22-11-2015 10:11 AM
سرايا - سرايا - في عالم يرى فيه كثيرون القتل والسرقة والبلطجة أساليب مبررة لكسب العيش لا يجد الفقير الجاهل غير القادر على ارتكاب مثل هذه الجرائم سوى الاحتيال والنصب والتسول لكسب لقمة عيشه حتى لو فعل هذا باسم الدين.
ربما تكون هذه الخلاصة التي يظن القارئ إنه انتهي إليها بعد الفروغ من رواية "باب رزق" للباحث والمفكر والروائي المصري عمار علي حسن، لكن العمل الأدبي الصادر في 278 صفحة عن دار نهضة مصر للنشر جدير بقراءة أكثر عمقا في ثنايا الرحلة من البداية للنهاية للوقوف على التفاصيل ومدلولاتها.
تتناول الرواية قصة الشاب رفعت الحاصل على ليسانس الآداب قسم الفلسفة الذي يأتي من الصعيد إلى القاهرة لاستكمال دراسته العليا لكن لضيق ذات اليد يسكن في منطقة "تل العقارب" بحي السيدة زينب حيث الحياة العشوائية والصراع الضاري لكسب العيش بشتى السبل.
يستقر الحال برفعت في حجرة عفنة فوق سطح بيت متهالك يملكه عبد الشكور.. ذلك الرجل الذي انتزعت الحياة صحته وصوته الرخيم واستبدلتهما بالدهاء والمكر.
عبد الشكور لم يعد قادرا على العمل وكسب الرزق لكن ثروته الحقيقية تكمن في أبنائه الأربعة الذين يقول عنهم "علمتهم يجيبوا القرش من الهوا".
الابن الأكبر "أبو عوف" منادي سيارات و"حسونة" محتال و"عزازي" بائع مناديل أما "سميرة" فتبيع الزهور للعاشقين على كورنيش النيل. ويلقي كل منهم نهاية كل يوم حصيلة شقائه في حجر الأب الثعلب.
تدور قصة حب بين سميرة ورفعت الذي جاء من بلده مدفوعا بالشغف لدراسة الفلسفة والبحث عن مستقبل أفضل وأيضا ليثبت لأصدقائه وأبناء بلدته الذين عايروه بعجز الفلسفة عن "فتح بيت" أنها هي أم العلوم وقد تكون الطريق للشهرة والمجد.
وعن لغة الرواية وتوظيفها في خدمة السرد قال المؤلف لرويترز عبر البريد الإلكتروني "أميل إلى الكتابة بالفصحى دوما ولا أستعمل العامية إلا للضرورة القصوى وأحل هذه المعضلة أحيانا باستخدام الفصحى البسيطة أو ما يسميها نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم.. اللغة الثالثة."
وأضاف "الوصول إلى روح السرد الشفاهي والتعبير عن البيئات الاجتماعية الهامشية لا يشترط التسليم باللغة المحكية في تلك البيئات لكن الأهم هو رسم السياق وإدراك جوهر هذه الشخصيات في التعبير والتصرف، خصوصا أن الراوي في "باب رزق" هو بطل الرواية وهو شاب متعلم يعد دراسات عليا في الفلسفة وبالتالي خلفيته التعليمية والثقافية ساعدتني كثيرا على حل معضلة التعبير بألسنة المهمشين".
ومع تطور الأحداث يظهر المقابل الطبيعي لشخصية رفعت المسالمة الحالمة متجسدا في "سعد سلطة" ذلك البلطجي الذي اكتسب اسمه من صلته برجال شرطة فاسدين ويخشاه أبناء "تل العقارب". وتكمن العقدة الحقيقية في تنازع الاثنين على حب سميرة وتحايلهما للفوز بقلبها.
تتشابك الأحداث وتتقاطع السكك لكنها تظل جميعها تدور في فلك "التحايل".. يتحايل أبناء عبد الشكور على فقرهم وجهلهم بكسب عيشهم من فتات الناس رغم رغبتهم في امتهان أعمال مستقيمة ويتحايل رفعت على قلة المال بامتهان التسول بزي شيخ أزهري في المواصلات العامة وامتهان مداهنة المعزين أمام المساجد وسرادقات العزاء.
ويواسي رفعت نفسه قائلا "آه يا غايتي النبيلة كم أدفع في سبيلك كل غال ونفيس أو كنت أحسبه هكذا قبل أن تجرفني المدينة إلى بحرها الذي لا قرار له ولا شاطئ".
ولأن ممارسة الفعل تحوله مع الوقت إلى عادة يتحايل رفعت وسميرة على سعد سلطة ليقنعاه بأن طالب الفلسفة هو أخوها في الرضاعة ولا يجوز زواجهما حتى يكف ذلك البلطجي عن ملاحقته.
وعندما تحين لحظة تمرد رفعت على ما آل إليه حاله ويحاول الخروج من حي تل العقارب تتحايل عليه سميرة بألاعيب أنثوية مدفوعة بدهاء أبيها الثعلب.
وعن تعمق الرواية في التفاصيل المكانية والإنسانية لمنطقة تل العقارب وسكانها قال المؤلف "هذا النوع من الواقعية الفجة ليس جديدا علي. ففي رواياتي الأولى "حكاية شمردل" و"جدران المدى" و"زهر الخريف" عالجت موضوعات من الواقع وما أضيف إليها من خيال لم يكن بهدف صناعة السحر الذي ورد في "شجرة العابد" و"جبل الطير" و"السلفي" إنما كنت أنهل من خبرة واقعية أضفتها إلى شخصيات بعضها كان حقيقيا".
والرواية هي الأحدث ضمن مؤلفات متنوعة للكاتب عمار علي حسن في العلوم السياسية والتصوف والأدب من بينها رواية "سقوط الصمت" والمجموعة القصصية "حكايات الحب الأول" ودراسة "الصوفية والسياسة في مصر" وكتاب "التغيير الآمن: مسارات المقاومة السلمية من التذمر إلى الثورة".
وتتبلور جدلية الرواية في مقطع جاء على لسان أستاذ فلسفة بجامعة القاهرة وهو يتحدث لطلبته ومن بينهم البطل "تحايلوا تعيشوا.. إنه المبدأ الذي يعشش في رؤوس كثيرين من أهلنا لاسيما البسطاء منهم الذين لا نعرف على وجه اليقين كيف يستمرون على قيد الحياة بهذه الدخول الشحيحة؟ من أين ياتون بما يسد جوعهم ويستر عريهم ويدفعونه لأبنائهم في سبيل التعليم والصحة؟
"إنها المعادلة العصية على الفهم المنطقي في هذا البلد العريق الذي اعتاد أهله أن يرتبوا معاشهم رغم قسوة الظروف وتعاقب الطغاة والبغاة والسراق".