06-04-2015 02:34 PM
بقلم : محمد ابو عريضة
ازدحمت الافكار داخل رأسه, فلم تعد دماغه تستطيع التركيز, فالصوت الذي يسمعه يأخذ بتلابيبه, ويدفعه للمضي قدما في طريقه, يقابل الصوت نداء يلح عليه بالعودة, فالاستمرار في الزحف داخل باطن الارض لمسافة اخرى من شأنه القضاء عليه, والحصيف لا يرمي نفسه الى التهلكة, وهو الآن مطوق بالاخطار من الاتجاهات كافة.
فذرات »الاوكسجين« من جهة اخذت تتناقص تدريجيا كلما توغل اكثر في باطن الارض, وصورة الافعى التي خرجت عليه قبل اشهر من باطن الارض, وهو يستكمل اكتشاف معالم نفق »اليرموك« »ديكابوليس«, من جهة اخرى لا زالت ماثلة امامه, لم تبرح مخيلته قط, وهو من جهة ثالثة لا يعرف ما الذي ينتظره في نهاية الدرب, ان كان له نهاية, وحتى لو أمِنَ شر نقص الاوكسجين, والافاعي, فمن يضمن له ان لا يتهدم جزء من »السرداب« الذي ولج اليه, وتنغلق طريق العودة في وجهه, وتدفنه المغامرة حيا.
القصة ابتدت قبل ذلك اليوم الموعود بسنوات عشر, هي عمر رحلة البحث في تفاصيل نفق »اليرموك«, الذي اكتشفه الباحث د. احمد ملاعبة - عميد كلية الملكة رانيا للتراث والسياحة في الجامعة الهاشمية - ولكن الفصل محور الحديث اليوم الخاص ببلدة »حبراص« في لواء الكورة, عمره لا يتجاوز ثلاثة اسابيع, فخلال جولة لملاعبة مع عدد من طلاب الدراسات العليا في بلدة »حبراص« لتقديم عرض علمي للطلبة عن النفق, وتدريبهم على طرق البحث والتقصي, تناهى الى مسمعه صوت يعرفه ملاعبة تمام المعرفة, يقترب الصوت تارة, .
واخرى ينخفض حتى يكاد يتلاشى, ومع ان الصوت مألوف, وسبق ان سمع ملاعبة ذات الصوت مرات سابقة, الا انه لم يتمكن في البداية من معرفة كنهه, انه صوت مكتوم لسقوط شيء ما من علٍ - مكان مرتفع -, ».. انه... آه تذكرت, انه سقوط الماء من مكان مرتفع الى آخر منخفض في باطن الارض« بهذه الكلمات التي قالها ملاعبة لنفسه انهى الرجل مرحلة البحث عن مداخل للولوج الى نفق اليرموك.
اكتشاف جديد
يمتد نفق »اليرموك« المائي التاريخي داخل بلدة »حبراص« بحدود تسعة كيلو مرات, ويمتاز بأنه في وضع جيد مقارنة مع اجزاء اخرى في قرى وبلدات مجاورة, تهدمت او انطمرت المداخل الى النفق, كما يمتاز بكثرة مداخله المنتشرة في البلدة, ما جعل السير باتجاه الشمال الشرقي الى »قويلبه« - ابيلا التاريخية -, .
وباتجاه الغرب الى عين٦#39; التراب امرا سهلا, وفي يوم موعود ولج ملاعبة الى النفق من مدخل ضيق لا يتعدى قطره نصف متر داخل احد الكهوف ببلدة »حبراص«, ففوجئ بان المدخل لا يفضي الى النفق, بل وجد قناة مائية طبيعية, حفرتها المياه المتدفقة داخل باطن الارض, بعد ان اذابت الصخور التي كانت تعترضها, وهذه القناة تقع على عمق خمسة عشر مترا تقريبا, لذا فقد استخدم ملاعبه الحبال والسلالم السلكية ليهبط اليها, وهي تمتد لمسافة اكثر من الف متر, ولان قطر القناة لا تسمح للمرء بالسير بها فارتفاعها لا يزيد على ثمانين سم, وعرضها على ستين, فان ملاعبه اضطر للزحف بداخلها على بطنه.
