20-03-2015 10:47 PM
سرايا - سرايا - ليلة جديدة من ألق الليالي الافتتاحية لمهرجانات يزهو فيها «أبوالفنون»، عاشتها مساء أول من أمس، إمارة الشارقة، إذ انطلقت الدورة الـ25 لمهرجان أيام الشارقة المسرحية، الذي دخل عملياً عقده الرابع، بعد أن طوى 31 عاماً على تأسيسه، بخلاف عدد انعقاد دوراته، مرسخاً موقعه كأحد أقدم المهرجانات المسرحية وأعرقها في المنطقة.
حاكم الشارقة، خلال انطلاقة المهرجان، في قصر ثقافة الشارقة، الفنانة سعاد عبدالله بمنحها درع جائزة الشارقة للإبداع المسرحي الخليجي، والفنان الإماراتي، إسماعيل عبدالله، الذي اختير شخصية العام المكرمة، تقديراً لإسهاماته في الارتقاء بالمسرح المحلي، وإيهاب زاهدة، مخرج المسرحية الحائزة جائزة سلطان القاسمي للإبداع المسرحي، وهي «خيل تايهة» لفرقة مسرحية «نعم» الفلسطينية، بتتويجها أفضل عمل عربي خلال الدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي.
وحافظت «الأيام» على تقليدها السنوي الذي واكب دورتيها السابقتين، وهو استضافة العمل المتوّج بجائزة المسرح العربي في فاتحة عروضه، وهو تقليد، بالإضافة إلى قيمته التقديرية الممثلة في الاحتفاء بمبدعي العمل أنفسهم، يمثل فرصة مهمة لجمهور وعشاق «أبوالفنون» للاستمتاع بعرض مسرحي اعتبرته لجنة تحكيم «المسرح العربي» الأفضل في مجمل النتاج المسرحي العربي طيلة عام.
ومع تبدل مكان العرض الفلسطيني من الرباط إلى الشارقة، حافظ «خيل تايهة» على تلاحم بين سياقه الدرامي على الخشبة، وبين جمهوره المتنوع، وهو ما يفرض تساؤلاً مبدئياً حول هذه الحميمية التي نسجها العرض، الذي بدا كأنه تغريدة فلسطينية حالمة على الخشبة، متكئاً على لغة أقرب للشاعرية، تصل حد المبالغة في السرد أحياناً ليجد العمل، الذي ودع جمهوره الفلسطيني، جمهوراً آخر مسانداً في العاصمة المغربية الرباط، ثم جمهوراً ثالثاً لا يقل مؤازرة عن سابقيه، مع افتتاح أيام الشارقة المسرحية.
فكرة العرض الثاني أيضاً ألقت بظلالها بالنسبة لبعض الحضور الذي كان سبق له متابعة العرض في «الرباط»، وهو قرار ليس يسيراً لأن يتخذه البعض بمشاهدة عرض مسرحي للمرة الثانية، وهو ما يؤكد فكرة هذه الحميمية التي استثمرت الدفقة الشعورية العالية في العمل، بعدما ذهب باتجاه القضية الفلسطينية، رغم تحفظ البعض على هذا التأويل، بمن فيهم كاتب العمل نفسه، السوري عدنان العودة، لكن العمل من دون شك استفاد بعرضه الثاني، سواء من جهة مزيد من الوقت لإفساح المجال للتمارين المسرحية، أو مراجعته وإدخال بعض التعديلات عليه.
ولا يوجد امتياز مطلق لأحد عناصر العمل عن سواه، فالنص الذي كتبه عدنان العودة، وأخرجه الفلسطيني إيهاب زاهدة، جاء أقرب إلى الترنيمة الشعرية لجهة الدفقة الشعورية والخيال وتراجع الحوار، بل إنه وظّف العديد من الفنون الأخرى لخدمة المحتوى الدرامي، خصوصاً الموسيقى التي تنوعت بين العزف على أكثر من آلة مختلفة، والرقص، فيما كان الديكور موظفاً عبر بساطته بشكل جيد، من خلال أربع لوحات رئيسة، أتاحت للممثلين سلاسة الحركة.
