حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,26 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 11548

غُربةُ الشّعْر في أرْضِ الشّعْر

غُربةُ الشّعْر في أرْضِ الشّعْر

غُربةُ الشّعْر في أرْضِ الشّعْر

23-03-2015 10:55 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - سرايا - ليس هناك ما يدفعنا إلى إخفاء ما هو عليه، اليومَ، وضعُ الشعر في العالم العربي. إنه غريب في أرضه وبين أهله. خلاصة لا تحتاج إلى تأكيد. هي هنا، هذه الغربة. هناك من ينظر ويتأوه، وهناك من لم يعُدْ يفكر في وجود الشعر أصلاً. أراحوا واستراحوا. ومن يكذّب أو يحاجج فليشجّ رأسه. واقعة تمشي الهُويْنى، حافية القدمين، تحت شمس الظهيرة، ثم تتبرّج مع الغروب أمام العابرين. غربة الشعر أقول، في أرض الشعر. بهذا الوضوح الذي يواجهُك فلا تسْلمُ من رؤية المشهَد الذي أصبح يتكرّر بدون تشويق أوْ حسرة.

منذ التسعينيات أصبح شيء ما يشكّك في حيوية الشعر العربي الحديث في أرضه. كان ذلك مع الشروع في زمن عالمي جديد، غدَا يتشكل، شيئاً فشيئاً، على إثر هبوب الرياح الأولى من عاصفة ستصبح معروفة باسم العولمة. آنذاك، كان خطاب غربي، من الولايات المتحدة، ولاحقاً من العالم السكسوني، فالأوروبي، يعلن عن ميلاد زمن جديد، تصبح فيه الكلمة الأولى للاقتصاد والإعلام. معه انبثقت قولة في الصحافة الدولية عن الزمن الأدبي الجديد، الذي تختصره عبارة «زمن الرواية». وحمل لواء الدعوة ناقد عربي كبير، ثم راح يبشر بها في كل مناسبة من خلال شعار: «نحن نعيش في زمن الرواية»، «الرواية هي ديوان العرب اليوم». ومن الرواية جاء الناقد لينسخ زمن الشعر. لم يكن أيُّ إبداع في قولة كهذه. فهي صادرة عن النقد الصحفي الأمريكي، الذي يعرف بدقة ما الذي يريده الرأسمال، وإلى أين تتجه شوارع التجارة الثقافية. تقليد عربي لنقد إعلامي باسم الحداثة.



2
من الأفضل التذكيرُ بما يجب التذكيرُ به، لأننا نُقبل على زمن فقدان الذاكرة الجماعية. نحن لا نقترب من هذا الزمن بقدر ما نحن متورطون فيه، منذ عقود، على مستويات. لكننا، سواء أتأسفنا أمْ لم نتأسف، نسرعُ في الانحدار نحوه بصدر مَرِح ونفْس منتشية. أن نذكّر يعني أننا لم نعد متيقّنين من أن العرب كانوا، منذ جاهليتهم أمة الشعر. وأن الشعر كان من بين أهمّ ما حملوه إلى البلاد التي هاجروا إليها، بعد الإسلام. أوْ لم نعد نعرف أن الشعر في العصر الحديث كان عنوان النهضة العربية، وعنوان التحديث في المجال الثقافي. شعراء وحركات شعرية توالت عبر عقود القرن العشرين. وفيها أصبحت حركة التحديث الشعري في طليعة الحركة الثقافية. قامت هذه الحركة على مبادئ، منها تجديد اللغة العربية، البحث عن بيت شعري يتحرر من قيود التقليد، مواجهة الماضي الذي يختار الهيمنة على الزمن والنفوس، تعميق الرؤية النقدية، الجرأة على اللقاء بالآخر وتعلم أبجدية التحديث، مخالفة الآراء والأحكام السائدة، الإعلاء من شأن المعرفة، الانفتاح على الفنون، من المسرح إلى الموسيقى والفنون التشكيلية.

ألا يحق للشعر والشعراء علينا أن نذكّر بهذا التاريخ العريض؟ لم يكن الشعر لباساً نتزيّن أو نتباهى به، بل كان ضرورة وجُود كل فرد عربي، أوْ كل فرد أصبح منتسباً بالثقافة إلى العروبة. لا أعتقد أن هذا التاريخ العريض للشعر العربي أصبح مادة متحفية، ولا ركاماً من الكراريس والكتب التي مآلها هو الحرق. هذا الرأي، الذي أصبحنا نقرأه ونسمعه بكل رحابة صدر في الصحافة وفي لقاءات، لا يمكن أن يكون رأيي ولا رأي آخر المقاومين من أجل الشعر في العالم العربي. نعم، نتكلم عن التاريخ، رغم أن هناك من لا يقبل باعتبار العودة إلى التاريخ ذات منفعة في رصد خطوط المستقبل.

