08-08-2015 10:25 AM
سرايا - سرايا - تشكل روايتا «حليب التين» الصّادرة عن دار الآداب 2010 بالإضافة إلى رواية «خلسة في كوبنهاغن» ثنائية كتبتها الروائية سامية عيسى، تتناول فيهما رحلة النفي والتهجير الفلسطيني، ولكن عبر سياقات جديدة.
في «حليب التين» نواجه المخيم فضاء لمعاناة الفلسطينيين، ولا سيما لعائلة فلسطينية تتكون من فاطمة، الجدة التي توفي زوجها وأولادها في الحرب، حيث لم يتبق لها سوى ابنها عمر الذي اختفى، وهناك زوجة ابنها أحمد، وتدعى «صديقة» التي تتقاسم مع فاطمة فضاء العمل الروائي، ضمن مسارين متوازيين سردياً. موضوعا الحب والجسد يتخللان هذا العمل، ولكن في سياق الارتحال والتهجير، وفقدان الوطن، فالجسد معادل لمعنى الاستلاب، ولهذا يتعرض للانتهاك، وهنا نعاين جسد فاطمة (المرأة) التي تبحث عن جسدها بوصفه كائناً أنثويا. تنفتح الرواية على «فاطمة» وهي تشغل أحد المراحيض العامة في مخيم أوزو، الذي وصلته العائلة بعد سلسلة من الارتحالات بين عدد من المخيمات، فاطمة تستشعر شهوتها في المرحاض، ولكن سرعان ما تنشأ علاقة صامتة بينها وبين أبي علي، لتكون فعلاً هامشياً على متن الحياة التي تتقوض بغياب الوطن، والزوج، والأولاد، فضلاً عن إعالة أبناء شهيد، ولا سيما بعد أن ترحل إلى دبي كنّتها (صديقة) التي توفي زوجها هي الأخرى.
تنشغل الرواية بصورة واقع الشعب الفلسطيني، حيث يتحول شعب بأكمله إلى «ممسحة للجميع « كما جاء على لسان فاطمة في مطلع الرواية (ص6)، ولعل تجربة التهجير قد انعكست على تلك القسوة التي ميّزت البعض الفلسطيني، إذ باتت السلطة مطلباً كنوع من التعويض، ومن ذلك شخصية ركاد مسؤول مخيم أوزو، حيث يقوم بهدم المرحاض العام الذي تحول إلى ملاذ لفاطمة، وذلك بوصفه هامشاً، حيث يمكن أن يفرغ فائض الشهوة للحياة، وهذا تصادف بلقاء أبي علي، نظيرها في البحث عن عالم هامشي بعد أن فقد الكثير من مكوناته، جراء النكبة والتهجير، فهو قد عرف الارتحال حيث كان في الأردن، ومن ثم انتقل إلى لبنان مع المقاتلين الفلسطينيين، لينتهي به المطاف يجمع النفايات، والخردوات في المخيم.
فاطمة التي تعيش أزمتها في المخيم لا تنفكّ تمارس اجترار الماضي، وخاصة ما قبل النكبة، وتحديدا في بلدتها «صفد» فهي تستعيد قيما جمالية مألوفة، ومعتادة للكائن العادي والبسيط، وذلك بعد أن قوّض المخيم الشروط الإنسانية: «تسرح في ماضيها البعيد فلا تتذكر إلا زهور الحديقة المحيطة ببيت والديها في صفد. لماذا تتذكر الحديقة وبلدتها البعيدة الآن؟ أتراها استفاقت من غيبوبتها، أم عادت إلى عبق الطفولة؟ تذكرت فاطمة رائحة الورد. كانت والدتها تعشق الورد الجوري الأحمر، وتحرص على أن تحيطه بزنبق أبيض. ما أن يأتي المساء حتى تفوح الحديقة برائحة أخاذة كانت تثلج صدر طفلة الخمس سنوات، وتشعرها بنشوة تبعث البهجة في نفسها» (ص28).
