09-04-2015 11:02 AM
بقلم :
الراتب : مسمى يطلق على المكافأة أو الأجرة التي يتقاضاها الموظف مع نهاية كل شهر ؛ نظير التزامه بعمله المتفق عليه مع القطاع العام أو الخاص ،
ولكن وكما يعلم الكثيرون ؛ فإن غالبية رواتب الموظفين لا تعمر طويلا” ولا تقاوم لمنتصف الشهر ؛ فهي أشبه بالطيور المهاجرة والتي تحوم فوق رأسك لفترة وجيزة ، وما إن تراها عيناك حتى تمضي بعيدا” وترتحل ؛ أو مثل أمواج البحر الخادعة والتي يركبها الكثيرون بفرح„ غامر ؛ وما أن تحملهم حتى تتلاشى من تحت أقدامهم بسرعة ؛ فيسقطوا في عرض البحر وهم يصارعون الحياة وينادون بلوعة شديدة : النجدة ؛ النجدة ...
الشهر لم يزل في بدايته ، والمبلغ المتبقي في جيبي هو : خمس وثمانون دينارا” فقط ، وهي تمثل البقية الباقية من راتبي بعد شرآئي للحاجيات الملحة للبيت ؛ وبعد تسديدي جزء” من ديوني ؛ وبعد دفع الفواتير والإشتراكات المطلوبة مع نهاية كل شهر والتي لا تقبل التأجيل ...
في تلك اللحظات الصعبة ؛ خاطبت الزوجة قائلا” لها : أتمنى بأن يمر هذا الشهر بخير ؛ وأتمنى بأن لا نضطر للكشف على الراتب قبل نهاية هذا الشهر ؛ وأن لا نضطر للإقتراض من أحد ... وقلت في نفسي إن أعسرت علينا الدنيا ؛ فهذا فصل الربيع كله خير ؛ ووجيات من قبيل : الخبيزة أو العكوب ... الخ ستساعد على إكمال الشهر بستر وستيرة وأمان ...
خطة مرسومة في الخيال ولكنها غير مضمونة النجاح أبدا” ؛ فهي خطة للعيش لا تحتمل المؤثرات الخارجية وتتأثر بالصدمات مهما صغرت ؛ هي خطة قد ينسفها هبة من الهواء تتسبب بمرض أحد من أفراد الأسرة ... وهذا الذي حصل ...
ففي إحدى الليالي المعتمة إرتفعت حرارة طفلي الصغير : محمد ؛ واجهش في البكاء ، وتلوى كثيرا” من آلآم بطنه الشديدة ... وهي الأعراض التي لا تحتمل التأجيل ؛ لذا فقد لزم الإسراع بنقله إلى المستشفى الفريب دون أي تلكؤ ؛ ولا سيما بعد الأنباء المخيفة عن إنتشار داء ( الخنازير ) ببن الناس في هذه الأيام ....
في تلك الليلة الصعبة قمت بأحضار إحدى سيارات الأجرة الخاصة ، ثم نقلت الولد الى المستشفى الجامعي القريب ، وبعد يومين من المتابعات العلاجية الحثيثة والمختبرات والتصوير ، أكد الأطباء بأنه مرضه : التهابات حادة باللوزتين وفي الأمعاء لا أكثر ...
وبعد اتمام علاجه قمت بدفع ستين دينارا اردنيا” ، وهي تمثل نسبة 20 % من تكاليف العلاج المقررة في المستشفى الجامعي للموظفين ؛ وإذا أضفنا اليها أجور المواصلات ؛ فهذا يعني بإن الراتب قد تبخر سريعا” وارتحل !
وعندها دخلت في دوامه من التفكير والتحري ؛ فمنذا الذي سيقرضني الآن من ماله لأكمل الشهر ، منذا الذي سيقرضني في زمان تحول فيه الكثير من أصحاب رؤوس الأموال إلى ما يشبه البنوك المتحركة : يشترون لك ويبيعونك على فائدة البنوك وعلى نظام البنوك ... ثم قلت في نفسي : إذا كان علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه ) قد تذمر وامتعض ممن كانوا حوله في زمان الرجال الرجال الذين هم أفضل بالأف المرات عندما وصفهم بقوله : ( فما أكثر الأصدقاء حين تعدهم ولكنهم في النائبات قليل !!! ) فلا شك بأن الأمر اليوم هو أصعب الف مرة ...
خلال دوامي المدرسي في اليوم التالي ؛ كانت علامات التعب والارهاق ظاهرة” على وجهي وعيني ... ولكن من الذي سيلتفت الي ؟ ومن الذي سيرحم حالي؟ فريك ووالديك ... وعلى الدنيا السلام ؛ كان من الطبيعي أن يسئلك المدير : لماذا تأخرت يا أستاذ ؟ وكان من الطبيعي أن يقول لك مساعده المحترم : هيا أسرع لحصتك يا أستاذ ... وخلال الحصة فلا مجال للتفكير في مشاكلك الخاصة أبدا” ؛ فالطلاب يجبرونك على إشغالهم بإي شيء ؛ وإن لم تفعل فسيشغلوك بمشاكلهم التافهة ، وسيتعبونك بصراخهم وازعاجهم ، وبعد نوبات متوالية من الصراخ والزعيق ، قال لي بعض الطلاب : يا أستاذ ؛ نريدك أن ترافقنا في رحلة مدرسية ؛ يا أستاذ !!!
لم أصغي لما يقولون ؛ ولم أستمع لمناشداتهم لي ، فالذي كان يدور في داخلي أصعب واكبر من أحلامهم ؛ والأسئلة في داخلي وفي خيالي لا تكاد تنتهي : كيف سندبر مصاريف البيت إلى أن ينتهي الشهر ؛ وبعد يومين من التفكير والبحث والإستقصاء والتحري ؛ اقترضت المبلغ من قريبي الذي يعمل معي في نفس المدرسة ... جزاه الله خيرا” .
وعندها قلت في نفسي : إن نهاية الشهر لم تزل بعيدة ؛ والمبلغ الذي معي قد لا بكفيني وعائلتي أبدا” ؛ فلا بد من سياسة صارمة للتقشف ولضبط النفقات ...
بعد صلاة العشاء وقفت أمام سيارة بائع الفول الأخضر والذي قدم من إحدى القرى المجاورة للبلدة ؛ وقررت شراء كمية من الفول بفيمة ثلاث دنانير ؛ وأعطيته عشرة دنانير من جيبي ؛ ثم إنطلقت بعدها لقص شعري في الصالون القريب من ذلك المسجد ، وبعد إتمام الحلاقه ؛ فتشت جيوبي كاملة لأجد بقية العشرة دنانير والمفترض أن البائع المتجول قام بأرجعها إلي ، ولكنني لم أعثر على شيء ، فذهبت لسؤال ذلك البائع المتجول : هل أعدت لي بقية العشرة دنانير بالفعل ، ولكنه كان قد غادر المكان ؛ وهنا قررت تقصي أثر المبلغ على خط سيري الممتد بين صالون الحلاقه وبين البائع المتجول ، فلعله ساقط من جيبي أثناء السير إلى صالون الحلاقة ؛ وخلال بحثي عن المبلغ المفقود شاهدني بعض الطلبة فسلموا علي ثم قالوا لي باستغراب شديد : والله يا أستاذ : لازمك سيارة !!!!! فقلت لهم بحزن شديد : صدقتم ؛ لازمني سيارة ... !!!