تاريخُ ماضينا الشعري وتاريخُ حاضره واحد، مهما اعترضت قراءتَنا الفروقاتُ بين الزمنين. وصلتُ إلى هذه القناعة لا من التعلق بالماضي المستبدّ، وإنما تعلمته من الثقافة العالمية الحديثة، وفي مقدمتها الثقافة الغربية. نحن ما زلنا نتعلم من هذه الثقافة، لأنها أغنى ممّا تعرفنا عليه فيها من غنًى. ففي الاطلاع، والمثابرة على الاطلاع، نكتشف أجوبة عن بعض أسئلتنا، ولو بصيغة غير مباشرة. تاريخُ شعرنا واحدٌ من حيث الفاعلية الشعرية أو من حيث ضرورة الشعر. لنكُنْ متواضعين أكثر، ولننصتْ إلى الآخَر في حركيته الثقافية، التي تعاني من نفس التّهديد الذي تعاني منها ثقافتنا الحديثة. زمن العولمة يدمّر الثقافة البشرية، ولا يفرق بين ثقافة وأخرى، بين منطقة وأخرى. إنه زمن المال والإعلام، ولا شيء سواهما.

3



يكاد يصبح من المستحيل مقاومةُ الشعر لزمن العولمة. فحجم الميزانيات الضخم للسرديات، يلتهم الأرض الشعرية، قطعةً بعد قطعة. بهذا التصريح يمكن أن أقيس المسافة التي بقيت لكل من لا يزال يعتقد أن الشعر ضرورة. وفي الجهة الأخرى، أرى فئة من الذين يستهزئون ويتناوبون في إرسال الصرخات ومواصلة الصفير. أراهم دون أن أفكّر في إعلان حرب. الشعر لا يعلن الحروب. والشعراء يُهدون العالم النّشيد. إنه الذي لا تعوّضه لا الرواية ولا التلفزة ولا وسائل الاتصال الاجتماعي. مع ذلك فإن الشعر غريبٌ في أرض الشعر.
حين أخص الأرضَ العربية بأنها أرض الشعر، فهذا التخصيص لا يسْلب من مَواطن الشعر الأخرى في العالم حقها في مكانتها الشعرية، أو في ما قدمته للبشرية من أعمال شعرية تردّد أصداؤها عبر التاريخ القديم، مثل اليونان أو الفرس أو الصين. أريد فقط أن أتذكر الشعر العربي ومكانته في الثقافة العربية عبر العصور. غربته في أرضه هي ما حرضتني على النظر في وجهه، والجلوسِ قبالته، في يوم تتضح فيه الرؤية وتصفو. والأقرب إلى نفسي اليوم هو الشعرُ العربيّ الحديث. أيْ غربته في أرضه التي كانت، إلى عهد قريب، تحتفل به في كل يوم، ترفعه على الأعناق، تسلمه نفسٌ عاشقة إلى نفسٍ معشوقة، تنشده الشبيبة في ليالي الظلم والقهر، يفتتح به مناضلون كلماتهم الأولى في المعتقلات والمنافي، تجتمع الحشود حوله في ساحة أو قاعة تمجد الحرية.

هل هذا افتراء على شعرنا الحديث؟ أستعيد الذكريات، بين فاس والرباط والدار البيضاء ومراكش، أو بين بغداد والقاهرة وتونس. ثم أشهد على نفسي بأنني حضرتُ على امتداد عقود أعراس القصيدة العربية الحديثة. كانت تلك اللحظات مناسبات استقبال شاعر أو إحياء أمسية جماعية. كانت لقاءات من تنظيم جمعيات بسيطة أو مهرجانات. كانت وسط حدث سياسي أو بؤرة احتفال بالشاعر والقصيدة. شهدتُ كل ذلك وتربّيْتُ عليه، في وقت كنت أتربّى على ثقافة فنية، في المسارح والمعارض التشكيلية والحفلات الموسيقية. وفي كل تلك اللحظات، كان الشعر سيّدَ الكلام، لأنه كان يجعلني أحس بأن الشعر هو الحياة، وسأقول، إن أنا حوّرتُ عبارةَ الفنان روبير فيليو، إن الشعر هو الذي يجعلُ الحياة أهمّ من الشعر.

