11-11-2015 11:09 AM
بقلم : رقية القضاة
لمّا حضرت الصدّيق الوفاة، دعا إليه عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلًا إليها، حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدّق الكاذب، إنّي استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطّاب، فاسمعوا وأطيعوا، وإنّي لم آلو الله ورسوله وديني ونفسي وإيّاكم خيرًا، فإن عدل فذلك علمي به وظنّي فيه، وإن بدّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
ولم تخب فراسة الصدّيق فيه، فقد والله استقام على أمر الله واتّقاه في رعيته، وفي نفسه، اختطّ البكاء في وجهه خطّين أسودين، وكيف لا يبكي من حمّل أمانة العباد، فحملها مشفقاً: "لو أنّ دابّة عثرت في العراق لسألني الله عنها لِمَ لم أسوّ لها الطريق"، لم يقتل عمر شعبه بيده، ولم يكنز مال الأمة في مخباته، ولم يصمّ أذنيه عن حاجاتهم وضراعتهم، بل وجد نفسه مسؤولًا حتى عن عثرات الدواب!! مناجاته لنفسه: "ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنت نسيًا منسيًا" ونقش خاتمه " كفى بالموت واعظًا يا عمر".
سئل عمر: "لأي شيء سميت الفاروق؟" فذكر قصة إسلامه، قلت: "يا رسول الله ألسنا على الحق" قال: «بلى» قلت: "ففيم الإخفاء؟" فخرجنا صفّين أنا في أحدهما وحمزة في الآخر، حتّى دخلنا المسجد، فنظرت قريش إليَّ وإلى حمزة فأصابتهم كآبة شديدة لم يصابوا بمثلها، فسمّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم (الفاروق). وفي حادثة الإفك وقد طعن المنافقون في عرض عائشة أم المؤمنين، والرسول صلى الله عليه وسلم كليم الفؤاد يستشير أصحابه في الأمر العظيم الذي ابتلي وزوجه الطاهرة به، يقف عمر قائلاً: "من زوّجكها يا رسول الله؟" قال: «الله»، فقال الفاروق: "أفتظنّ أن ربّك قد دلّس عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم"، فنزلت كذلك، يعني آية البراءة للطاهرة أم المؤمنين عائشة ولقد كان مثلًا لا يتكرر في عفّة اليد عن مال المسلمين فهو يقول: "إنّي أنزلت نفسي من مال الله منزلة والي اليتيم، إن أيسرت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، فإن أيسرت قضيت"، بين كتفيه ثلاث رقاع في ثوبه، تقول له ابنته حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها: "يا أمير المؤمنين لو اكتسيت ثوبًا ألين من ثوبك، وأكلت طعامًا هو أطيب من طعامك، فقد وسّع الله من الرزق، وأكثر من الخير"، فقال: "إنّي سأخاصمك إلى نفسك، أما تذكرين ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى من شدّة العيش، وكذلك أبو بكر؟" فما زال يذكّرها حتّى أبكاها، فقال لها: "أما والله لأشاركنهما في مثل عيشهما الشديد، لعلّي أدرك عيشهما الرّخي".
كان عهد عمر مليء بالفتوحات، والازدهار، فتح الفتوح، وكتب التّاريخ للمسلمين، وجمع القرآن في المصحف، ودوّن الدواوين، فقفز بالدولة الإسلامية قفزة حضارية نوعيّة فامتدت أوردة الحضارة الإسلامية تغذّي الأرض من مشرقها إلى مغربها، ويرقب أعداء الله امتداد دينه القويم، ومناعة حصن الإسلام الحصين وعمر الفاروق، يقف حارسًا أمينًا على مكتسبات الأمة، كما هو حارس أمين على حرمات الله، فتمتد يد الغدر الآثمة المثقلة بأحقاد المجوسية البائدة، فتغمد خنجرها الحاقد في خاصرة الخليفة الطاهر العادل، ويعلم أن قاتله كافر مجوسيّ فيقول: "الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدّعي الإسلام"، ويرسل ولده عبد الله إلى عائشة أم المؤمنين يطلب أن يدفن إلى جانب صاحبيه في حجرتها، فيجدها تبكي عمر، وتستجيب عائشة لطلبه قائلة: "لقد كنت أريده لنفسي ولأؤثرنه به اليوم على نفسي".
فيدفن إلى جوار صاحبيه غير مغيّر ولا مبدّل.