20-03-2015 03:42 PM
سرايا - سرايا - استقبلني في بهو الفندق الفخم. شعره الأبيض الكثيف، ووجهه المتورد الواجد بين الملامح الودودة ملاذا له. أطلّا قبله. عيناه الصغيرتان بلونهما الأسود اللتان ورثهما عن والده الحنون (لقبه الحنون، هكذا كانوا ينادونه في قريته دير غسانه) متصلتان بضحكته. يضحك فتصغران، يضحك اكثر فتصيران على شكل نقطة. نقطتان في وجه أليف. طلب كوبا من الليموناضة بالنعناع، الرجل السبعيني الأنيق يبان أصغر سنا، بالرغم من الحزن الذي لكثرة عتقه وتراكمه صار ككسرة خبز سميكة ويابسة. يبس في أعلى التجاعيد، يبس في أسفل القلب. يبس وسقط. قال بأنه حزين، هذا ما يعرفه عن مشاعره في الآونة الأخيرة. ماذا يعني بالآونة الأخيرة. منذ النكبة؟ منذ النكسة؟ منذ اوسلو؟ منذ خروجه؟ منذ رجوعه؟ منذ نفيه؟ منذ سجنه؟ منذ تشرده؟ أو منذ رحيل زوجته؟
على درج جامعة القاهرة تنبأت رضوى بأنه سيصير شاعرا معروفا، قرأ لها البعض من قصائده الأولى، أعجبتها كثيرا. حكى لها عنه، عن انه كائن شتائي يحب المطر والألوان المتدرجة والروائح الشهية التي يتركها وراءه. عن طفولة عاشها بين شجر الزيتون والجرار المغرورة بزيته وبين سنابل القمح. كان سعيدا فيها ولكنه لم يتذكرشعوره هذا الّا حين فقد المكان (سيحكي في ما بعد عن امكنة كثيرة زارها وتنقل فيها وبينها حتى صار هو المكان). حكى لها عن أمه وعن غضبها من رجال القرية الذين منعوها من الانتقال إلى رام الله والاقامة فيها لتكمل دراستها بعد نيلها منحة مجانية بسبب تفوقها. لم تنس أمه، التي تتقن كل ما تقوم به بشغف ودقة، طيلة حياتها الحادثة التي حالت دون ان تكمل تعليمها، وظلت تتحدث عنها كأنها حصلت البارحة. ذات النظرة الخضراء الطموحة بقيت تصرّ على التعبير عن مشاعرها حتى كتبت رواية حياتها. حكى لرضوى عن جدته التي أفقدتها الأيام بصرها والتي تنطق الشعر بالفطرة وترتجله، عن دعائها السحري وموسيقاه التي حملها معه إلى الصف لتخفف من بلادة جدول الضرب. وعن أخوته الثلاثة منيف ومجيد وعلاء. وعن أخت كان يتمنى لو أنجبتها أمه. أخبرها عن الجسر الخشبي الذي عبره إلى الأردن ليصل إلى هنا، اليها، ويحبها. أحبته الفتاة البسيطة المظهر بلا مساحيق تجميل ولا زينة ولا زخرفات. الواثقة الخطى، القوية الشخصية، الذكية وحيدة أهلها. ستصير في ما بعد كاتبة وروائية وناقدة ادبية ومترجمة، وثائرة في وجه الظلم، ومتمردة على كل أنواع القيم البالية، وأم شاعر معروف وزوجة الشاعر المعروف. تزوجته بالرغم من معارضة أهلها على الشاب الفلسطيني، شاركته السراء والضراء وساندته حتى المرض طيلة مساحة العمر الذي عاشاه معا. عشر سنوات من جفاء أهلها ورفضهم كانت كافية ليصير من بعدها الصهر الصديق العزيز. رضوى عاشور التي سمّاها عباس بيضون الوردة (ذات الوجه والقوام الملمومين كوردة)، تقول: «تبدو المصائب كبيرة تقبض الروح ثم يأتي ما هو أعتى واشد فيصغر ما بدا كبيرا وينكمش متقلصا في زاوية من القلب والحشا». عاشت الحياة بتفاصيلها الباذخة وكانت على صورة الحياة، درّست وربت واثّرت وألّفت وترجمت وأنجبت وأسقطت طاغية وحاربت مرضا عنيدا. هل اطمانت لتحمل ما تقلص في قلبها وحشاها وترحل؟ أم أنها إستعارت بعض اللحظات لتعيش وحدتها؟ ام انها ارادت سكب بعض الحزن الجديد على شاعرها الجميل، يبلل القديم اليابس، فيمتزجان معا قصائد جديدة؟