بعد مسير او الزحف مسافة مئتي متر تقريبا اخذ صوت سقوط الماء المكتوم, الذي سمعه ملاعبه وهو على سطح الارض يتضح رويدا رويدا كلما تقدم الرجل في زحفه, ومع ان التعب استبد بالرجل, واخذت انفاسه تضطرب, الا انه استمر في الزحف الى ان وصل الى مصدر الصوت, فالقناة تنتهي بمنحدر طبيعي يهبط الى الاسفل بحدود متر ونصف, ومن ثم يستمر كما كان, وتستمر الماء معه ايضا..
انه شلال جميل, مشهد قل نظيره وفقا لملاعبه, يغري المرء للتوغل اكثر داخل »القناة« او »السرداب« او نفق »الشلالات«, فبعد خمسين مترا من الزحف وجد ملاعبه منحدرا جديدا يشبه سابقه, وبعد امتار من »الشلال« الثاني اخذ الصوت ذاته من جديد يصل الى الرجل, ما يعني ان شلالا ثالثا على بعد امتار, وقد يكون هناك رابع, وخامس, وقد تكون الشلالات اللاحقة اكثر عمقا وانحدرا, فالصوت القادم من الشلال الثالث بدى مختلفا عن سابقيه, فإما ان المنحدر اكثر عمقا, او المياه تسقط على صخور, او ان القناة تتزود من مصدر جديد بمياه اضافية, فالصوت القادم حاد بل فج.
»حبراص«
الاكتشاف الجديد - نفق الشلالات - شكل حافزا لقيام مندوب »العرب اليوم« بزيارة الى بلدة »حبراص« للاطلاع عن كثب على البلدة التي تجلس بيوتها فوق »نفق الشلالات«, و »حبراص« بلدة تقع في لواء »بني كنانة« يحدها من الشمال قريتي »حرثا« و »يبلا« ومن الشرق »حرثا« و »برشتا«, ومن الغرب »كفرسوم«, ومن الجنوب »قويلبه« و »خريبه«, وهي تقع في منطقة امتازت بالسهوب الجميلة, والجبال, والاودية العميقة التي يتجاوز عمق بعضها مئتين وخمسين مترا, مُشكلة »بانوراما« جميلة, كل واد منها على شكل رقم »7« او حرف »V« باللغة الانجليزية ما يعني ان الحواف تنحدر بزوايا حادة, و »كنانه« هي قبيلة عربية تنسب الى »كنانه بن خزيمة«.
لم يكن اختيار »حبراص« للحديث عنها من بين عدد كبير من القرى والبلدات في لواء »بني كنانة« لتميزها عن شقيقاتها, فكل اللواء يزخر بتفاصيل حضارات متتابعة لم تنقطع ابدا لالاف السنين, ولكن لكل امرء في خياراته مذهب, و »بني كنانه« اللواء حمل اسماء عديدة عبر التاريخ منها »آبل الزيت«, الذي ورد في الحديث النبوي, حينما اوصى النبي »صلى الله عليه وسلم« اسامة بن زيد بعد تجهيز جيشه, فقال »لا ترجع الا توطىء خيولك آبل الزيت«.
و »آبل« كلمة »آرامية« تعني الارض المروية او الارض الخضراء, ويوازي ما ورد ما يطلق عليها الان بال¯ »كفارات« الراغبون بالتحدث عن جودة زيت الزيتون المنتج من زيتون قرى اللواء, و »كفر« كلمة »سريانية آدامية« وتعني القرية او الارض ذات التربة الخصبة, وهي التربة الوردية المعروفة بالادبيات العالمية بال¯ »تيراروزا« Terrarosa, بل ان البعض في الغرب يطلق على زيت الزيتون هذا المصطلح.
»حبراص« كلمة غريبة وفقا لملاعبة, لم يتُفق على تفسير واحد لهذا الاسم, فبعضهم يقول على سبيل الدعابة جاء الاسم من كلمتي »حب« و »راس« العربيتين, وآخرون يرجعون الاسم الى الميثولوجيا الفرعونية, وانه جاء من دمج اسمي الالهة »حورس« وابنه »حابي«, و»حابي» الابن في »الميثولوجيا« الفرعونية هو الآلهه التي تدفع مياه نهر النيل محدثا الفيضانات, واما »حورس« فتعني الكلمة البعيد, او آلهة السماء, وقد يكون هذا التفسير وفقا لملاعبه صحيحا, ما يفيد ان الفراعنه وصلوا الى الاردن ويؤكد ذلك ما سجله ملاعبه من نقوش باللغة »الهيروغليفيه« القديمة - الفرعونية- في مقام الشيخ خليل بلواء الرمثا,.
ولكن قد يكون اقرب التفسيرات الى الحقيقة هو ان اسم »حبراص« جاء من كلمة »هوراس« او »هوريس« (Horace) وهو شاعر وفيلسوف روماني, ويوجد دلالات وفقا لملاعبه تفيد ان »هوريس« قد عاش في »حبراص« عام ثلاثة عشر قبل الميلاد.
»حبراص« بين الماضي والحاضر
»حبراص« تقع بالقرب من »القويلبه« وهي مملكة »ابيلا« التاريخية, واحدى مدن حلف ال¯ »ديكابوليس« كما انها لا تبعد عن مملكة »جدارا« - أم قيس- كثيرا, وهذه ايضا احدى مدن الحلف, وليست بعيدة عن »ارابيلا« - اربد, ومن الحلف ايضا وكذلك مملكة »كابوتلياس«- بيت راس- من الحلف ايضا, وعن »رايون« - الحصن او ايدون او درعا- وهي من المدن العشر كذلك,.
وشكلت المنطقة- لواء بني كنانه- وفقا للمصادر التاريخية حلقة وصل عبر العصور في الطريق ما بين مصر ودمشق, فمن يأتي الى الشام من مصر لا بد له ان يمر ب¯ »طبريا« ومن ثم »ام قيس« مرورا ب¯ »حبراص« والى »اربد« ومن ثم الى »بصرى الشام« فالى دمشق, وهي طريق تجارة متحركة ظل التجار من العراق واليمن و»بخارى«, و»سمرقند« و»شيراز« و»فارس« يمرون منها.
تكثر في »حبراص« العمائر التاريخية بعضها لا زال قائما, ولكن اغلبها دُمر بسبب كثرة الزلازل التي ضربت المنطقة عبر العصور آخرها عام 1949 ومن ابرز ما يميزها اليوم مسجدها القديم الذي يعتقد انه بُني في العهد المملوكي, له مأذنة نادرة لانها مربعة طول ضلعها اربعة امتار ونصف, وترتفع بحدود خمسين مترا, وبينت وفقا لكتابات عليها عام 1287م بأمر من السلطان المنصور بن قولون وله ثلاثة محاريب, ومنارة ظلت صامدة الى عام .1968
»حبراص« ذات هضاب جميلة تمتاز ببيادرها الواقعة الى الجهة الغربية منها, واوديتها في قلب البلدة, واشجارها وفيرة, وفيها عدد من عيون الماء, من ابرزها عين »حبراص« القديمة الى جوار المسجد المملوكي, وعين »طريطاب« المطمورة, التي ظلت كما يقول سكان البلدة الى مطلع ستينيات القرن الماضي تتدفق منها المياه العذبة بكثافة كبيرة, ومن البلدة استشهد على ثرى فلسطين عام 1948 ابراهيم عبد النور عبيدات, وعام 1967 وصفي محمد لافي عبيدات, وسليمان محمد لافي عبيدات وهما شقيقان, ومن علمائها الشيخ نعمان العبراصي المتوفى عام 1610م, والشيخ ابو العباس احمد بن موسى الزرعي الحنبلي.
يسكن »حبراص« عدد من العشائر, منها العبيدات وعلوش او ابو علوش, التي يمتلك افرادها ارضا اسمها ارض »العلالشه«, وعائلة شرار, والسخني, والعمري, والخطيب او الخطبه, والسويدان, وابو سويد, ومن المفارقات الغريبة ان مقبرة مسيحية موجودة في البلدة, ظل مسيحيو لواء بني كنانه لغاية ثمانينيات القرن الماضي يدفنون موتاهم فيها, مع ان »حبراص« تخلو من المسيحيين.