الآلاف، بل الملايين للاكتفاء بالنظر والاستماع إلى ما يرغبون فيه دون بذل جهد الإمساك بكتاب والقراءة.. ولا يخفى على أحد أن اقتناء جهاز تليفزيون لا يُكلِّف الأسرة إلا دفعة مالية واحدة ويستفيد منه العشرات.. في وقت ارتفعت فيه أسعار الكتب حتى صار بعضها أعلى من إمكانات المواطن متوسط الحال.. مع العلم أن الكتاب لا يبقى في يد قارئه إلا لساعات أو لأيام ويفرغ منه، ثم يبدأ رحلة البحث عن كتاب جديد بمبلغ آخر.
الكلمات والعبارات التي أدخلها التليفزيون تسرّبت إلى مجالات العلوم والفن والرياضة لدى المشاهدين وترسّخت لتصبح من قاموس اللغة العربية الذي يستخدمه المواطن في بلادنا دون أن يشك ولو للحظة أنه يخطئ في لغته.
ولعبت الشاشات وضيوفها دوراً في فرنجة مشاهديها بحقنهم يومياً بكلمات أجنبية.. حتى نسي العرب الكلمات الأصلية في أغلب حواراتهم.. وتجاهل الشباب والمراهقون عبارات التحية والسلام في لغتنا العربية عند اللقاء والوداع وتباينت عباراتهم الأجنبية بين (ويلكوم.. هالو.. جود باي.. باي باي.. أورفوار.. سي يو.. وغيرها).. ولا يتردّد على لسان من يريد كلمات من صنف (آسف أو أعتذر أو سامحني.. وما شابه ذلك) واستبدلتها الغالبية بكلمة واحدة (سوري).. وكذلك تاهت في الحوارات العربية المعاصرة عبارات الشكر والثناء لتستبدل بكلمة فرنسية (ميرسي).
وعشاق كرة القدم صاروا لا ينطقون إلا نادراً كلمتي هدف أو إصابة.. وكلهم يقولونها (جون أو جول أو جوووول)، كما اعتادوا أن يسمعوها من المعلقين والمذيعين الذين يعشقونهم ويرتبطون بهم.. ويختصر المصريون مفهومهم في كرة القدم مع كلمتين قالهما المعلق الرائد محمد لطيف بقوله المتكرّر (الكورة إجوان).. وها هي كلمة الكرة تتشوه أيضاً لينطقها المصريون دائماً بلفظ (الكورة) حتى أن أشهر المجلات الرياضية اسمها (الكورة).
وتفاقمت الأمور لتصل إلى ذروتها برضوخ الحكومات والأنظمة والمؤسَّسات الكبرى في دول عربية بوضع شرط إجادة اللغة الأجنبية ضمن مسوغات التعيين دون النظر أو السؤال عن إجادة اللغة العربية.
وتناست الحكومات وأجهزة الإعلام والتعليم في دولنا أهمية التركيز على دعم اللغة العربية ورعايتها.. بل العكس هو الصحيح، ونادراً ما نجد قناة تليفزيونية تُعنَى بتعليم وتطوير اللغة العربية.. بينما تُوجَد مئات القنوات المُتخصِّصة في الرياضة وفي الطهي وفي الأفلام والرقص وغيرها..
جهاز التليفزيون كان ولا يزال العدو الأشرس للغة العربية، سواء أكان بقوته على الجذب التي تسمر الكثيرين أمامه بلا حراك.. وتبعدهم طويلاً عن أي محاولات للقراءة.. أم بالحقن باللغة العامية الركيكة والآلاف من الكلمات والعبارات العربية الخاطئة أم بإقحام اللغات الأجنبية ومفرداتها في عقول المشاهدين.
الكوارث التي ارتكبها التليفزيون في حق اللغة العربية لم تتوقف عند الجوانب السابقة، ولكنها امتدت إلى جانب ربما كان أسرع تأثيراً وأعمق رسوخاً في عقول الأطفال.. وهو لجوء بعض النجوم من ضيوف البرامج الحوارية إلى السخرية من العربية وإظهارها في صورة اللغة المُقعّرة الصعبة.. ووصل الاستخفاف إلى اعتبار العبارات التقليدية في اللغة العربية كالنكات المضحكة التي يستغرق المشاهدون في الضحك عليها.. ولا يمكنني نسيان ما أقدم عليه مذيع شهير خلال تقديمه برنامجاً على شاشة القناة الرئيسية في مصر نهاية التسعينيات.. وسأل المذيع ضيفه عن المشروب الذي يقدمه إليه خلال البرنامج.. وجاء رد الضيف مهذباً (عصير برتقال بدون سكر).. وإذا بالمذيع المخضرم يضحك من الأعماق من طلب الضيف قائلاً: (مـــــا تــقـول عصير بورتقان زي الناس).
*مجلة الدوحة - *علاء صادق