27-01-2008 04:00 PM
يؤلمني ما جرى البارحة ، يؤلمني حد رؤية المطر دموع ، غيومنا تبكي ،وعيوننا ، الشنط المدرسية تبكي ، والمقاعد في انتظار الأبناء العائدين ، الزوجات المنتظرات ، الأشتال في الحديقة ، غرفة التلفزيون ، والقهوة والأحاديث ،وتبكي الوسائد التي لطالما شاركت الراحلين أحلامهم ، وتبكي الأسرار والرسائل المؤجلة وتبكي الطرقات وتبكي الأمهات ،والأنبياء والملائكة ، حتى ، في عليائها ، تبكي المجرات.... نحن اليوم شعب مكلوم بحادثة الأمس ، ويومنا بالأمس كان أسود ، وكذلك باقي العمر، ونحن ثكلى بالذي جرى ، حتى عصافيرنا الشتائية ثكلى ، وأني متألم ، وحزين ، وأشعر أن صوتي اليوم مبحوح جريح، ومزاجي ، جنائزي ، وأستشعر صدري كواد سحيق ، مظلم ومهجور ، يتعلق فيه قلب يدمي ، وباقي رئة ، يستعصي عليها الهواء.... أتخيل ماذا يوجد في صندوق الرسائل على الموبايلات المتناثرة في الوادي السحيق ، أتخيل أن أحدهم كان يكتب لحظتها ، أن ها أننا قد اقتربنا من المدينة يا حبيبتي ، مشتاق اليك أنا، فقد كان شهرا قاسيا في العقبة ، وصعب ، لأنني كنت بعيدا عنك ، الآن ، أزداد ربيعا في اقترابي ، والطريق الى اربد ، الأشجار ، المحال والبيوت ، كلها تصير أجمل اذ أقترب ، حبيبتي...ثم فجأة ، ( كل شيئ يتحطم في لحظة عابرة) ، وتنفصل الروح عن الجسد ، وينفصل الجسد عن الجسد، ويتبخرعن هذي الأرض حلم جميل.... أتخيل يحيى ، طفلا شقيا وديع ، يعشق الكمبيوتر والألعاب ، ويقلد أبيه في كل شيئ حتى حلاقة الذقن في الصباح ، طفلا رائعا ، يلبس من العقبة ، جينزا جديدا وقبعة ،وشعرة الأسود بات يتواءم مع سمرة الشواطئ ، ماما ، وكان يحدثها بالهاتف منتشيا ، لقد أحضرت اليك من العقبة محارة محفور اسمك عليها ، ماما ، لا ، نريد مقلوبة ، ماما..ماما...ولتنقلب الدنيا ، دموع ... دموع غزيرة على طفل راحل وديع...... وها أنا أعود لبيتي ـ أفتش البيت عن الأولاد ، فلا أجد الا وحدتي ، لا أصدق ، أذهب نحو الأسرة ، أرفع الأغطية ، لا بد أنهم هنا ، أبحث تحتها ، تحت المكاتب ، بين الكتب والأقلام ،لا أجدهم ... لا بد أنهم في الحمام ، وأذهب مسرعا ، متلهفا ، أفتح الحمام ، أبحث في الزوايا ، يا الله !، ليسوا هنا ، أماتوا حقا ؟! ماذا يعني ذلك ، لن أراهم ، يا الله ، لا أصدق ، أخرج من البيت ، أذهب نحو مقبرة النعيمة ، يلحظني السكان ولا ألحظهم ، يتبعوني ، وأتبع أنا قلبي ، يا الله ، ثلاث قبور جديده ، ودفنتهم ؟ وأصرخ فوق التراب المبلل بالدموع ،وأسقط عليه ، راجيا القبر أن يبتلعني.... وأعود مع السكان لبيتي ، أنزع ربطة عنقي وملابسي ، أخرج على سطح البيت ، فأنا لا أستطيع رؤية زوجتي ، أني هارب مني ومنها ، هارب نحو الأولاد ، أتمدد تحت المطر بلا قلب ، فقلبي قد ثقب ، وأنادي الموت ، لا بد ان يأتي الموت ، لا بد ان أرحل ، يا لوجعي وغربتي وألمي ، يا لانطفاء الحياة ، أيتها السماء ، لا تعذبيني ، خذيني اليهم ، خذيني..... الموت بحادث سير ربما هو أسوأ الأقدار ، وأسوأ النهايات ، والموت المفاجئ ، هو قنبلة نووية من الحزن والفجيعة ، تدمر كل القلوب ،ويبقى اشعاعها الحزين ، يلوكها بالوجع والكآبة وفقدان القدرة على الحلم والأمل والسعادة ، ولا يتبقى في البيوت من بعدها ، الا صور حزينة وأمهات ثكلى وقصة من بكاء لا تنتهي... منذ قليل كان صديقي لدي ، وهو عراقي يحمل الدكتوراة في الهندسة ،ومهندس سابق في فورد لصناعة السيارات ، ويخبرني ، أنه لديهم في بريطانيا ، قامت سلطات السير ،بتحديد