26-01-2008 04:00 PM
كنت أحب كثيرا سهراتنا في بيت جدي مع الأقرباء... كانت سهراتنا لها طعم ألذ من طعم الكنافة النابلسية التي كنا نتناولها بعد العشاء... كان يطربنا صوت الحب في روايات فيروز... ويسكرنا العشق في قصص عبد الحليم...
ولطالما رغبت أن أقف أمام والديّ لأغني: "أعطني حريتي... أطلق يدي..."
فلقد كنت أكره بشدةٍ رتبة الأطفال/ طائفة ما دون التاسعة/ شعبة الصغار، التي تم تصنيفي –رغما عني- ضمنها في مملكة العائلة الصغيرة...
لذلك كنت أتسلل إلى سطح المنزل، وأستمتع وأنا أرى الشباب يدبكون على أغنية "هبت النار والبارود غنى" و "وين ع رام الله" وأغاني الدلعونة والهوارة... لكنهم كانوا دائما ينهون جلساتهم بلعب الورق والنّكات السخيفة التي ما كنت أفهمها ولم أكن أعرف سر وقوعهم أرضا ضحكا عليها؟!
لذلك كنت أتركهم ويجذبني غناء الصبايا اللواتي اجتمعن في المطبخ لإعداد وجبة العشاء، وأخذن يدندن "الشبّ الأسمر جنني..." و "يا ستّي يا ختيارة..." و "بحلم بيك أنا بحلم بيك..."... لكن استراق السمع لم يروِني يوما؛ لذلك كنت أقتحم مسرح الأحداث لأندس بجانب الطاولة المستطيلة في وسط المطبخ، إلا أنني كنت أَسرع من عبد الرحيم محمود حين كنت أحمل روحي على راحتي فرارا من أختي الكبرى وأنا ألمح الحقد الأسود الراقص على نصل السكين في يدها وهي تتوعدني بأن تحيلني في بضع ثواني إلى شرائح تزيّن بها أطباق الحمص والفول...
هربت من تلك الملحمة التراجيدية لأرتمي على صدر أمي التي وبّختني وطلبَت مني الالتزام بشُعبتي المُمِلّة، وأنا بدوري لم أكن أفكر في البقاء بجانبها مدة طويلة، ليس لأنني فتاة مطيعة، ولكن لأن طوائف النساء لم تكن تعجبني ولم ترق لي يوما أحاديثهن المقتصرة على الغيبة والنميمة والأقاويل الكاذبة في معظمها والقصص الكيدية والمجاملات المنافقة...نعم، فزوجة خالي تلك كاذبة، أعرف ذلك...ففنّ الكذب يحتاج إلى ذاكرة قوية تفتقدها هي...!
آه... عاد واحتدم النقاش في طائفة الرجال من جديد، فخالي الكبير كثيرا ما كان يختلف مع والدي وجدي في نقاشاتهم السياسية وآرائهم المتعلقة بقادة الدول وسياساتهم... وأكثر جدلهم كان دائما ينصب حول رجل يدعى جمال عبد الناصر، فخالي كان يعتبره متهورا وملحدا ودكتاتوريا بينما يعتقد والدي وجدي وخالي الصغير أنه رجل حر وزعيم شجاع...كانوا يحبونه، ويحترمون رجولته وثورته وقيادته، ويمجدون عروبته وقوميته... إلا أنني حتى اليوم لم أفهم ما الذي حدث بعد ذلك بالضبط؟!؟ كل ما أذكره، هو أنني كنت أتوارى عن الأنظار عندما تهدأ وتيرة الحديث قبل أن يطلبوا مني إحضار طاولة الزهر، فأنا أكره ضجيج الزهر عندما يلقونه أثناء اللعب...
إذا...لا يوجد أي مفر... الفتيات الصغيرات كن يلعبن بالدمى والعرائس ويمشطن لهن شعرهن ويبدّلن لهن ملابسهن ويتهامسن ويتضاحكن، والأولاد يلعبون كرة القدم في الساحة الخارجية أمام المنزل... وأنا كالعادة... كنت أستلقي على الأريكة الكبيرة التي تعوّدَت على احتضاني في مثل تلك الأمسيات التي كنت أبدأها بحماس كبير ثم تنتهي بي في قاع الوحدة والعزلة والملل... كنت أستلقي هناك وأغط في نوم عميق حتى أصحو على صوت والدتي وهي تطلب من والدي أن يطفئ سيجارته ويحملني إلى السيارة؛ لأخلد إلى النوم من جديد حتى توقظني وشوشات أشعة الشمس المتسللة داخل حجرتي صباح اليوم التالي...
ولم تبقى لي سوى ذكرى الأمس... ذكريات... أطياف... عبث... وأحلام...
أحلام محاها غبار بيت جدي المهدوم، بعد أن هدموا المنزل وبنوا على أرضه حانة... ونُفي جدي من بيته ومن وطنه... وعلا صوت الغانية على صوت الدبكة... والنار انطفأت بنزيف الجرحى والقتلى... والبارود أدماه البكاء وحزن اليتامى والثكلى وصوت النواح والعويل... والشب الأسمر الذي طالما جنّن الصبايا قد جنّنته الهزائم المتلاحقة...والست الختيارة قد قُتلت والحلم قد اغتيل... وما عدت أكره كذب النساء ونفاقهم، فالعالم كله استحال إلى أكذوبة كبيرة عملاقة مُرّة... وسُرقت كرة أخي...وضحك الفتيات خنقته العبرات... وما عاد صوت والدي يعلو ولا عاد خالي الكبير يعارض فقد مات جمال عبد الناصر...
وظللت أنا أختبئ في زوايا الأحلام...أبحث في شقوقها عن حلم جميل يحملني على متنه بعيدا عن الشواطئ المتسخة بوحل حقيقة موجعة أحرقت بشظايا عدوانها وهمجيتها الأخضر واليابس...أنقِّب بين أشلاء الذكريات عن قطعةٍ من الكنافة النابلسية... آه... ما ألذ طعمكِ وطعم أيامك الغابرة يا كنافتي النابلسية...!
بقلم: الدكتورة آية عبد الله الأسمر
(مجلة السفيرة)
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-01-2008 04:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |