03-05-2015 10:39 AM
سرايا - سرايا - لا أدري بالضبط ما الأسباب التي تدفع العديد من المشتغلين في الحقول الثقافية إلى القيام عبر وسائل الإعلام بإعلان الموت وتوزيع أوراق النعي حتى ليخال المرء أن هؤلاء ليسوا سوى أعضاء موظفين في جمعيات ومكاتب عربية لدفن الموتى!
على الطالع يعلنون موتا، وعلى النازل موتا آخر: موت القصة القصيرة، موت الشعر، موت المؤلف، موت الموسيقى، موت الصحافة الورقية، موت رواد صالات العروض السينمائية والأخرى المسرحية، وغير ذلك من حالات موت، إلى أن امتلأت وسائل الإعلام بأوراق نعي مختلفة الضحايا.
فلماذا يتولون -وبحماسة- مهام إعلان موت هذا الجنس الأدبي، أو ذاك النشاط الثقافي والإعلامي؟ وإلامَ يتطلعون ويطمحون في إعلاناتهم؟ هل يفعلون تلبية لرغبة في الندب، أم دعوة إلى إحياء ما قد رحل وغاب؟ ما الغاية المرجوة، وما الهدف المأمول، والحال أن الندب ما أجدى يوما في إحياء ما رحل، ولا الدعوة نفعت في إعادة ما انصرم وانقضى؟
من مفارقات أعضاء جمعيات دفن الموتى أولئك أن بينهم عددا من كتاب القصة والسينمائيين والمسرحيين والشعراء الذين ما زالوا "على رأس عملهم" ينتجون كتبا وأعمالا في مختلف الحقول التي ينعون إلى الناس موت فنونها وأجناسها.
"ألا تشبه حفلات الندب هذه شكاوى واستياء أصحاب دور النشر والمكتبات الموجهة إلى الكتاب والقراء من أن "سوق الكتاب" من كساد إلى كساد.. في وقت نشهد فيه مزيدا من إصدارات تلك الدور"
ومن بينهم أيضا عدد من رؤساء تحرير الصحف ومديري المراكز الثقافية والنقاد والدارسين الذين يواصلون -إلى ما بعد ساعة إعلان نبأ الوفاة- إصدار الصحف، وإقامة الأمسيات والندوات، والتأكيد عبر مداخلاتهم النقدية على الدور الرفيع والعميق الذي يلعبه هذا الجنس الأدبي أو ذاك اللون الفني في الحياة الفكرية والاجتماعية، وتوسع رقعته بين الناس، وأثره على حيواتهم وأفكارهم ومشاعرهم.. إلخ.
فإذا كان حقا قد غاب حضور ما يكتبون في جنسه ولونه، فلمَ تراهم يواصلون الإصدارات والعروض؟ وإذا كان قد رحل "موديل" الوسيلة الإعلامية فلمَ يترأسون إحداها ويعتزون بما يتولون رئاسته؟ ولمَ يستمر مديرو المراكز الثقافية في نشاطهم إذا كانت موضوعات الأنشطة قد انتقلت إلى رحمته تعالى؟
ألا تشبه حفلات الندب هذه شكاوى واستياء أصحاب دور النشر والمكتبات الموجهة إلى الكتاب والقراء من أن "سوق الكتاب" من كساد إلى كساد، وأن مهنتهم لم تعد في هذا الزمن الأعجف ترد إليهم التكلفة التي ينفقونها.. في وقت نشهد فيه مزيدا من إصدارات تلك الدور، وتوسعا في صالاتها ومعارضها؟
في الواقع، فكرة الإماتة والنعي -بين فترة وأخرى- لجنس أدبي أو لون فني أو نشاط ثقافي (وأحدث النَعَيات: موت المثقف!) على ألسنة العديدين تبدو لي بمثابة لهو أو رغبة في إحداث صدمة, أو ربما تكون نزعة للثأر من انحطاط وتدهور الأوضاع العامة عبر إلصاق الموت بأصغر جزء من تلك الأوضاع.
هل ثمة تراجع وانحسار منذ عقدين -أكثر أو أقل- في الحياة الثقافية العربية؟ ممكن، وهل ثمة برودة في حضور النشاطات الثقافية وبلادة غالبة عن ما كانت عليه الحال في الماضي؟ ممكن، وهل ثمة إحباط عام في مشاعر أغلبية الناس إزاء مختلف قضايا حياتنا؟ ممكن جدا.
"حالات التدني أو التراجع أو الانتكاس أو الإحباط العامة لا ترتكز في جنس أو لون أو نشاط بذاته، ولا تختصر في وسيلة بعينها، ولا يتحمل وزرها المثقف ليصار إلى الإعلان عن موته"
غير أن حالات التدني أو التراجع أو الانتكاس أو الإحباط العامة لا ترتكز في جنس أو لون أو نشاط بذاته، ولا تختصر في وسيلة بعينها، ولا يتحمل وزرها المثقف ليصار إلى الإعلان عن موته إلا أن يكون التدهور الاقتصادي في بلد سببه أصحاب مطاحن البن, أو تجار اللحوم مثلا، أو أن يكون تفشي التخلف ودوام الاستبداد جراء تقصير المثقف في أداء دوره، أو موت دوره.
في يقيني، ما من أصيل يموت، وما من إبداع حقيقي يموت، الشعر الجاهلي ما زال حيا، ويقدر قيمته قراؤه إلى اليوم، وغناء أم كلثوم ما زال مطربا وشجيا حتى لأسماع أبناء الجيل الجديد، وكذا ما زالت الأهازيج الشعبية والأمثال والأقوال العربية الموغلة في القدم سائرة التداول إلى اليوم.
وعلى سبيل المثال, لم ينعَ اليابانيون -رغم قفزتهم الصناعية والسياسية والحضارية- فنا من فنون الأزياء لديهم اسمه "الكيمونو"، ولا قاموا بإعلان موت فن تنسيق الأزهار "الإكيبانا"، بل ما زالوا في الاحتفالات والمناسبات العامة يعرضون فنونهم القديمة متباهين ومتفاخرين بها كجزء من تاريخهم الثقافي.
ألا يكفي ما يحاصرنا من موت ويتغلغل في عالمنا العربي ويجلل حياتنا بالسواد حتى يهرع من حين لآخر من يخطر له جراء لحظة كآبة نفسية دهمته أو ضعف في مبيعات كتبه أو شح في زوار معرضه أو انفضاض عن صحيفته إلى إعلان النعي بحق هذا الفن أو ذلك الجنس الأدبي أو ذاك المبدع مغتبطا بما اكتشفه لكأنه مخترع البارود أو فاتح الأندلس؟!