4

من هذه اللحظات نشأ لدي عشقٌ للشعر. ولأجل أن يدوم ذلك العشق، كنت معنياً بالرغبة في معرفة السبب الذي يجعل الشعر متفرداً بكل هذه القوة الجامحة في اللغة، أيّ لغة. رغبة هي الجنون، أحياناً. وما تعلمتُه من الشعر هو أنه صديق المعرفة، يصاحبها، ويغري بها. هكذا أصبحتُ في مواجهة مع آراء ساذجة في تعاملها مع الشعر. آراء تتلخص في نقاط قليلة. منها: الشعر نقيض التعلّم. الشعر موسيقى يصمت صداها مع نهاية القراءة (أو الإلقاء). الشعر إلهام، يأتي كاملا، وفي دفعة واحدة، أو لا يأتي. الشعر وليد العربدة، من سبق منا إليها وجد الشعر جالساً بانتظاره على حافة طاولة. الشعر حاسوب (أو هاتف) محمول، ولوحة حروف تسقط على شاشة المحمول مطراً دافئاً في الشتاء وتهب عليها هواءً منعشاً في عز الصيف. ولك أن تضيف الوصفات التي تتكاثر، مع الزمن، ومع شيوع التقنيات، ومع تزايد عدم الاكتراث بتعلّم بالقصيدة.

هذه الأقوال الساذجة، والمتداولة في الحياة العربية الحديثة، كما في الثقافات الشعرية عبر العالم، كان الشعراء العرب الكبار في القديم يستخفون بها. لن أعود إلى ما عرف في تاريخنا الشعري باسم الطبع والصنعة. ولو شئتُ أن أقدم نموذجاً لدحض هذه الأقوال فمن الأفضل أن أستشهد بأبي نواس. أقصد نموذج الشاعر المتهتك، الذي نتخيل أن القصائد كانت تنزل عليه مسكوكة عندما كان يقضي الوقت الطويل في مجلس مجون، فيقطفها ناضجة، كاملة، ويلقيها في الناس. جاء في أخبار أبي نواس: «وكان يعمل القصيدة ثم يتركها أياماً، ثم يعرضها على نفسه، فيسقط كثيراً منها ويترك صافيها، ولا يسره كل ما يقذف به خاطره». هي المراحل التي يقطعها الشاعر في العمل المسؤول على قصيدته حتى تبلغ مرحلة الاكتمال. ولا يتم ذلك كله إلا بالعمل المدرك لأسرار بناء القصيدة.

لا أجرؤُ على توجيه نصيحة إلى شعراء شبان. مع ذلك، لا أتخلى عن طرح الأسئلة على نفسي، كلما وجدتني في وضعية يتعرض فيها الشعر للإهانة أو التشويه والاحتقار. لن أعدد الأوضاع، فهي أصبحت مبتذلة في حياتنا اليومية والثقافية. طرح الأسئلة يعني أنني متشبثٌ باليقظة. فما نعيشه يكاد يصْرعُنا ويصرع أفكارنا في كل فرصة نكون فيها مسترخين، غير مُبالين. ما نعيشه، منذ التسعينيات حتى اليوم، غيّر الجبال من أمكنتها، ولا نفطن دائماً بما يحدث. وكثيراً ما يكون الشعراء أول من يستهينون بهذا الذي يحدث، فلا يعبّرون عن شعور بالريبة أو بعدم الطمأنينة أو بالخوف أو الصدمة. وأعرف، بالمقابل، شعراء من عدة بلاد عربية، يطرحون بدورهم أسئلة على القصيدة وعلى وضعيتنا الشعرية.

