28-03-2015 10:37 AM
سرايا - سرايا - مثلما تبدّلت حياة السوريّين في سوريّة وفي دول النزوح القريبة والبعيدة، تبدّلت مصائر تلك الكتب التي جاؤوا بها إلى بيوتهم كي تؤنس وحدتهم. الكتب التي لا تملك أقداماً كي تهرب، ولا تستطيع أن تمدّ أياديها إلى الأعلى كي تطلب النجاة إذا غرقتْ مع الغارقين في رحلة البحر الأخيرة؛ لذلك صارت تذهب إلى مصائرها تحت القصف بقدمين ثابتتين، لا ترتجف، طالما هي التي جعلتنا نرتجف ونحن نقرأ فيها تلك الحياة التي لا نعثر عليها في الحياة.
في مشهد يصلح لفيلم سينمائيّ يسقط برميل متفجّر على أحد البيوت في حلب، وبينما يهرع الناس وعمّال الدفاع المدني لإنقاذ الأحياء من تحت الأنقاض تمرّ الكاميرا على شابّين يحملان كتباً، ويُخرجونها من المكان المنهار والذي ما زال يحترق. كانا يُنقذان الكتب أيضاً في طريقهم لإنقاذ الضحايا من تحت الأنقاض.
الناس يصرخون وتنتحبون ويفرحون كلما استطاعوا أن ينقذوا شخصاً أرسل إليهم شهيقاً مُفتّتاً بسبب فؤوس الغبار القاتلة، بينما الشابان هادئان في مكانهما يمسحان الغبار عن أفواه وعيون تلك الكتب، ويُضمِّدان جراح رواية انسحقت تحت الأنقاض.
جحيم آخر عاشته الكتب في بلدي هو جحيم الوحدة؛ فعندما «نزح» الناس وهربوا من مصير دموي، كانت رائحته تقترب من المكان، تركوا تلك الكتب ترتعد فرائصها على الرفوف الخشبيّة، أو تركوها في حالة حميميّة في صناديق من الخشب أو من الورق المقوّى. ولم نفكّر، فيما بعد، سوى في أوقات الرفاهية بجواب ذلك السؤال: ماذا تفعل كتبنا من بعدنا؟ كيف تستطيع العيش تحت القصف؟.
في شتاء السوريّين القارس هذا العام عادت الكتب إلى التفكير وإلى الأيدي، ولو للحظات لا تكفي سوى لقراءة عناوينها، قبل جحيمها الجديد. عادت الكتب كي تؤنس دواخل الناس الفقراء وقلّة حيلتهم في سنوات الوحشيّة التي لا تنتهي؛ إذ صارت، حتى محلّات البقالة في مسقط رأس الشاعر الراحل محمد الماغوط، سلمية، تبيع الكتب في رزم، وبالكيلوغرام من أجل التدفئة!!.
استعملت الناس كلّ شيء كي تسخِّن دواخلها قليلاً بعد غلاء ونفاد الوقود من أماكن بيعها. استعملت الحطب وأكياس «النايلون» وصولاً إلى الكتب. وحرق الكتب هذه المرة لم يكن من السلطات، كرقيب أبديّ على إبداع الكاتب، بل من الناس الذين أحبّوا تلك الكتب وعاشوا معها كعائلة.
تسأل صديقة مغتربة قريباً لها في مدينة «حمص»، المحاصرة منذ سنوات، عن سهراتهم تحت القصف مع انقطاع الكهرباء وعدم مشاهدة التلفاز والأفلام، فيقول لها:
«البارحة كانت سهرتنا الطويلة مع الأعمال الكاملة لجبران خليل جبران، والليلة سنتدفّأ على منشورات دار التقدُّم السوفياتيّة!!.».
في سنوات العوز هذه باعت الناس مكتبات ضخمة من أجل لقمة العيش، ومن أجل عدم موت أطفالهم بين أيديهم بسبب الجوع والبرد.
يكتب صديقي على صفحته الخاصّة على الفيسبوك:
«أبدأ بإشعال الحطب القليل، ثمّ آخذ كتاباً وأقرأ صفحة منه ثم أنزع الصفحة وأرميها في النار. وهكذا حتى أنتهي من كلّ الكتاب. البرد والدخان السامّ والدموع يمنعنونني مرّات كثيرة من قرا ءة كـلّ ما أحــرقه. يظنّ ابني الصغير أنّ دموعي تنهمر بسبب الدخان الكثيف المنبعث من احتراق ما أحببته وحافظت عليه، وليس من فقداني لتلك الكتب وذكرياتها».
في المخيَّمات السوريّة المرتجلة أحرقت العائلات ثياب أطفالها الصيفيّة كي يمنعوا ذئاب البرد من الهجوم عليهم. فبقيت تلك الذئاب تعوي حولهم بعيون جاحظة. ربّما كانت تلك العائلات تفكّر في الكتب التي تركتها على عجل في البيوت المدمّرة، وتفسّخت الآن بسبب الوحدة. في تلك المخيمات صار السوريّون يعيشون كأنّهم «سيموتون غداً»، وما عادوا يشغلون أنفسهم في أن «يعيشوا أبد الدهر».
قرى كثيرة أصبحت بلا أشجار، بعد أن احتطبها الناس والتجّار لبيعها كحطب للتدفئة، ومدن كثيرة صارت بيوتها ممتلئة بالكتب التي لا يجمعها الذوق الواحد، بل الرعب والحاجة فحسب، من أجل رميها في جحيم النار.
اتصلتُ بقريبي في مدينتي المنكوبة فطمأنني بأنه أخرج كل كتبي سالمة من مكتبي الذي يرتجف في منطقة الاشتباكات، وبأنّه يحتفظ لي بها في صناديق إلى حين عودتي.
- تصرّفْ بها. طلبتُ منه.
- كيف؟. سألني.
- أنتَ تعرف ما فائدة الكتب الآن، وما مصيرها في البلد. قلتُ له وكأنني أتخلّى عن عائلتي كلّها دفعة واحدة!!. شاعر سوري - عارف حمزة - مجلة الدوحة