عَبَرَ الجسر الخشبي من رام الله إلى عمان ومنها إلى القاهرة ليستأنف دراسته الجامعية. وهناك من إذاعة صوت العرب، عرف بأن مدينته سقطت، وبانه لن يعود اليها. في ذاك الصيف بدأت رحلة الغربة، التي لم تنته ابدا، قطارها لا ينتظر الّا من ينتظره، طقسها قاس، بيوتها قاحلة، ناسها «إما ان يحتقروك لأنك غريب واما ان يتعاطفوا معك لأنك غريب والثانية أقسى من الأولى». يقول: «الغربة كالموت، المرء يشعر ان الموت هو الشيء الذي يحدث للآخرين». ولكنه يعود ويسأل: «هل الوطن هو الدواء حقا لكل الأحزان؟ وهل المقيمون فيه أقل حزنا؟ «. أرد عليه: أوطاننا البائسة هي سبب أحزاننا، فيها يسجن الحرّ، ويقتل المفكر، وفيها يسرق الحلم، ويجهض الأمل. لا سقف بيتي حديد ولا ركن بيتي حجر. الأرض تحتضر وكذا الإنسان. كيف تنبت زهرة من اللاشيء، وكيف تشفي الريح جراحا وهي لا تتوقف لتلقي التحية؟ اعترف مريد البرغوثي بأنه يصعب عليه اليوم استعمال مرادفات كالسعادة والبهجة والانتصار والنجاح ويسمي الذي وصلنا اليه في العالم العربي تعثرا تاريخيا. كرهنا، حقدنا، وقتلنا لبعضنا البعض. لأسباب يراها القاتل وجيهة والقتيل لا يفهمها. وحدها إسرائيل سعيدة بهذا المشهد، وحدهم صناّع القرار فيها يتأملون خريطة عالمنا ممزقة ومهشمة ومدمرة. يستندون إلى حائط المبكى ويضحكون كثيرا. لقد فعلنا بأنفسنا ما لم تقدر اسرائيل بطيرانها وأسلحتها وإجرامها على فعله!
الخوف من الاعتراف
أتساءل، هل كنا هناك ومشينا حتى وصلنا إلى هنا أم أننا ولدنا هنا واتخذنا من قايين مرشدنا الروحي؟ ! يرى مريد البرغوثي اننا دائما نتوقف حين تصبح الظواهر بحالتها القصوى. لا شيء يحدث فجأة برأيه فحتى الزلازل تبدأ من باطن الأرض لتصل سقوف القرى. لا مفاجآت فكل ما نعيشه سيوصلنا حتما إلى ما وصلنا اليه. بدءا من نظامنا التعليمي البائس الذي يعلّم أولادنا مفاهيم خاطئة ذات أبعاد خطرة، إلى ما يحدث في أكثر بيوتنا من تهميش وتعنيف لنسائنا، إلى الأب وسلطته التي لا تخفُّ ولا تُحد وقراراته التي لا تناقش وحكمته المطلقة. فكيف سنصل إلى الديموقراطية إذا لم يكن في داخل كل واحد منا معمار ديموقراطي حرّ. نحن نصنع المستبد والديكتاتور. نربي شتلة تكبر لتصير شجرة شيطانية. والمؤسسات الإعلامية في بلادنا تصور مجتمعاتنا خالية من العيوب. الصورة بالنسبة لشعوبنا أهم من الأصل، نحن لا نعمل على إصلاح الأصل بل نختار تجميل الصورة. هذا الخوف من الاعتراف بعيوبنا والذي يمتلكنا كسياسيين وافراد وعشاق وازواج وقادة وزعماء، هذا الخوف هو سبب الكوارث التي سنظل نعتقد انها تسقط علينا كما تسقط الشهب على مشهد طبيعي خلاب! عندنا يتخلى الإنسان عن ممارسة عقله، ولا يستعمل الجزء النقدي منه، فيصير بسبب ذلك لعبة يعبث بها من هو أقوى منه، يستسلم لأفكار قاتلة تشعره بأنه البطل.
اذا هل يُمارس النقد الذاتي في عالمنا العربي؟ مريد البرغوثي يجيب بسخرية بأن الجميع ينتقدون المختلف عنهم ولا يرضون الّا بالنقد البناء، اللطيف. من الطاغية إلى الأحزاب إلى الكتّاب إلى ربة المنزل، التي ان أعطيتها ملاحظة بسيطة بعيدة عن صفاتها الإنسانية الجميلة، بأن الأرز الذي طبخته مثلا يحتاج للقليل من الملح، تُدمر، تشعر بالإحباط وبالسوء وبأنها لا تنفع حتى لطبخ الأرز! مشكلة الثقة بالذات هي مشكلة أساسية في عالمنا العربي وبدل ان نعالجها نعمل على تجميلها وترقيع خصالها القبيحة الضارة أو التي تشكل خطورة إذا ما اطلق لها العنان. ويكمل شاعرنا بأن في الصراع الفلسطيني مثلا الناس تعودت على سماع الشتائم المتبادلة بين حماس وفتح وهذا ما يسميه حرباً أهلية كامنة. الكل راض عن ذاته ولا أحد يرى أخطاء من هم في حزبه. لذا لم ينتسب إلى أي من الفصائل الفلسطينية كي لا يكون تابعا لقرارات مسلّمة وآراء منزلة لا نقاش فيها، ولا تأمل ولا تحليل ولا إستنتاج وبالتالي لا تصحيح. المنظومة الفاسدة يجب ان تُهدّ وكذا كل الذي يُبنى على رمال متحركة. من ينتقد ذاته لا يعيد خطأه مرتين. هو مع النقد الهدّام، الذي ينسف ثم يعيد البناء، ومع تسمية المفاهيم الإنسانية بدقة وشفافية.