يبدو فعل استمطار النشوة والتريّض الذي تمارسه فاطمة فعلاً رمزياً لمعنى كينونة الإنسان بوصفه حالة طبيعية لعالم استلب كل شيء، ولم يبق سوى هذا الجسد، فهذا الفعل مخرج لتحقيق قدر من السعادة والنشوة، فالجسد بات حالة نظيرة للاستلاب، وللرغبة في إقامة علاقة خاصة به، ففاطمة امرأة عادية، أصبحت تعيش في الارتحال والنفي، ولعل هذه الرحلة ما زالت تمثل مسلكاً محوريا في الأدب الفلسطيني، إذ تستعيد فاطمة رحلة اللجوء من صفد إلى لبنان مع كثير من الحشود، ومن يومها عادت تكره الحشود، وتحاول عزل نفسها، هذا العزل سلوك نفسي يميز من عايش النكبة، ولعله يصبح مطلباً للابتعاد والإقصاء الذي يتحقق مادياً، غير أنه ينتقل إلى المستوى المعنوي، فرحلة الخروج بما يحاذيها من مفردات الخيام، والإعاشات من وكالة الأونروا، والانتقال بين أكثر من مخيم حيث يكون التصنيف في بدء اللجوء إلى المنطقة التي أتى منها اللاجئون.
هذه الأم الثكلى بأربعة أبناء، تجسد معنى تشرذم، وتشظي العائلة الفلسطينية بين المخيم والقبر والعالم المتسع؛ ولهذا تتأسس الرواية بشكل جوهري على عذاب الفلسطيني في المخيمات الفلسطينية في لبنان، وهنا نقرأ إشكالية الوجود الفلسطيني في دول الطّوق، ولاسيما عمليات القتل والتشنيع والمجازر التي ارتكبتها عدة أطراف في الحرب، ومنها العربي والإسرائيلي، غير أن وضعية الفلسطيني في لبنان تسم بقسوتها المعيشية، والإنسانية، وهنا نقرأ إشارة إلى ذلك الخلاص الممثل بالخروج إلى إحدى دول الخليج للعمل، فهذا البؤس يبقى قائماً غير أن ما يبدده هو اكتشاف فاطمة لمعنى جسدها الذي ما زال نابضاً بالحياة، والغربة في الحياة، وهنا الجنس يتبدى ببعده السميولوجي كدلالة على البقاء والحياة، ونبذ الموت، والتعالي على الألم والبؤس، والذوبان والتلاشي، ومع أن هذا يتم في المرحاض، إلا أن هذا لا يعني إلا انحسار هذا الطقس الإنساني في مكان التبرز، والقاذورات، فتكون الحياة في وسط من القذارة.
لا شك أن الخروج من هذا الواقع المأزوم لا يتوفر على خيارات كثيرة، غير أن خيار التّعليم يبدو نسقاً مكروراً في الرواية الفلسطينية، فخليل زوج فاطمة… على الرغم من عدم إكماله لتعليمه، غير أنه كان يدرك بأن الخلاص يتوفر بالتعليم، لهذا كان يُكثر من تكرار، وتلقين أولاده عبارة «علمك هو سلاحك اللي بدو يرجع فلسطين» (ص47) هذه العبارة تتكرر في كل بيت فلسطيني، أينما حل، باختلاف وضعه الطبقي والاجتماعي.
في لبنان نواجه تلك الإشارات لواقع الفلسطيني في لبنان، وتلك الفظائع التي ارتكبتها فصائل لبنانية، بالإضافة إلى القوات السورية، وغيرهم، ولا سيما المجازر، وعمليات الاغتصاب الوحشي، غير أن هذا المستوى من النقد لا يقتصر على الآخر، إنما يمتد ليطال الداخل، أي الأنا الفلسطينية، فمسؤولو المنظمات الفلسطينية، وفصائلها يتاجرون بالقضية، والاستفادة منها عبر الإثراء، ونهب الأموال المخصصة لأسر الشهداء حيث يتم التخلي عن تقديم العون، ومنهم رّكاد الذي أثرى من جراء متاجرته بالسلاح، كما الكثير من مسؤولي الثورة الذين حاولوا مقايضة جسد صديقة – كنّة فاطمة- بالمال، على الرغم من كونها زوجة شهيد.
