11-03-2015 04:41 PM
سرايا - سرايا - بداية من رواية «بيضة النعامة 1995» وحتى «زجاج معشق 2014»، مروراً بمزاج التماسيح وإيثاكا، ومجموعة صانعة المطر، إضافة إلى مؤلفات صباح الخير يا وطن، في انتظار المُخلص، والموالد والتصوف في مصر، والروائي رؤوف مُسعد يحاول تحقيق حالة مختلفة في السرد العربي، حالة توتر دائم ضد السُلطة بكل أشكالها وإنتاجاتها، وانتهاكاتها التي تبدأ بالجسد، وصولاً إلى تنميط/تشويه صاحبه، أياً كانت هذه السُلطة، اجتماعية، أو دينية، وسياسية في الأخير.
فما كان إلا كتابة الذات، فجاءت كتابة مختلفة ناتجة عن قلق مزمن، كاشفة عن فساد متأصل، نتيجة زيف في السلوك والتعاليم التي نتلقاها في البيت والمدرسة ودور العبادة. لم يقتصر الأمر على حالة «تمرّد» يوصف بها إنتاج الرجل، وهو وصف مُخل إلى حدٍ كبير بما يرويه أو يراه جديراً بأن يُروى، هو القلق مما هو قائم وحادث بالفعل، وصولاً إلى التفتيش عنه واكتشاف مصادره والتصريح به في النهاية، بداية من جسد لن تتحقق له شروط وجوده إلا عبْر جسد آخر، وحتى أفكار وحالات من الصعب الوقوف على عتباتها في مجتمعاتنا، أهمها أن تكون حُرّاً.
■ تدور أعمالك حول الحرية وتجلياتها، خاصة التي تبدأ من الجسد وما يُشير إليه من مشكلات تتجاوز حدوده، في مجتمع يحتفي به ويحقره في الوقت نفسه، حسب رؤيتك كيف تفسر حالة الفصام هذه؟
□ الفصام داخل المجتمع ناجم عن تداخل مفاهيم كثيرة مغلوطة وخاطئة، مُلتبسة بالرؤية الخاطئة لعلاقة الدين بالأخلاق بشكل عام وبالجسد وسلوكه بشكل خاص. الأديان التي نطلق عليها التوحيدية تحتقر شأن المرأة، وبالتالي نجد أنها «تعزل» الأنثى الحائض أو حديثة الولادة، رغم أنها تحض على الفعل الجنسي باعتباره مما «حلله» الله من أجل بقاء البشرية. ونجد أن التدين الزائف يتداخل بشكل أساسي مع الفعل الجنسي، حيث يستخدم آيات دينية عند الفعل لكي يعطيه «شرعية» ومصداقية وتماهيا دينيا. ومن هنا تبدأ الشخصية العائشة في مجتمع كهذا في «انفصام عصابي ونفسي» بالنسبة لرغباته الجسدية وقناعاته لما يعتبره الحلال والحرام.
■ ينقلنا الأمر إلى الكتابة الإيروتيكية، وهي عندك ترتبط دوماً بوضع سياسي واجتماعي، فمأزق البطل في «مزاج التماسيح»، هو نتاج لوضعه الطبقي وتعقيداته وخيالاته الجنسية طوال الرواية. هذه الثنائية الإيروتيكا/السُلطة كيف تراها؟
□ هي ثنائية معقدة ومركبة.. لأن السلطة، أي سلطة كانت، تعتقد أنها تمتلك المواطنين، وبالتالي تقوم بتهجينهم وبترويضهم حتى ينصاعوا لها بدون تمرد. هذا حدث ويحدث في السلطة الدينية، بأنواعها وطوائفها، من خلال التحريم والتحليل، كذلك السطة السياسية من خلال القوانين التي ترتدي مسوحاً أخلاقية، خاصة القوانين المقيدة للأنشطة الجنسية الشخصية «المُثلية»، التي تتخذ وتلبس مسوحاً دينية تحريمية. أما الإيروتيكية فهي متعددة الأنواع والأطياف، وتساعد الإنسان على التماهي مع خيالاته وفانتازياته الجنسية الكثيرة والمعقدة، مثل الفاشية والسادو/مازوخيزم .. إلخ. أي «إطلاق الحرية» وليس تقييدها سلطوياً أو دينياً أو سياسياً. هنا يبدأ الصراع والتناقض بين «الإنسان» والسلطة.
■ حادث الحمّام الشعبي أعاد للأذهان قضية كوين بوت، التي تناولتها في روايتك. برأيك لماذا يتم افتعال مثل هذه القضايا، والآن مثلاً؟
□ يتم افتعال هكذا قضايا لإشغل الناس عن قضايا أساسية وأكثر أهمية، مثل الاعتقالات العشوائية أو التضخم أو الغلاء.. إلخ. لكن قضايا جنسية كهذه صحيحة كانت أم مُفتعلة، أصبح المواطن المصري لا ينشغل بها كثيراً، لأن أولوياته الاقتصادية و»المدنية» تغيرت، بل أن أضرارها الخارجية الدولية أكثر من فوائدها المحلية المحدودة، لكن «ثقافة» الدولة المصرية منذ تأسيسها في العصر الحديث تتحرك في خطوط متعارضة، نتيجة لعدم وضوح رؤية استراتيجية للدولة.
■ كيف أدت «بيضة النعامة» إلى تأسيس كتابة مختلفة، وكيف قررت أن تكون هذه البداية، التي كانت تخالف كل ما كان سائد وقتها، ولم تزل تتمتع بمكانة كبيرة في مسيرة الرواية العربية؟
□ أعتقد أن السبب هو نضجي كإنسان ثم نضجي كذكر ثم نضجي ككاتب. فقد بدأت الكتابة فيها حوالي عام 1982 وانتهيت منها حوالي 1994. حينما بدأت كنت في بداية خمسينياتي من العمر، بعد رحلة ترحال طويلة عبر بلدان غربية وعربية أوسطية، مروراً بحرب لبنانية أهلية، وحرب إسرائيلية ضد لبنان في 82، وزواجي مرتين قبل زواجي من زوجتي الحالية.
كتبت «بيضة النعامة» ببطء ومعاناة لأني لم أكن واثقا من جدواها أصلاً، أو حتى كينونتها الروائية، لذا لم أهتم أساساً بالتوافق مع النغمة السائدة في الكتابة، المتعلقة بالانصياع للسلطات. قررت أن أخرج مُتعمداً على المحرمات الثلاثة.. الدين والجنس والسياسة في الكتابة الإبداعية العربية، لأني لم أكن عابئا بنشرها أو عدم نشرها، خاصة بعد أن بدأت استمتع بكتابتي فيها؛ حيث أن الكتابة سحبتني إلى عوالم الأحلام المنسية والذكريات المختبئة لاسترجاع أزمنة مضت. ويبدو أن توقيت نشرها في 1995 جاء مناسباً بالصدفة، حيث أن القراء كانوا على استعداد لتلقي كتابة كهذه بحماس.
■ أثارت هذه الرواية بشكل حاد مشكلات كتابة الذات في المجتمعات العربية.
□ هذه إشكالية اجتماعية لأننا ما نزال نتحرك نفسياً داخل مجتمع زراعي مغلق وبدائي، على الرغم من «السمارت فوون» و«اللاب توب» وبالتالي نحن نتصرّف في كتابة حساسة كهذه بعقلية القرية، أو على أحسن تقييم «الأقاليم»، حيث يعرف الناس بعضهم بعضا ويتلذذون باجترار الفضائح أو ما يعتقدون أنها فضائح. إن مزج «كتابة الذات» بالتاريخ الجنسي للكاتب عملية حساسة في معظم المجتمعات، حتى تلك «المتقدمة الصناعية» فما بالك بالقروية.
■ دارت أجواء «مزاج التماسيح» في فلك فكرة التعصب التي لم نزل نحياها حتى الآن، فما الذي ستتعرض له الرواية في الجزء الثاني منها؟
□ هذا سؤال صعب، فرغم أني عثرت على الثيمة أي «التعصب» في نسيج الشعب المصري الديني/الطائفي منذ انهيار عبادة التوحيد الأخناتونية وما تلاها، حتى الصراع بين المسيحيين المصريين، والمصريين من غير المسيحيين، ثم المسلمين المصريين والمسيحيين المصريين، وأوقات الاحتقان والتمييز الطائفي والديني، إلا أنني أحاول أن أبحث عن صيغة مناسبة. ما أزال أتحسس طريقي في موضوع الشكل.
■ هناك من الكُتاب من يٌقايض بفترة سجنه في عصر ما، ويفرض وجوده من خلال تجربته أياً كان صدقها. فما رأيك في كتابة هؤلاء؟
□ ثمّة كتابات وكتاب كما وصفتهم أنت، وقد حاولت جهدي ألا أتاجر بفترة سجني ونشاطي السياسي، وآمل أن أكون قد أفلحت.. لكن شخصا ما قضى فترة من السجن لأنه اختار نشاطاً سياسياً ما، عليه أن يستخدم هذه الفترة في إخفاء عيوبه الشخصية والإبداعية. صحيح أننا لم نختر أن نُسجن، لكن كنا نعرف مخاطر نشاطنا السياسي. وبالتالي فإن المحصلة هي اختياراتنا المغامرة والجريئة، وعلينا أن نفتخر بها، لكن علينا أيضاً عدم استخدامها كمتكأ .