العودة إلى رام الله
تغرّب مريد البرغوثي غربتين، الأولى عن عائلته الكبيرة حين منع من العودة إلى رام الله بعد أن حصل على ليسانس من قسم اللغة الإنكليزية وآدابها. والدته (التي اعتبرتها اسرائيل مواطنة تحت الاحتلال) شرعت في طلاء البيت استعدادا لعودته. دفعته إلى العلم الذي منعوها عنه. أوصلته إلى الجسر على ان يعود بعد أربع سنوات بشهادة تعلقها على الحائط المطلي حديثا. لم يعد الا بعد ثلاثين عاما «حصلتُ على ليسانس وفشلت في العثور على جدار اعلق عليه شهادتي». اجتمعت العائلة مرات قليلة خارج البلد، الأب والأم والأولاد الأربعة منيف ومجيد ومريد وعلاء. منيف الولد الأكبر راقد الآن في مقبرة في أطراف عمان، بعد عمر عاشه في الغربة. وجدوه مقتولا في محطة للقطار في فرنسا، الأسباب غامضة ولكن النتيجة واحدة «قد يخنقك مجرم بشال من الحرير وقد يهشّم رأسك بفأس من الحديد وسيضمن مصرعك في الحالتين». تغور عينا مريد الصغيرتان كأن صورة منيف تظهر وتختفي، يتذكر كيف عانقه العناق الأخير قبل ان ينتزعه المشيعون. بعد صمت عميق يسترجع صوته ويضيف: «ان كتبا كثيرة يجب ان تكتب حول دور الشقيق الكبير في العائلة الفلسطينية، فمنذ مراهقته يصاب بدور الأخ والأب والأم ورب الأسرة وواهب النصائح». والغربة الثانية عن عائلته الصغيرة، رضوى وتميم. نُفيّ من مصر في عهد أنور السادات، حين قال رأيه بصراحة وجرأة. بقي في الخارج سبعة عشر عاما، لا يلتقي بهما الّا ثلاثة اسابيع شتاء وثلاثة أشهر صيفا.
سؤال لطالما انتابني: ألم يكن على الشعب الفلسطيني وأمام هول المجازر ان يكونوا سبّاقين في اعلاء قيمة الإنسان امام اي وجود آخر، وان يحطموا القيم الإجتماعية المتعفنة أمام قساوة المخيمات؟ الم يكن عليهم ان يعيدوا تعريف الإله الذي يرسم هكذا قدر بدل ان ينتخبوا حماس والسلطة ويزيدوا على سجنهم قضبانا؟؟
حين انتهينا من الحديث، وقال ما يريد، ايقنت بأن مريد البرغوثي احتفظ في أعماقه بالكثير. لا أحد منا يقول كل ما لديه. رضيت أن أدعه وشأنه، سيحتاج لبعض الأسرار ليكتب كتابا جديدا. كوب الليموناضة فرغ وبقي الجوف مليئا، جوفي وجوفه. عانقني بجميع يديه فتحسست عاطفته الخلّابة. وشوشني سرا (كان عليّ الّا ابوح به) بأنه لا يخاف الموت ولكنه يتمنى ان يخلّد كي لا يترك تميم ابنه وحيدا في هذا العالم. لم أره للحظة إلا أمميا، فلا قومية ولا جنسية ولا طائفية . تبدد شعوري بالإستغراب من شاعر فلسطيني لاجئ ينزل في فندق فخم مطلّ على بحر بيروت، فندق يقع في مدينتي ولم أعرفه إلاّ حين زرته. مريد البرغوثي عاطفي كإمرأة، هذا إذا سلّمنا جدلا بأن المرأة أكثر حنانا من الرجل، «الغربة التي أصابته كما يصاب المرء بالربو» لم تقسّه، جفّ الجلد قليلا إنما الدم ازداد رطوبة. احزنته نعم، ولكن الحزن ليس الّا فرحا آخر. الفرق بينهما بأن الأول يسقط عليك بلا إذن منك والثاني «يحتاج إلى تدريب وخبرة». كلاهما يولّدان الحب الذي لولاه لما فاض وكتب.
* السفير الثقافي- لوركا سبيتي *