بقلم : المهندس عصمت حداد
سرايا- هذا الصباح.. كنت جالساً في غرفتي، كان الجو ماطراً وكنتُ أشعر بالبرد الفاحش، كان فنجان القهوة برفقتي، ارتشفت بعضاً منه، تناولت سيجارة من علبة الدخان، ويبدو بأنني لازلت متمسكاً بالطابع القديم إلى حَدٍّ ما؛ نفضتُ عن طاولتي جهاز الحاسوب، وألقيت بالموبايل على السرير، وتناولت جهاز الراديو ، هذا الجهاز.. كان عمره أكثر من عشرين عاما، كان الغبار يغطّيه من قلة الاستخدام، مسحتُ عنه غبار السنين العالقة.. وفتحته على إحدى المحطات، كان المذيع يتحدث عن الطقس، وبعدها كانت اللحظات مشحونة بالوطنية التي أرفع رأسي بها دائماً، عمر العبدلات يصدح: " أنا أمي أردنية..همها تربي زلم"، أوقفني هذا المقطع كثيراً، ولست أدري ما الذي جعلني أربطه بمجريات هذه الأيام من أحداث.. جعلني أطوف حول الوطن الغالي.. جيشنا وبواسلنا وأمننا ودفاعنا وبعضُ مؤسساتنا.. يحملون أرواحهم على كفوفهم.. يوصلون الليل بالنهار.. لا تغمضُ لهم جفون ولا عيون.. قلوبهم مؤمنة تنبض بحب الوطن .. وكأَنَّ لسان حال كل بطل منهم يقول: "أنا أمي أردنية.. قالت يا بني خلي راسك فوق عالي بالقمم.. شكشكتني بالكرامة.. طرزتني بالكرم.. حنا ترباية إكفوفك...قوة قلوب وهِمَمْ.. "


نعم يا عمر.. لقد جعلتني- بصوتك وكلماتك في هذا الصباح الماطر- أنحني لكل امرأة وأخت وأم أردنية..هذه الأم الرؤوم التي بين يديها كبرنا.. وفي دفء قلبها احتمينا .. وبين ضلوعها اختبأنا.. ومن عطائها ارتوينا وتعلمنا.. هذه الأردنية التي أنجبت العالِمَ والمفكر والأستاذ والطبيب والمهندس والضابط وكل فرد يخدم الوطن.. هذه الأردنية التي ربت أبنائها على الأمانة والإخلاص، وعلى النبل والصدق والكرامة والشرف، على المحبة والتضحية والإيثار، ليقولوا لها كما غنيتَ: " لو يشوفوا طيب أفعالي وأصالة معدني..راح يقولوا يسلم البطن اللي جاب الأردني"، انتهيت من سماع هذه الكلماتِ.. والنشوةُ تغمرني، لأجد نفسي أغرق بالحزن والألم، لأقف خجولاً أمام كلِّ أم ٍ أردنية؛ نتيجة عقوق بعض أبنائها الذين عقُّوا حليب أمهاتهم، فاليوم.. هي الأم عمان، تغرقُ بوحلِ عقوقهم، هؤلاء الذين ماتت ضمائرهم وعزائمهم، هؤلاء المترهلين والعابثين بابتسامةِ الوطن، هؤلاء الذين تنكروا لِما قدم لهم هذا الوطن وهذه الأم من عطفٍ وعطاء، فبئسَ الأبناء.. وهم يبترون هذه اليد التي ربتَتْ على أكتافهم ومنحتهم جمال المكانْ.. هؤلاء الأبناء- اليومَ- جعلوا عمان تغرق بالدموع بعد أن فقدت فلذاتَ كبدها.. نتيجة إهمال أبنائها المسؤولين والقيام بواجبهم.

إنه الفساد يا بني، الذي أصبح ينخر جسد الوطن كل يوم.. وأصبحنا نكتوي من ناره حَدَّ الشَّبعْ، البارحة "جمرك عمان"، واليوم "أمانة عمان".. فماذا سيكون غداً يا عمان؟؟!!

أين أبناءكِ المخلصين..الذين طرزتِهم بالكرامة، الذين شكشكتِهم بالكرم، أين أصحاب القِممْ والهِممْ؟! هل غرقت رؤوسهم في أنفاق عمان؟! وهل ضمائرهم ذهبت مع سيول عمانْ؟! أطفالٌ بعمرِ الوردِ..بأي ذنبٍ يُقتَلونْ؟!.

إمتلأتْ عينايَ بالدموع معَ آخرِ رشفةٍ من فنجان القهوة، أنفاسي هزيلةٌ تختنق من الحسرة..لم أعد أدرك نفسي، بعثرتُ جميع طقوسي التي كنت بدأتُها في الصباح: أغلقت الراديو، ونهضتُ عن فراشي، أردتُ الخروج من البيت، إلى أين؟؟.. لست أدري، أمي تسألني عن سرِّ هذا البكاء، اعتذرت منها.. فلا جوابَ لديّْ، اعتذرتُ منها وليتني أوصل صوتي إلى تلك الأم التي فقدت أطفالها هذا اليوم، وإلى كل أمٍ أردنية كانت تعتقد بأنها ربَّتْ زُلم.