السرعة القصوى لحافلات الركاب العمومية بسبعين كيلومتر بالساعة ، وحافلة الركاب العمومية ، تصنيف يطلق على أي حافلة ليست للأستخدام الشخصي ، سواءا كانت لنقل الركاب أو البضائع ، وهذا التحديد ، يتم بوضع عائق ميكانيكي تحت دعسة البنزين ، بحيث اذا دعس السائق حتى النهاية فلن يصل لسرعة أقصى من السرعة المحددة ،ويتم تركيب هذا العائق بسهولة وهو غير مكلف ، ومن الممكن طلبه قبل ترخيص أي مركبة ، ثم أن ادارة السير قادرة على وضع لاصق أو مربط ( يشبه ذلك الموجود على عدادات التاكسي ) ، حتى يتم التأكد من عدم التلاعب بدعسة البنزين ، ويتم الكشف على هذا اللاصق ، سواءا من الدوريات المنتشرة ، ومن دائرة السير وقت الترخيص ، وأظن هذا اقتراح عملي ، سهل وبسيط ، يكفل الحد الفعلي والعملي من حوادث السير ، وأرجو أن يتم تحديد السرعة القصوى في الأردن بسبعين للحافلات والسيارات العامة والحكومية ، وبتسعين للحافلات الخاصة ، كسرعة قصوى لا يستطيع أي أحد تجاوزها بفعل العائق الميكانيكي المثبت تحت دعسة البنزين. شيئ آخر ، أرجو أن يتم شطب أي حافلة نقل أو تاكسي مضى على استخدامها خمس سنوات ، وليس عشر سنوات كما هو معمول به الآن ، وكذلك شطب أي سيارة خاصة عمرها أكثر من عشر سنوات ، فالسيارات مع طول استخدامها ، تقل فيها وسائل الحماية وتزداد قابليتها لتسبيب الحوادث... نقطة أخرى ، وهي أنه يجب وضع حزام أمان على كل مقعد في الحافلة ، وعدم السماح بتسيير أي حافلة لا توفر لركابها هذا الحزام ولا تجبرهم على لبسه. ومرة أخرى ، ها نحن نفقد أكثر من عشرين قتيلا ، لا بل شهيدا ، نفقد عشرين زهرة وعشرين حلما وعشرين ابتسامة ، ومرة أخرى ، نتقدم في تصنيف الدول الأكثر عرضة لحوادث السير ، وأظننا قد بتنا الدولة الأولى ، فنحن نعاني من حكومات لا تستطيع التفكير بزيادة ايرادات الموازنة الا بفرض المزيد من الضرائب والجمارك ، مخالفة كل ما تقول عن التنمية ، او ربما أنها لا تستطيع الوصول لتفكير قادر على اختلاق مشاريع عملاقة قادرة على تشغيل الناس وجلب المزيد من الايرادات للخزينة ،وفي لبنان ، لا توجد جمارك على السيارات ، وفي الأردن ، فأن معظم الشعب يركب سيارات عمرها بحدود العشرين عاما ، سيارات قديمة وتالفة وبالية تسبب حوادث يومية ، وسيارات يقودها متهورون ، والحكومة لا تقبل بالغاء الجمارك على السيارات ، ولا تفكر بتحديد السرعة بوضع العوائق المحددة تحت دعسة البنزين ، ونحن الشعب ، بالكثير منا ، نركب خلف المقود ، ونشعل الراديو والسيجارة ، ونحضر قهوتنا على التابلوا ، ونتحدث بالهاتف ، كل ذلك ، اذ ننسى تعليمنا ووقارنا وثقافتنا ، وتعود الينا نفسية الطيش والزعرنة والبطولة الوهمية ، ونسوق مثل المجانين ، ليرحل منا الآلاف سنويا ، وثمة لا رادع ، وثمة لا أمل... مرة أخرى أود أن أخبركم أني غاضب بشدة لحادث الأمس ، غاضب وحزين ، وأني ألقي مسوؤلية الموت المجاني هذا علينا جميعا ، من شعب وحكومة ، من شركات وسائقين ، وأني أرجو تدخلا شخصيا من الملك ومن الرئيس فيما يتعلق بمسألة الحوادث هذه ، وأرجو من كل الهيئات والنقابات ، تسيير مظاهرات اجتماعية ، هدفها التوعية والأرشاد ، وذكر قصص الراحلين ، وذكر مأساة ذويهم ، كي لا ننسى ، وكي يتراكم لدينا الوعي المروري ، وأني ليدمي قلبي ما جرى ، وأسألكم وأسأل الله ، أن نمنع حدوث أي كارثة مشابهة.....
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-01-2008 04:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |