20-06-2015 10:26 AM
سرايا - سرايا - للطفولة روافد ومتعلقات كثيرة في حياة المبدع لارتباطها بمعنى الدهشة، لهذا نلاحظ أن الكثير من المبدعين يهربون من ألم الواقع المعيش إلى فضاءات الطفولة الرحبة، لأنها مرتبطة بالطبيعة وبدايات الوعي بمعجم الحياة، ولأن الطفولة أسطورة التكوين الخاصة بالمبدع ولحظة الامساك بالجوهر الاساسي لرائحة الحياة وجماليات التكوين. «الدستور»، التقت بعض المثقفين والمبدعين، وسألتهم هل ثمة إبداع حقيقي من دون طفولة؟ وعن الطفولة في تكوينهم الإبداعي، فكانت هذه الرؤى.. يوسف الديك: للطفولةِ قصب السبق وعصا الرحى في تشكيلِ أدوات المبدع وتهيئته لما بعدها من مراحل، الأهمّ من هذا هو التقاطها كما يجب، فبعض الموهوبين من أطفالنا تسرقهم الحياة ويأخذهم الإهمال والقفز عن آلامهم الجوّانيّة ولذاذة الحرف فيهم، إلى مناطق لا توصلهم بأمان، فنخسرهم، بالنسبة لي كان الإصرارعلى التواصل أقوى من أدوات قمع الموهبة الطفولية، فالإبداع يرتكز على ثلاثة عناصر أساسية كي يتجاوز مرحلة الصبا ويعبرها بأمان، الموهبة ابتداءً، القراءات وتنمية هذه الموهبة وصقلها تدريجيًا.. ثم تأتي خصوصيةِ المبدع في تناوله لصنف إبداعه في الشعر أو الموسيقى أو الرواية والقصة والمسرح وسواها، في منطقة ما من هذا الكون - ما بعد الطفولة - يكتشف المبدع الحقيقي أن كل هذه الأصناف تتلاقى معًا بحيث تتداخل القصيدة بالقصة بالرواية بالمسرح واللوحة الفنيّة لتشكيل مجتمعةً تلك اللوحة الإنسانية المأمولة. مجدولين أبو الرب: لربما كانت طفولتي أسطورة التكوين خاصّتي. فعندما أعيد تأمُّل تلك الاشتباكات والتفاصيل، والأحاسيس، وتشكُّل الوعي، ومخزون اللاوعي، أجد أنها تصوغ كينونتي في بدائيتها. كانت الانطباعات الأولى عن العالم دهشات أصيلة، حتى أمام أدقّ التفاصيل وأكثرها بساطة، سواء بساطة الحدث أم بدائيّة التلقي. وكم أجد نفسي الآن حريصة على أن أمسك بتلك البدائية، كي تتولّد الدهشة من جديد، وتنفلت الكلمات مني، هاتفة: - يا الله! الأمر بالنسبة لي حياة وإبداع، فأنا، وحتى خارج لحظات الكتابة، أفتِّش في الروائح والوجوه، في تكوين الأشياء وفينا، أبحث عن لحظات ملتبسة من الماضي، ألقي القبض عليها لأتقمص شعوراً مضى، عندما كان الهواء يلفّنا بأذرعه المجنونة. نمسك بخيوط الطائرات الورقية ونجري. أو عندما تعبق بأنفي رائحة الرياحين في أصص معدنية لربات البيوت الحريصات على خلق الجمال من المُحال. يجترحن من شريان الحياة قطرات نبضٍ يفيض عبقه مع تنكات معدنيّة مصفوفة على سلاسل البيوت في الزرقاء، ورشرشة لرذاذ الماء في غمرة من صحراء، في غفلة الصحراء عنّا. هي هالة الكون عندي حين كنت في بدايات تكويني، ليست دهشة التلقي الأول، لم يكن تلقي فحسب، بل كانت الأنفاس التي تدخل رئتي، وتدخل دقائقها في نسغي. حسن البوريني: بدايةً يَجبُ أن نتفقَ على أنَّ النَّصّ الأدبي ما هو إلا كأيِّ كائنٍ تُقولِبهُ الظُروفُ، وتُقلّبهُ الأحداثُ، فهنَّ لهُ بمثابةِ التُّربةِ والهواءِ والشمسِ والماءِ مَعاً. فإذا ما توافرتْ هذه الثـِّيماتُ سَنغدو حتماً في ظلِّ وارفةٍ باسقةٍ. ولكون النّص الأدبي بمثابةِ إنعكاسات حقيقية لِمَ يدورُ في خلدِ المُبدعِ، فإنَّ ذلك يعتبرُ جزئية نابعة من ذاتِ الذّاتِ وبإسلوبٍ ليسَ بالفلسفي نَخلصُ إلى إنَّ الذّات تتأثرُ بالمحيطاتِ والحولياتِ التي يَعيشُ بكنفها هذا المُبدع، الأمر الذي