فبين تلك اللحظات الشعرية وبين لحظة غربة الشعر، قطيعةٌ أصبحت معها العقود المتعاقبة، من الستينيات إلى التسعينيات، أبعدَ مما هي العصورُ القديمة بعيدةٌ عنا. أنطلق من الستينيات، لأنني رأيتُ فيها كيف يحوّل الشعر العقلاء إلى مجانين، والصامتين إلى صارخين. قليل من الشعر ثم الجسد يشتعل. أكثر من مرة رأيتُ المشهد ذاته، مع لُويْنات قليلة، مختلفة بين هذا وذاك. لكن الاطلاع على حركة الشعر العربي الحديث، من خلال الدواوين والكتابات النقدية ومذكرات بعض الشعراء والمثقفين، في أكثر من بلد عربي، دلتني بدورها على المكانة الاستثنائية للشعر في الثقافة العربية الحديثة. وعواصف الغربة لم تبدأ في الهبوب عليه إلا مع التسعينيات، واستمر ذلك إلى أن اتقدت ثورة الشعب التونسي ببيتين لأبي القاسم الشابي. ثم دارت الدورة، وها هي الغربة تعود إلى مكانها، وربما بقوة مضاعَفة.

5

من الدواعي التي تبعث على القلق هو عدمُ فهْم كيف أن المغامرة الشعرية في العالم العربي تذهبُ، عبر تجاربها الكبرى، في اتجاهات جديدة، مفاجئة، ومدهشة، فيما الرواية تكرر موضوعات كان الشعر سبقها إليها منذ الستينيات. مجالات الرواية تتمحور في مجالين مطلوبين في السوق هما: السياسة والجنس. أما الدين فلا أعرف روايات تناولته بالجرأة التي كانت للقصيدة منذ الثلاثينيات، وأصبحت من علاماتها. فهل الاتجاهات الجديدة في الشعر هي التي أصبحت تعتقله في غربة تتضاعف مع الأيام؟

غربة الشعر في العالم العربي لا يتقبلها شاعر غربي أوْ لا يفهمها، خاصة إذا كان من أولئك الشعراء الذين تعرّفوا على الشعر العربي في لقاءات عربية مع الجمهور، في الفترة السابقة على التسعينيات. هو لا يفهمها بمعنيين: الأول تراجع إقبال الجمهور على الأمسيات الشعرية، وندرتها؛ ثم الثاني محدودية عدد نسخ الدواوين المطبوعة لشعراء عرب، أو لترجمات شعرية إلى العربية. غالباً ما يدور الحديث بيني وبين شعراء غربيين، من عدة بلدان، فنتّفق على أن غربة الشعر أصبحت عالمية وليست جهوية. ملاحظة أولى مشتركة، يمكن أن تخفف من عبء الغربة وسعيرها. هكذا نضحك قليلاً، ونتبادل التهاني بتساوينا في الغربة. وها هي غربة الشعر توحّد بين اتجاهات شعرية وشعراء من العالم.

لن أضع منديلاً أسود على وجه الشعر. أبداً. موقفي يرفض كل شكل من أشكال الجنازات التي تقام للشعر. تدل المعرفة العينَ على الطريق إلى أمكنة القصيدة، والأذنَ على الإنصات إلى أصواتها التي تتصادَى في العالم. يحدث لي أن أنظر، مثلاً، إلى المهرجانات الشعرية في أمريكا اللاتينية. هناك يتوافد الآلاف من محبّي الشعر ليحضروا أمسية شعرية. أنظر إليها وأتوقف، فما يشغلُني هي غربة الشعر في أرض الشعر.

6

من غير مقارنات أتقدّم في التأمل. لم تعد الصحافة تحتفل بنشر قصيدة، بتخصيص مكان يسمح للبياض أن يفرح بموسيقى القصيدة ومعماريتها. ينعدم في العالم العربي تقليد تأليف وإصدار أنطولوجيات شعرية، فلا أعرف من بداية الشعر العربي الحديث حتى اليوم سوى عدد محدود، ومرحلي، لهذه الأنطولوجيات. يصعب أن نعثر على سلسلة شعرية عربية، بحجم كتاب الجيب، مستمرة الصدور لدى دار نشر عربية. حالنا في الفصل بين شعر مشرق العالم العربي ومغربه لا يتبدل. غالباً ما تترك الجامعات العربية الشعر العربي الحديث على هامش الدراسات الشعرية. يتعذر قراءة ملفات عن شعراء أو حركات شعرية عربية حديثة في الصحافة العربية. القراءات النقدية، في الصحافة والمجلات الثقافية، للدواوين الصادرة تفتقد رؤية واضحة.