تسافر صديقة إلى دبي بعد أن ضاق بها الحال في المخيم، بعد أن دفعها الفقر، وقلة الحيلة، وما تتعرض له من استغلال، ولهذا قررت أن تهرب إلى دبي، وهنالك تقوم قريبتها الفلسطينية نوال باستغلالها، وذلك بأن دفعتها للعمل في الدعارة، وكما يبدو فإن نوال تعني نمطاً لاستغلال الهم الفلسطيني. لا شك أن دبي تمثل مواجهة للمجهول، كما في المخيم، ولهذا قررت صديقة أن تتعالى على الألم، لتبدأ عملية ولادة لذات جديدة « كل ما كانت تعرفه هو أنها سوف تصنع نفسها من جديد. سوف تلد صديقة جديدة، صديقة تشعر معها بأنها أقل ألما وأقسى من القساوة التي غمرتها بالمرارة حتى لم تعد تعرف العيش خارجها. بعيداً عنها (ص107).
نستنتج من تجربة «صديقة» في دبي، وما كان من نوال، وغيرها من زبائن «صديقة» أن الأمكنة سواء، فالشارع هو مسلك بغض النظر عن وجود هذا الشارع سواء كان المخيم، أو بيروت، أو في دبي أو أمريكا، أو كندا، أو السويد،» فحتى لو كنا في فلسطين سنبقى في الشوارع طالما أنا امرأة وأنت امرأة لا مكان لنا في هذا العالم سوى الشارع نقذف إليه، أو نبقى مهددات على الدوام في أن نقذف إليه»(ص111) هنا نقع على عدد من مستويات الفهم لإشكالية المعاناة الفلسطينية من وجهة الروائية الفلسطينية، فقد جعلت من إشكالية المرأة تتعالى على التهجير والنفي، بل قدمتها على قضية المرأة، وموقفها في المجتمع، وهذا من وجهة نظري قد جعل العمل مصاباً ببعض الخلل على المستوى الفكري، بل وأيضاً على المستوى الفني، وذلك نظراً لافتقاد العمل لمركزية وبؤرة دلالية واضحة، فهل تنطلق الكاتبة في عملها لاختبار أزمة الفلسطيني بوصفها إشكالية اجتماعية وجودية؟ أم هي معنية بالمرأة فقط، أم أن الحدث قد دفع إلى حدث مركب؟
يلاحظ أن ثيمة الجنس مشرعة، ولكن من خلال حضور إشكالية المرأة، ومنها ممارسة الجنس مع الزوج الذي كان على عجل من أمره نظرا لمتطلبات الالتحاق بالثورة، أو لضيق المكان، وازدحامه، وهنا يتداخل المستوى الخطابي الخاص بالتّهجير بالمستوى الإنساني الفردي، لتكون المرأة وجوداً لحالة إنسانية تبحث عن قيمة التماثل، والاعتيادي، فمن حقها أن تكون امرأة من دون تلك الضغوط التي تحاصرها في علاقتها مع الحياة، فممارسة الجنس مع جاسم (أحد الزبائن) في مكان فخم، ومريح، من دون خوف من ضيق المكان والوقت، بيد أن اللزوجة تبقى قائمة، وفي ظل اقتراب لزوجة جاسم تستحضر صديقة رغبتها بالهروب إلى شجرة التين التي كانت تتفيأ ظلالها أمام بيت والدها، لتمسح بحليب التين جسدها، وعينيها وأنفها حتى تفقد بصرها، وسمعها، وقدرتهاعلى تنشق رائحة اللزوجة (ص115).
انساقت صديقة في مدينة دبي إلى عالم الدعارة، بوصفه عملا، من منطلق أن لا أحد قدم لها المساعدة حيث تخلى عنها الجميع، ولهذا تتنقل من رجل لآخر، ومن جنسية لأخرى، ولعل هذا المستوى ينطوي على قراءة سميولوجية للجسد والروح الذي يتمثل بوصفه حالة فلسطينية، يمارس الكل البغاء معها، فالكل يتغذى على ألمها، وهنا تشتت الجسد، وتبعثره على حدود الآخر، وهذا يحمل إدانة للآخر، أو للجميع الذي امتلك الفلسطيني جسداً وروحاً، بيد أن مدينة دبي عالم متعدد، فهي ليست مدينة الزيف كما يدّعي الكثيرون، فصديقة تجد فيها شيئا آخر، إنها مكان حيث يتلاشى الألم، فالكل هنا غريب وزائر، يبحث عن أشياء لا يجدها في وطنه، فهذا الخليط من البشر والجنسيات، يعني أن مشكلة الهوية تتراجع، والإحساس بالذل يتناقص، ولكن تكمن المشكلة في الأخلاق، وهنا نقرأ في حوار داخلي، تضطلع به صديقة، حيث تقول: «مدينة دبي ليست كباقي المدن العربية التي نالت منها الهزائم، لأنها تحتضن الكل» هنا الحياة أسهل وليس بها تعقيدات. ….. أعتقد انها كشفت عورات الكثير من المدن حين تجرأت على أن تصنع نفسها واحتضنت القادمين من مدن فشلوا في أن يبقوها جميلة وجديدة (ص123)».