يبدو مَردُّهُ واضحاً على نتاجهِ الأدبي فيسوقُ الفكرَ مِنّا إلى أمرٍ هو مقصودُه تماماً برغم تباين لفظاتُ النصّ ما بينَ بيئةِ كاتبٍ وآخر، وفي ظلِّ وحدويةِ المعنى المقصود برغمِ ضبابيةِ الروئ، فالنفسُ الأدبيةُ الحقّةُ هي رهينةُ الظرفِ، وللمُبدعِ طفولة أخالها حدّثَتْ ذات يومٍ - ولو بِصمْتٍ خَفِيت ـ عن مَا تحملهُ الآتياتُ في أكمامِها مِن حَوادثٍ وأحداث. فأنا إبن قريةٍ وجوعٍ وتعبٍ وعوز، إبن قمحٍ ومطرٍ ورعدٍ وبرقٍ، إبن حوالكٍ ومهالك، إبن قهر لاصَقَ الرّوحَ فأدمنها، لذا جاءت جلّ نُصوصي خالية من التَّرفِ الباذخ، لذا أقول بأنَّ أصدقَ الشّعرِ هو الأكثر حزناً والأقربُ قُرباً. مهدي نصير: ربما كانت الطفولةُ مخزن الإبداع الحقيقي ومخزنَ الذكريات البريئة المرتبطة بالغرائز الأولى غير الشرسة للإنسان. والطفولةُ عجينةٌ يشارك المجتمع والتاريخ والأسرة والمدرسة والدولة في تشكيلها وحفزها ودفعها باتجاه ميولها واهتماماتها التي يمكن أن تدفع الطفل نحو الإبداع أو تدفعه باتجاهاتٍ تدمِّر هذه النبتة الإبداعية التي تحتاج لرعايةٍ خاصة، وكم من موهبةٍ جفَّت واحترقت لعدم وجود حواضن مؤسسية للإبداع بكافة أشكاله الكتابية أو الموسيقية أو الفن التشكيلي أو المسرحي.. الخ. في طفولتي كنتُ شغوفاً بالقراءة فقرأتُ بنهمٍ شديدٍ كتب التراث الشعري العربي وكتب التراث الأدبي العربي واطلعتُ على الشعر العربي المعاصر ومدارسه وأعلامه الكبار، كان ذلك يتم من خلال مكتبات المدارس الفقيرة بكتبها، إلى أن اهتديت لاحقاً للمكتبة العامة لبلدية الزرقاء التي زودتني بطيف واسع من الكتب القديمة والحديثة والترجمات من اللغات الأخرى الذي فتح أفاقي للشعر العالمي والفكر الفلسفي، فاطلعتُ على الفلسفة الوجودية والماركسية والمدارس الأدبية كالسريالية التي أثرت في تكويني الفكري كثيراً. في مرحلة مبكرة كتبتُ الشعر العمودي وكنتُ أقرأه في المدرسة وأنشره في مجلة الحائط المدرسية التي كنتُ أصدرها بالتعاون مع أساتذتي، وبعد ذلك أنشأنا مجموعة من التلاميذ لجنةً ثقافية في مكتبة بلدية الزرقاء وأصدرنا مجلة حائط رصينة. التغير الجوهري في طفولتي كان التعرف والانتساب لنادي أسرة القلم الثقافي وانا ما زلت في المرحلة الإعدادية مما أعطاني فرصة للقاء أسماء أدبية كبيرة ساعدتني ووجهتني، وأقمتُ أول أمسية شعرية لي في هذا النادي ام 1977 وانا في الصف الأول ثانوي. كل ذلك أعطاني ثقافةً وعلاقاتٍ مع أسماء أدبية شكَّلت وعيي الطفولي ودفعته باتجاه مزيدٍ من القراءة والإطلاع على الثقافات الأخرى ومنجزها الثقافي في الشعر والرواية والموسيقى والفن التشكيلي والسينما. الطفولة مخزنٌ مليءٌ بالكنوز إذا وجدت مؤسساتٍ تعتني بها وتوجهها لاهتماماتها وقدراتها الفعلية يمكنها أن تنبتَ إبداعاً في كل المجالات. صلاح أبو لاوي: ذكريات الطفولة عنصر أساس من عناصر التشكيل الإبداعي لاحقا، وروافد الطفولة لابد وتظهر بشكل مباشر أو غير مباشر في النتاج الإبداعي على مراحله المختلفة، وكثيرا ما يهرب المبدع من واقعه الى طفولته «وهذا يحدث بالأخص مع الشعراء»، فيستذكر ملاعب الصبا ويحتمي بذكريات الآباء خوفا من مستقبله الذي يراه مظلما، وبشكل غير مباشر تعلم الطفولة على تكوين صيرورة المبدع، وقد تناول عديد من النقاد الطفولة بالشعر العربي الحديث وأسقطوا عليها نظرياتهم النقدية معتبرين أنها أهم المراحل التي تؤثر في نوع وشكل الإبداع