09-06-2015 10:28 AM
سرايا - سرايا - سواء في رواياتها أو في دواوينها الشعرية، لطالما استعادت الكاتبة اللبنانية فينوس خوري غاتا أصوات أشخاص صمتوا نهائيا ولم يتبق منهم سوى ذكريات حية فيها.. أصوات صديقة أو حبيبة ما برحت الشاعرة تناديها وتحاورها من خلف حجاب الموت.
ولا يشذ ديوانها الجديد "كتاب التوسلات" عن هذه القاعدة، ولا روايتها الجديدة "المرأة التي لم تكن تعرف كيف تحتفظ بالرجال".
ففي الكتابين اللذين صدرا سوية عن دار "مركور دو فرانس" الباريسية، ثمة استحضار لأموات، وإن اختلفا في الأسلوب وزاوية المعالجة. فبينما يواجه نثرها بطريقة مباشرة حالة الفقدان المعاشة والمؤلمة، يتناول ديوانها الحالة نفسها لكن عن طريق الملامسة الشعرية.
في فاتحة الديوان، نقرأ "سأسهر على أن لا تنقص روحك الكلمات"، والمقصود، وإن لم تسمه الشاعرة، هو رفيق دربها الأخير الذي فقدته حديثا ويظلل قصيدة طويلة تحتل معظم صفحات الديوان. قصيدة مكتوبة على شكل توسلات، ويعبرها شعور بالذنب تجاه هذا الفقيد الذي لم تعتنِ فينوس به طوال فترة علاقتهما لانشغالها بالكتابة وحصر اهتمامها بالكلمات.
أما القصيدة الثانية "الأمهات والمتوسط" فتشكل صدى للحرب الأهلية اللبنانية التي لعب فيها القناصة دورا كبيرا، فحصدوا آلاف الأبرياء. قصيدة تستحضر ألم أولئك النسوة اللواتي فقدن أزواجهن أو أبنائهن في عبث الحرب وضن القتلة عليهن بجثث ذويهم التي رميت في الآبار وعلى الأرصفة أو في البحر.
في القصيدة الأولى، تتقمص فينوس شخصية "أورفيوس" فتنزل إلى عالم الأموات للبحث عن الفقيد ومحاورته. وفي القصيدة الثانية، تنزلق تحت جلد المكلومات لقول ألمهن، مستعينة من حين إلى آخر بعبارات سمعتها كثيرا على لسان نساء قريتها.
هو شعرٌ أسود إذاً.. يملي الموت نصوصه، لكنه لا يخلو من طرافة وألوان، لتتمكن الشاعرة على مر السنين من تدجين الموت بعدما طرق على بابها مرارا، ولتسييرها داخل نصها صورا سريالية مبتكَرة وفعالة، وصقلها لغة تحافظ على قرب مدهش من الأشياء.
وفعلا، تكتب فينوس شعرا ملموسا تحضر فيه الطبيعة بكل عناصرها وطقوس قاطنيها، وخصوصا طقوس حياة أولئك القرويات اللواتي تنحدر الشاعرة منهن، ويملكن سلطة على بيئتهن الجبلية الوعرة، وتتجلى بقدراتهن المدهشة على تحويل حفنة حبوب وأعشاب إلى وليمة.
تجعل فينوس من الكتابة الشعرية في ديوانها تجربة مُعاشة، وإن عبرت في مصفاة الكلمات. كتابة لا تسقط في اللغة المحكية، رغم جانبها المباشر ومفرداتها البسيطة، كما لا تنجرف في اتجاه التجريد أو الميتافيزيقا أو التجريب، بل تبقى وفيّة لما يعتمل داخل الشاعرة.
هي كتابة ظرفية تنبثق من أحزان ومآس مختبَرة، وفي الوقت نفسه، ذات طابع علاجي نظرا إلى القدرة الإنقاذية للكلمات.
وهذا ما نستنتجه أيضا في روايتها الأخيرة التي لا تقول فيها شيئا آخر "الكتابة تنقذنا في كل مرة نفقد فها شخصا عزيزا علينا".
الرواية عبارة عن سردية قصيرة نسبيا (110 صفحات) مكتوبة بنفسٍ واحد، وبصيغتي المجهول والمخاطب، تسرد فيها الراوية قصة "المرأة المجلببة بالأسوَد" التي شاء القدر أن تصبح أرملة جميع الرجال الذين أحبتهم.
امرأة نحزر بسرعة أنها فينوس نفسها، التي تحاول على طول النص الإجابة عن سؤالين: لماذا فشلت في الاحتفاظ بالرجال الذين شاركوها حياتها في فترة ما؟ وهل أن السبب يعود إلى شغفها في الكتابة الذي يتعارض مع الحب؟ أم إلى قلبها الذي أدماه الفراق المتكرر فلم يعد ممكنا ترقيعه ولم يعد قادرا على الحب؟
كما نخرج بانطباع أن فينوس -رغم عيشها في باريس منذ سنوات طويلة- ما زالت ابنة الشرق، فخلف لغتها الفرنسية الفريدة في جمالياتها يمكن للقارئ العربي أن يسمع بسهولة حفيف لغتها الأم. ولعل هذا أحد أسباب جمال نصها الثري أيضا بمراجع ثقافية شرقية كثيرة، وبنكهات وروائح وصور تحاكي حواسنا وذاكرتنا معا.
ومن جهة أخرى، تظهر الهوية الشرقية للكاتبة من خلال كشفها المؤثر والثابت في نصها عن تلك الحاجة الماسة إلى رجل في حياتها، حاجة تجعلها تقول في روايتها من دون مواربة "امرأة بلا رجل هي منزل بلا سقف، نافذة بلا مصراع، ملكية بلا سياج".