07-06-2015 10:36 AM
سرايا - سرايا - نعرف إتيل عدنان الشاعرة اللبنانية التي تكتب قصائدها بالفرنسية والإنجليزية، والتشكيلية التي ابتكرت باكرا أسلوبا خاصا يزاوج بين التصوير والتجريد.
لكن ما لا يعرفه معظمنا عنها، أنها مفكرة وضعت نصوصا ذات طابع تأملي تشكل خلاصة تجربتها الطويلة والغنية بالإنجازات.
آخر هذه النصوص كتيّبان صدرا حديثا عن دار "لولونغ" الباريسية، الأول تحت عنوان "هاجس"، والثاني تحت عنوان "الثمن الذي لا نريد دفعه للحب".
في الكتاب الأول نقرأ نثرا لا هو سردي ولا وصفي ولا فلسفي بالمعنى الدقيق للكلمة. إنه نثر تجريدي يعبّر خصوصا عن حركة الروح والقلب والفكر، لكنه ذو طابع ملموس من منطلق علاقته المباشرة بالكلمات التي تمنح شكلا للأفكار المسيرة داخله.
عنوان هذا النص القصير يدل على رؤية بصيرة لحاضرنا، وفيه تدعونا الشاعرة إلى عبور حياتنا من جديد "الحياة التي تريد السير إلى الأمام"، فتفتح طريقا ذهنيا لأسئلة كثيرة وتمنحنا أجوبة على أسئلة أخرى، بينما يقود تناوُب "الأنا" و"النحن" على الإدلاء بوجهات النظر، إلى تبدد شخصيتها خلف خطاب فكري شامل.
"على خطى والت ويتمان، تصوغ إتيل عدنان نصا حيويا ومتفائلا، لا يستبعد الكآبة.. نصا في حالة سير، على صورة صاحبته التي تتنقل بيُسْرٍ بين عدة لغات: اليونانية لغة أمها والعربية والتركية لغتي والدها، والفرنسية والإنجليزية"
وفعلا، تعبر إتيل مرارا من أسلوب المخاطب الشخصي ("فلنتجنب الدموع، أرجوك")، إلى اعتبارات عامة، ميتافيزيقية.
وكما في نصوص الشاعرة الأميركية روزماري والدروب، تشكل كتابتها في هذا النص "فلسفة جَيْبٍ" يمكن أن تفيد القارئ في حياته اليومية، وفي الوقت ذاته تطرح وتقارب مسائل كبرى.
على خطى مؤسس هذا النوع من الكتابة والت ويتمان، تصوغ إتيل نصا حيويا ومتفائلا، لا يستبعد الكآبة.. نصا في حالة سيرٍ، على صورة صاحبته التي تتنقل بيُسْر بين عدة لغات: اليونانية (لغة أمها) والعربية والتركية (لغتيْ والدها)، والفرنسية والإنجليزية. كما تتحرك دوما في فضاء جغرافي شاسع يتجاوز لبنان مكان ولادتها ونشأتها، وفرنسا التي تزورها بشكلٍ ثابت، وأميركا حيث تعيش منذ فترة طويلة.
هل هذا الكتيب هو جردة حساب امرأة عاشت واختبرت أحداث نحو قرنٍ من الزمن؟ إنه بالأحرى نص شاعرة صريحة تخلط الأنواع الكتابية (الشعر، الشذرة، القول المأثور، التأمل الفلسفي) من دون تعمد، كما فعل إدمون غابس قبلها في "كتاب الأسئلة"، لمحاورة "الذرات، الروح التي تطفو فوق الغابات"، وأيضا -وضمن الاندفاع نفسه- للتأسف على طغيان "اللون الرمادي والحروب" على عالمنا. ولذلك، تستعين بنبرةٍ تأخذ أحيانا طابعا نيتشويا "يمكّننا -على هذه المرتفعات- أن نغسل وجهنا بالثلج".
ولعل مفتاح هذا النص يكمن في مطلع نصها الجديد الآخر، حيث تستحضر إتيل ما أشار إليه نيتشه مباشرة قبل دخوله في حالة خرف في السنوات الأخيرة من حياته، ونقصد ذلك "الموعد مع الأسئلة" الذي حل لديه بعدما أمضى حياته في الركض خلف العالم، وهو ما جعل منه نقطة التقاء قوى كونية وتيارات فكرية التقطها بغنى روحه وحبه الراديكالي ليس فقط للكينونة السامية، بل للأشياء البسيطة أيضا، وهو ما يفسر بالتالي انعدام أي نظام أو نواة صلبة في كتاباته التي تظهر كسلسلة حدسيات جوهرية.
ولا نبالغ إن قلنا إن هذا الوصف ينطبق بقوة على إتيل عدنان بالذات وكتاباتها، وخصوصا على نصها "هاجس" الذي هو أيضا عبارة عن سلسلة حدسيات وعن موعد مع الأسئلة.
"إتيل عدنان تندد بمجتمعاتنا الحديثة التي حولت الفرد إلى مستهلك معزول يمضي الجزء الأكبر من وقته خلف حاسوبه أو أمام التلفاز، بتنميتها لرغبات وأهواء مصطنعة لا تتطلب أي انخراط حقيقي في الحياة والعالم"
أما نصها الآخر فيختلف بأسلوبه المباشر والبسيط عن سائر نصوصها السابقة. وفيه تعبّر الشاعرة عن خوفها من الطريقة التي تسير بها الأمور في عالمنا بسبب تراجع حبنا لأمنا الأرض، ولبعضنا البعض، مما يعزز منطق الحرب وارتهاننا للتكنولوجيا التي هي حصريا في خدمة العلوم المجردة، وبالتالي تهدد كل يوم أكثر فأكثر علاقتنا ببيئتنا الطبيعية وببعضنا بعضا.
من هنا -في نظرها- تكون الكلفة العالية للحب، القادر وحده على إنقاذنا وإنقاذ بيئتنا، إذ يتطلب منا أن نغير بطريقة راديكالية نمط حياتنا، وأن نتخلى عن جزء كبير من رفاهيتنا و"ألعابنا"، وخصوصا عن أنظمتنا السياسية البالية، لخلق عالم جديد أكثر رأفة بنا وبكوكبنا.
وفي هذا السياق، تحذرنا الشاعرة من أن الاستمرار في رفضنا دفع هذا الثمن الضروري لتغيير العالم، سيؤدي إلى إفلات هذا العالم قريبا من الإمكانية التي ما زالت متوفرة لتوجيهه بطريقة إيجابية.
باختصار، تندد إتيل في هذا النص بمجتمعاتنا الحديثة التي حولت الفرد إلى مستهلك معزول يمضي الجزء الأكبر من وقته خلف حاسوبه أو أمام التلفاز، بتنميتها لرغبات وأهواء مصطنعة لا تتطلب أي انخراط حقيقي في الحياة والعالم، وبفصلها الجنس عن الحب وتحويله أيضا إلى سلعة افتراضية، علما بأن إنكار الانفعالات الحقيقية والمسؤولية العاطفية يقود حتما إلى مزيد من اللامبالاة والعنف.