■ قمت بدراسة لروايات للغيطاني والأسواني واكتشفت «تناصها» مع روايات عالمية شهيرة، رغم التهليل النقدي لمثل هذه الأعمال، إلا أنك كشفت تهافتها، ما الدافع لمثل هذه الشكل من النقد، وهل سيمتد لأعمال أخرى؟
□ رواية «الزويل» للغيطاني من المؤكد أنها متناصة بشكل واضح مع رواية دي اتش لورانس «المرأة التي ركبت الجواد وانطلقت بعيداً». وأنا نشرت بحثي هذا وقتها بأرقام الصفحات والجُمل المتشابهات، أضف بالطبع أن فضاء نص «الزويل» لا علاقة له بكتابات الغيطاني السابقة واللاحقة. ما الدافع من وجود الشرطة؟ إلقاء القبض «على الحرامية». ومَن أتهمهما مثل الغيطاني والأسواني لو كانا بريئين لأقاما عليّ دعوى قضائية بالسب. أؤكد لك لو اتهمني أحد بما اتهمتهما لما تركته يمرح طليقاً.
■ رواية «عزازيل» التي حازت جائزة البوكر العربية، رأيت أنها عمل متعصب، يقوم على الكثير من المغالطات.. كيف ذلك؟
□ قراءتي لرواية «عزازيل» ليس باعتبارها عملاً مُتعصباً دينياً، لكن باعتبارها «لا رواية» أصلاً، بل ترهات. وما كتبته عنها موجود على صفحتي في الفيسبوك.
■ هذا يقود إلى تسليع الأدب وفكرة الـ«بيست سيللر»، وبالتالي دور النقد في متابعة الأعمال الأدبية، فإلى أي مدى يخضع الأمر لمسألة التسويق والعلاقات الشخصية مع دور النشر أو المؤلف؟
□ يوجد نوعان من القرّاء.. النوع الأهبل، الذي يري كتاباً أنه عظيم ويصدّق بالفعل عظمة هذا الكتاب الأهبل مثل كاتبه وقارئه «الشاطر هنا دور النشر»، ونوع مناكف مثلي لا يثق بالسوق ودور النشر، ولا يؤمن بوجود شيء اسمه «بيست سيللر» .. أي تحويل الإبداع إلى سلعة من سلع السوبر ماركت. يأتي هنا دور النقد الجاد وليس التابع لدور النشر إياها.
■ غضب الكثيرون من جائزة البوكر واللائحة القصيرة التي لم تضم أي روائي مصري، فما رأيك في الجوائز ولجانها بشكل عام.
□ شخصياً لا أثق في البوكر ولا في ذرائعها، وبالتالي لا أود الدخول في حواديت مصري وعربي وأفريقي .. البوكر على بعضها يجب أن تروح المزبلة.
■ هل ترى أن الفرصة مواتية لتفعيل أفكار من قبيل تحديث الخطاب الديني، خاصة أن السلطة السياسية تسير في الأمر على صراط ليس بمستقيم، كمفارقة التحديث وانتقاد النصوص ولكن من خلال الأزهر.
□ الخطاب الديني لا يمكن تحديثه لأنه مُرتبط بالنص.. والنص مقدس. لكن من المؤكد أنه يُمكن عصرنة رجال الدين والمفسرين الدينيين إذا كانوا ينتمون إلى حضارة وثقافة تقبل الآخر المختلف، لكن رجال ديننا ينتمون إلى ثقافة القبيلة، وبالتالي مهما فعلت في «الخطاب» فلن تغير شيئاً.. يجب تحريم وتفعيل قوانين التمييز الديني والكراهية الدينية والطائفية، هذا هو الحل، كذلك إلغاء حصة الدين الإسلامي والمسيحي من المدارس.. المدارس للعلم والتقدم، والدين يتعارض مع العلم من أيام غاليليو
.
■ ما موقفك مما يحدث من أفعال السلطة السياسية الحالية، باعتمادها الفكر الأمني فقط، إضافة إلى حبس وسجن المخالفين لها في الرؤية. وأنت لك باع طويل في الاصطدام مع السلطة.
□ في شيء اسمه السلطة.. أي النظام السياسي والتنفيذي والتشريعي، وشيء اسمه الدولة. دولة مصر ــ التي كانت دولة حينما كانت بقية أو معظم الشعوب في حالة بدائية ــ أصبحت في خطر التفكك والانحلال. نحن في حالة حرب داخلية وخارجية، وأصبحت موضة المثقفين واليساريين المزيفين هذه الأيام هي الهجوم على الدولة. أنا في خندق الدولة، مع التحفظات المعتادة، وهي كبح يد الشرطة وتوابعها وتفعيل قوانين حماية المواطنين في الأقسام .. إلخ. لن أتضامن مُطلقاً مع مَن يريد هدم دولة مصر، ولا مع الفوضويين ولا الاشتراكيين الثوريين، وبالطبع لا مع الإخوان المسلمين. بلى تعاركت مثل غيري مع نظام ناصر «القمعي»، لكنني أيضاً أيدت نظام ناصر «الوطني». هذا هو الفرق.. أن نعرف متى وأين نعارض ونؤيد.
حاوره : محمد عبد الرحيم
( القدس العربي )