ولا يمكن إغفال خصوصية المحتوى، الذي تم تأويل النص بناء عليه، باتجاه القضية الفلسطينية، في معرض الإجابة عن التساؤلين الأولين، فالموال الفلسطيني الذي تغنيه «خيل» بعنوان «تايهة»، ينسحب منذ البداية على مصير فلسطين نفسها، حتى قبل أن تتساءل الممثلة «متى ترجع فلسطين» وتكون الإجابة: «فلسطين راح ترجع»، في حين أن المحتوى الدرامي يدور حول الفتاة «خيل» التائهة.
هذا كله على الرغم من أن نصّ عدنان العودة لم يكتب بالأساس مستلهماً من القضية الفلسطينية، وأن المخرج لم يغير بالنص، وفق تأكيد المؤلف، إلا أن الإسقاط لم يكن من الممكن فصله لدى المتلقي على كل مفاصل المسرحية التي جمعت الممثلين محمد الطيطي، ورائد الشيوخي، وياسمين همار، وحنين طربية.
طبيعة مسرح قصر الثقافة أيضاً لعبت دوراً في منح الممثلين مساحات مختلفة عن تلك التي صادفوها في عرض «الرباط»، وهو أمر انعكس على بعض الفنيات، خصوصاً الإضاءة، التي جاءت صادمة ومسلطة على وجوه المثلين بشكل مباشر ومزعج أحياناً، رغم محاولة المخرج الابتعاد عن آلية التسليط الضوئي على مساحات بعينها، فكل المسرح هو بؤرة لاهتمام المخرج، من خلال أحداث تسير بأسلوب القص، حول الزوجة التي تاهت وغادرت بيئتها قسراً، فوجدت نفسها وجهاً لوجه مع قسوة الطبيعة والتقاليد، من دون أن تغيب عنها ذكرى زوجها، رغم موته بطلقة طائشة على هامش صراع عائلات، بعد أن تنجب منه ابنة تقرر أن تلقبها بـ«خيل» . ومن خلال الاسترجاع الزمني للأحداث، يتداخل الماضي والحاضر، وكأن مصير الأم يحكم مصير الفتاة «تايهة»، التي تؤول إلى المصير نفسه، وهي أحداث تؤكدها نبوءات ثابتة تحسم لها بأنها ستموت عند سن الـ30 عاماً، وهي النبوءة التي كسرتها بإرادتها في الحياة. وعلى الرغم من أن العودة يؤكد أنه هنا كان يقصّ حكايته، هو وانتقاله من الرقة إلى الشام، وعلاقته بمن حوله، ومنهم مدرسه الفلسطيني، الذي يبقى له دور رئيس في العمل، إلا أن المشهد برمته انسحبت تأويلاته على مشاهد المقاومة الشعبية الفلسطينية، والإصرار على هدف تحرير الوطن واستعادته، الذي توازى فنياً مع استعادة المرأة وتحديها كل النبوءات والتوقعات بأنها لن تعيش طويلاً، وسيقف عمرها عند الـ30 عاماً.
ومقارنة بالعرض الأول في الرباط، فإن عرض «الشارقة» تلافى بعض الهنات الفنية، رغم استمرار مشكلات الإضاءة التي كانت العبء الأكبر على «خيل تايهة»، ولم تستطع مجاراة الحالات النفسية المتبدلة، والدفقات الشعورية القوية التي حملها، فيما كان الغناء تحديداً أكبر عامل مساعد لخدمة المحتوى الدرامي، سواء الفردي أو الجماعي الذي شارك فيه مختلف الممثلين على الخشبة، في لوحات بدت مشهديتها مرسومة بعناية، حتى من حيث مواقع الممثلين على الخشبة.
نهاية العرض جاءت موفقة وذات دلالات رمزية، فـ«خيل»، التي تخلت عن مسيرتها النشطة في كثير من مراحل التطور الدرامي وفقاً للأحداث، ختمت ظهورها بحالة عَدْو سريعة بدت كأنها «خيل» جامحة، في إشارة إلى انتصار العمل للحياة، الذي هو هنا إرادة شعب، ولم يكتف المخرج بالتأويل بل أصر على المباشرة على لسان «خيل» نفسها: «فلسطين راح ترجع»، وموال شجي، لتؤكد النهاية تداخل المحتوى الدرامي الذي أخذ باتجاه اجتماعي بمحتوى القضية الفلسطينية نفسها، لشعب يبحث عن عودة «وطن».