24-03-2015 10:22 AM
سرايا - سرايا - كما في أسواق الخردة وأسواق يوم الأحد، توجد في فرنسا أسواق للكتب المستخدمة تباع بشكل منتظم. توزع الكتب على الطاولات الخشبية، تحت المظلات الواقية لها من المطر أو ضوء الشمس الساطع. ترص الكتب على اختلافها لتكون في متناول يد المشتري، يقلب صفحاتها، يتصفح محتواها، ليضعها في مكانها أو ينهيها في حقيبته.
كتب ومجلدات مستخدمة، تخلى عنها أصحابها، جراء إرث تكلف به الأحفاد فأولوه لهواة بيع الكتب، لينتفع منها آخرون نهمون، أو آخرون من هواة اقتناء الكتب القيمة والفاخرة، التي لم تعد تصدر ولا تنشر في المكتبات. ما يميز الطاولات الخشبية المرصوصة بانتظام، هي تلك الواجهة الزجاجية، المغلقة بإحكام والموصدة بقفل، التي تحتاج إلى عناية ومعاملة واهتمام خاص بها. تحتفظ هذه الواجهة بموسوعة لابلياد الشهيرة، التي تحوي كنوز الأدب الكلاسيكي والمعاصر من الأدب الفرنسي والعالمي.
السعر باهظ ولا يمكن حتى مجرد التفكير في النقاش حوله، فهذا يتعلق بأفخم وأرقى موسوعة أدبية تقدم للبشرية، وتتخذ من دار غاييمار في باريس مقرا لها. يتجه المهتم إلى المكتبات المستقلة الصغيرة والكبيرة إن أرادها جديدة ولم يمسها أحد من قبله، ليجدها أيضا ودونا عن غيرها موصدة بإحكام، ليحجب من لمسها وتصفح أوراقها بسبب الحاجز الزجاجي والمنظف بعناية الذي يفصله عنها. تحاط مجموعة لابلياد بلغز الإعجاب بها، والرغبة والنهم في امتلاكها لدى الشغوفين بالكتب والمجلدات وتلقائيا بالأدب. وحين يهم الفرد بشراء مجلد من مجلداتها فإنه لا بد أن يتوجه للموظفة في المكتبة لتقدم له الكتاب، مستخدمة قفازات من القماش الأبيض تماما كذلك الذي يستخدم للمس وتصفح أوراق قديمة في المتاحف التي تحتفظ بالكتب القديمة.
تعود فخامة كتب لابلياد لطريقة صناعتها اليدوية المتقنة، فأغلفتها مجلدة بجلد طبيعي يتم دبغه وقصه وتتم خياطته بأيدي محترفين يعملون في مجال الـ«أوت كوتور» أو فن الخياطة الراقي، ويلون الجلد بألوان مختلفة ليميز اختلافات الحقب الأدبية تاريخيا، كاللون الأحمر مثلا لمجلدات تضم الأعمال الأدبية في القرن السابع عشر. يذّهب الكتاب في ما بعد، ليغطي صفحات لوريقات صغيرة ورقيقة تكاد تكون مخايلة، ناعمة ومطبوعة بلون «شاموا» وهو مقارب لدرجة من درجات لون البيج الفاتح، ليتناسب مع الأطراف المذّهبة بعيار ثلاثة وعشرين قيراطا من الذهب الخالص. تجمع الوريقات لتتناغم جميعها وتتناسق لتجمع عمرا كاملا قضاه هوغو وكامو في خط ميراث الأدب الإنساني ليخلد للأبد. ومن بعد تجميع صفحاته بين جهتي الغلاف المجلد والمزخرف أيضا بالذهب، يتم وضع المجلد في غلاف من الورق المقوى لحمايته.
الأسطر تطبع بحروف سوداء ونوع خط يتناسب مع المجلد، وتحترم العمل الأدبي، فتكاد تعيدنا إلى طاولة وأوراق يغطيها الحبر، خطتها ماري شيلي عند كتابتها لفرانكنشتاين أو ريشة ماركيز دي ساد المغمسة بالحبر وهو يخط جوستين. عند لمس المجلد نشعر بالدفء، ذلك المنبعث من ضوء الشموع ونور السراج الخافت الذي يؤنس الكاتب في وحدته. نعود فلا نتعجب من رسائل لويس فيرديناند سيلين الملحة لحد الإزعاج يطالب دار النشر «غاييمار» بتخليده وضم أعماله بسلسلة لابلياد.
ولن نتعجب من كتاب تنافسوا على أن يتم حبسهم بين أغلفة ليبلياد الجلدية، كتاب كسارتر ممَن رفضوا جوائز وتكريمات كجائزة نوبل وقبلوا فورا شرف أن يصطفوا جنبا إلى جنب العمالقة من الأدباء والفلاسفة. ومن سيرفض أن تخلد أعماله في متحف التاريخ الأدبي جنبا لجنب مجلدات مثل هوغو، سانت إكزوبري، تولستوي، ديستوفوسكي، كامو، أفلاطون، بلزاك، فولتير، بسكال.
حتى القرآن الكريم، والإنجيل ومجلدات ألف ليلة وليلة وجدت طريقها بينهم، نظرا لأهميتها البلاغية وغناها اللغوي والخيالي والتاريخي وتأثيرها في تاريخ الأدب والفلسفة. كلهم ممن ماتوا ومن مازالوا على قيد الحياة كي لا يظلم أحد، فرنسيين وعالميين وغيرهم انضموا لعائلة لابلياد المرموقة وامتلكوا بهذا تذكرة للخلود الأبدي.
لمجلدات اللابلياد تاريخ طويل وعريق تخللته المعاناة وخطر الإفلاس. ففي عام 1933 حيث عجت المدينة الباريسية بزائريها، من فنانين ورسامين ومصممين وكتاب. وفي شوارعها المظلمة والهادئة، بعيدا عن الضجة والنور، وتحديدا أمام رقم ستة من شارع تورنفور، لم يحالف الحظ ولم تطرق الشهرة باب مؤسس الـلابلياد، وصاحب الفكرة الجهنيمة لإصدارها في فرنسا، المهاجر الروسي جاك شيفرين، الناشر والموزع الأول لمجلداتها. لقد تعرض شيفرين للإفلاس وكادت مؤسسته أن تنهار رغم عظمتها وأهميتها.
وفي عام 1931 كان لبودلير النصيب الأكبر بأن يكون المخلد الأول بين جدران أغلفتها الذهبية. لقد طبعت أعمال بودلير على شكل جديد نسبة للزمن والمتعارف عليه، الذي كان شائعا في المدينة، فقد صدر الكتاب على هيئة صغيرة الحجم ككتب الجيب. وجُلدت أعمال بودلير باستخدام الجلد المرن، المصبوغ بالذهب الخالص، ليباع بكثرة حينها ويتنافس المهتمون على اقتنائه. أعمال أدبية عظيمة بحجم كتب الجيب ولأول مرة في باريس، تلك كانت فكرة المهاجر الروسي. ومن بعد نجاح أعمال بودلير قام شيفون بطباعة ترجمات بودلير لأعمال الأمريكي إدغار آلان بو التي لاقت نجاحاتها أيضا. لقد أتت فكرة شيفرين من خلال رحلاته العديدة فقرر تنفيذها خلال هجرته إلى باريس.
ولكن حلمه كان من الصعب تحقيقه على أرض الواقع، نظرا لإشكاليات تقنية كلفته الأموال الباهظة حتى أوشك على الإفلاس. إلا أن الأقدار شاءت أن يلتقي شيفرين بالكاتب الفرنسي أندريه جيد الذي أعطى كل مسوداته لشيفرين لكي يطبعها، كونه كان متابعا عن قرب لمشروع الروسي الحديث الإقامة في باريس وأعجب بشدة، والنقاد الباريسون كذلك، بصدور الطبعة الأولى لأعمال بودلير على هذا الشكل المقيم لها. ولقد أنقذ الكاتب جيد صديقه الجديد من أزمته حين أقنع جاستون غاييمار «مؤسس دار غاييمار» بشراء المشروع لإنقاذه من صد أبوابه. وبعد تردد طويل قام جاستون غاييمار بشراء المشروع ولم يندم لغاية اللحظة على مجازفته، حيث تحصد دار غاييمار عشرين بالمئة من الأرباح التي تأتيها جراء بيعها لمجلدات لابلياد، أهمها شراء أربعة آلاف مجلد من المسرح الإليزابيثي الذي يحوي أعمال شكسبير.
وربما كان طريفا أن نذّكر بأن الأدب استطاع أن يجمع محبيه من حوله، لتكون الفكرة لروسي، والمجلدات لأدباء عالميين ولتباع في فرنسا وليقتنيها من يعشق الأعمال الأدبية الخالدة أيا كان مكان إقامته.
اسمى العطاونة