في فصل يحمل عنوان «مثل الإنسانة» تتعرف صديقة على وليد الشاعر الفلسطيني الذي يضيف لها هامشاً جديداً، وهنا تختطّ منهجاً بأن تجعل حياتها على مستويين: المتن والهامش، وهي صورة وانعكاس لحياة الفلسطيني الذي غالباً ما يطغى هامشه على متنه، وهنا تسلك الرواية فيما بعد إيقاعاً بطيئاً كما يتجلى عبر لقاءات وليد وصديقة، حيث التعالي على دمامة الواقع، والأوطان المهشمة، والحياة المتآكلة، هي حالة للخروج من ضيق التهجير، والنفي» …فتركا للجسدين حرية أن يصعدا معا في أغنية واحدة، في نغم واحد لإيقاع يجري في عبث ويتهادى في دوار الشتات! (ص183).
في ظل التّلاحم بين جسدي صديقة ووليد، يدرك وليد قيمة اللغة بوصفها شيئا يُورث على العكس من الأرض، من منطلق أن الجسد هو اللغة، فثمة تجاوز لعبارة الشاعر محمود درويش « الأرض تورث كاللغة « فاللغة كالجسد يعاد، تشكيلها وخلقها في كل مرة بهيئة جديدة، واللغة تعبر بنا إلى الآخر، وهنا نتمسك بمعنى اللقاء مع الآخر عبر اللغة أو الجسد، فالأرض قد فُقدت، والمكان بات عائماً، لا يمكن أن يحمل الجسد، فتتحول اللغة والجسد إلى حالة من التعويض والامتداد للعبور نحو الذوات المشتتة؛ لأنها ليست مكاناً يمكن امتلاكه إلى الأبد: «تمتلكها فقط حين تعرف كيف تلد نفسك». الأرض تحتاج الجسد إلى الخلق وإعادة الخلق، إلى أن تستحقها وتصير لك. الأرض ليست تراباً وحجارة وبيوتاً وسهولاً وبحاراً تشاطئها. الأرض روح، روح الإنسان الذي يسكنها. ما لم نعِ خلقها لا يمكن أن تكون لنا. وهو هذه الليلة شعر بأنه لصديقة وبأنها له، وأن فلسطين تقترب (ص185)».
في غمرة اللقاء بين جسدين، وروحيهما، تقرأ صديقة تقريراً صحافياً يرصد واقع الفلسطينيين في مخيمات لبنان، ولا سيما عن امرأة اسمها «فاطمة» تقضي حاجتها بكيس؛ لأن المرحاض العمومي في المخيم قد هدم- فصديقة كانت ترسل مبالغ مالية غير كبيرة حتى لا يشك أحد بها تصاب بالصدمة- فجأة يتقوض عالمها مع هوامشه مع وليد، لتعود إلى الواقع، فيغزوها الإحساس بالألم والذنب، ولتعود مشتتة بين عالمين: دبي ومخيم أوزو. وفي ختام الرواية نرى مفتاح البيت في فلسطين، الذي احتفظت به فاطمة لسنوات، إذ تقوم بإعطائه لحفيدها حسام الذي ينتقل إلى الدنمارك- ولعل هذا مسلك شائع في الرواية الفلسطينية – وهكذا تنتقل فاطمة في ما بعد إلى شتات آخر، حيث ترحل إلى الدنمارك، وفي ما بعد تلحقها صديقة، وهنالك تحمل غرسة تين لتزرعها في الأرض الغريبة، ولتتحول إلى فاصلة بين متاهتين.