تأملٌ عبر ملاحظات سريعة، تكتفي بلقطات تعودتُ على جمْعها وتركها لنفسي. ثم هي اليوم تتجمع في شبه كوكبة وتتقدم فوق الورقة. لا تقبل أنْ تصمت، أو أنْ تخفيَ سُحنتها. هي هنا، وأنا أعرف أن غربة الشعر غربتها هي الأخرى. ما عرفتُه وعشتُه في العالم العربي، مع شعرائه ومثقفيه ومؤسساته، لا يهادنني. وغربة الشعر لا تقتصر على لقطات، مهما كانت موسعة، تشمل مجالات وفترات متعاقبة.

7

لكن، قبل هذا وبعده، هناك الشعرُ، أو تحديداً، ضرورةُ الشعر. لماذا أتوقف عند الشعر؟ أو أين تكمن ضرورة الشعر؟ سؤالان يلحّان على كل من يريد أن يبني خطاباً يقاومُ التخلّي عن الشعر، هجران الشعر. كان للعرب القدماء كما للحديثين أجوبتُهم. وما له أسبقية، برأيي، هو أنّ الجواب يصبح فاعلاً عندما يستند إلى الوعي بالزمن الذي نعيش فيه ويعيش الشعر فيه. إن الشعر هو اللغة في إشراقها الأول، هو طفولتها المتجددة على الدوام، هو ماؤها وشُعلتها. واللغة، كل لغة، تستمد من الشعر طاقتها الداخلية اللانهائية، التي تتجدد مع تجدد الشعر. لا يمكن للغة أن تبقى حيّة دون أن يكون لها شعرٌ حيٌّ يواكب حياتها. والروايات الكبرى وجدت في زمن الشعر العظيم. حينما تنطفئ شعلة الشعر تنطفئ اللغة وتصبح ذات بعد واحد، لغة بدون لغة، لغة خرساء، أو لغة مقطوعة الصلة بالخيال، بالحلم وبالمستقبل.

ما أختصره هنا، في كلمات، رؤيةٌ عن الزمن لأجل الزمن، لأجل اليوم وما بعد اليوم. هي رؤية أعمّمُها على اللغة، أيِّ لغة، بدون استثناء. وما يهمّ أكثر، في هذا اليوم، هو اللغة العربية، في حياتها وحُلمها ومُستقبلها. من حقّ كل واحد منا أن يتشبثَ بهذا الحلم وألاّ يتخلى عن جُنون أن يعيش زمناً تتأصل فيه العربية الحديثة. والشعرُ هو الطاقة التي يمكنها أن تتركَ نُسغ العربية متدفقاً، يجدد تغذيتها مع تجدد الأزمنة. من هنا يكون الشعر مضاداً لزمن العولمة الذي يهدد اللغات بالزوال. والعديد من اللغات تندثر أو مهددة بالاندثار لأنها تصبح، في أكثر من منطقة في العالم، أحادية البعد. لغة ما أصبح معروفاً بلغة الوول ستريت والإعلام، لغة الاستهلاك الفوري، لغة تموت ومعها تموت ثقافة وحضارة، تموت الحياة.

8

رؤية من أجل مقاومة هجران الشعر، ومعه هجران اللغة. إن كل متتبع لوضعية اللغة العربية، في عقودها الأخيرة، يدرك ما لا حاجة إلى تغطيته ببلاغة مريضة. من يسعد بالدفاع عن الرواية ويشحذ السيوف لمحاربة الشعر يخطئ الزمن مثلما يخطئ الإبداع. لا يملك من المعرفة ما يميز به الزمن الذي نحن فيه، ولا معنى ضرورة الشعر في كل الأزمنة. لهذا قلت، منذ البداية، إن تاريخَ ماضينا الشعري وتاريخَ حاضره واحد. والاحتفال بيوم عالمي للشعر يصبح ذا معنى حين ندرك أن ضرورة الشعر تنبع من ضرورة أن يتعلق كل واحد منّا بلغة نبدع بها حريتنا ومستقبلنا، فردياً وجماعياً في آن. شعر لليوم ولكل يوم. شعر لحياة تتدفقُ تدفّقَ النهر، من بيت إلى بيت تصعد القصيدة بنا إلى إنسانيتنا العميقة، تلتقي فيها سلالاتُ الذاهبين والقادمين.

لا أحدَ ينُوب عن أحد في تعلقٍ كهذا. لكل واحد حساسيتُه الشخصية، وخيالُه الشخصي. وحينما يتوحّد بالقصيدة يدرك أن الشعرَ هو الحياة، تستقبلهُ أنفاسُه اليومَ وما بعد اليوم.
______
*الاتحاد








طباعة
  • المشاهدات: 11548

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم