05-12-2015 10:08 AM
بقلم : الدكتور سمير ايوب
جاءتْني مُتماسِكةً مُتَجلدةً ، وروحُها تُكابِدُ همّاً ثقيلا . تُجَلِّلُهُ بوقارٍ ثقيلٍ ، يَغشاها ويُعمي دُنياها . وما أن إرتَطَمَتْ عينايَ بِعينيها ، فَيضٌ من الدمع ، حاولَ عبثاً إسعافَها ، في إطفاءِ لَهبٍ بانَ لي مُشتَعلٌ في كِيانِها كلِّه. أشاحت بوجهها صوب الأرضِ مُطْرٍقَة ، لِهُنيهاتٍ خِلْتُها دهراً . قَبل ان تتجه بعينيها إليَّ في إصرارٍ مَوْجوع ، مَبحوحٌ يُتَمتِم :
- العُنوسةُ يا صديقي ، طِفلةٌ عنيدةٌ مُتعبة ، تَلْبَسُني قهراً كل ليلة ، فأمْخُر عُبابَ خيالاتها . لأقيمَ جُسوراً مع المستقبل ، فأجدُني أحفرخنادقَ في الذاكرة . أستطيعُ تمزيقَ كلِّ شئ إلا صقيعها ، فهو مُتقلبٌ مُؤلِمٌ لا يُبدي المودة . لِوقارِها ظُلمات دائمة التغير الحوار مع صمتها شائعاتٌ مُرجِفَةٌ وأحيانا قاتله . ويا ليتَ قتلها رحيماً .
كلما تَسلَّلْتُ بِعيني او بعقلي او بقلبي ، إلى مرايا جسدي ونفسي ، مُتفحصة مُتأملة ، وقد قاربتُ الخمسين ، يوجِعُني عَدُّ السنينَ وهو يَغتالُ شبابي . ويمتص حيويةَ جسدي . فتحتويني نصف قشعريرة تسري متغلغلة الى الحشى ، ونصف قلقٍ خناسٍ ، لا يقف عند حدود قواعد الأشتباك مع العمر ، والأتزان المجتمعي .
أنامُ كل ليلٍ يا سيدي ، والألم ساهرٌ في كل معارجٍ النفس ، ودهاليز الروح ، وثنايا وإنحناءات الجسد . فأنا مع نصف الأنتظار ، لم أعد أرى أن للعنوسة صُبْحٌ قد يَتَنَفَّسْ .
ومع هذا ، فمهما إشتد خلافي مع عُنوستي وتنوعت مناظيره ، ومع شِراكِها الخَدَّاعَةِ المُنْتصبةِ في كل مكان ، فهي أجملُ من الموت صمتاً . وأرحم من شراكةِ الكَيْفَما كان .
رفعت مع كفيها حاجبيها الأنيقين وأكملت مُعاتِبَة : بِربك ما بالك صامتا ؟! ، الا تقل لي كيف انجح في محنة العنوسة ، وما يُريبُني فيها من صمتٍ ووحدة ؟
أعلم أني لا استحق كثيرا من حزني . وكيلا يجف حتى قَطْرُ الندى من رِياضي ، أريد يا صديقي ، مِعطفاً واقياً من رصاصها المباشر. فبعض رصاسها مُرتَدٌّ من حولي . يعجز عن قول أشياء . أشياء أشعر بها تموت على شفاه الناس .
تأملتُ وجهها الطيب في وداعته ، وعينيها في حزنهما ، محاولا ان أقول :
- في حُروبِ كَسرِ الأرادةِ يا سيدتي ، ما أبعد اليأس والتسليم والأستسلام . وما أقرب الأمل وحسن الظن . إحذري أشْراكَ سوء الظن فهي خُلَّبِيَّةٍ . خاصِمي في هذه المُواجهاتِ ، من تشائين وما تشائين ، وليُخاصِمك من يشاء . ولكن ، إياكِ ومُخاصمة‘ نفسك ، مهما ظَلَمَتْكِ .
لتنجحي في محنة الوحدة ، لا تُصغي بأذنيك مُطولاً ، الى شائعاتِ عَدِّ السنين ، في ما مضى عليك من إنتظارٍ مُمِلٍّ ، فهي فخاخ مُمَوَّهَة ٍخادِعَةٍ ، تَنْتصبُ حِيناً كالثعالب ، وأحيانا كالضباع ، حيث وحين لا نتوقع . وإن ساورك الشيبُ خِلْسَةً ، لا تُفَسِّريه ِبالأساطير أو الصفاتِ الزائفة . كوني بَشراً لا يَتجردُ من بَشَريَّتِه ، ولا تُحَملي نفسك على غير ما تُطيق .
إذا أردتِ أن يرزقك الله شريكا ، يُلَون معك عَتْمَ الليل وصَخَبَ النهار ، وما بينهما من معارج ومن مدارج ، ما عليك إلا أن تتخيليه .
حَمْلَقْتُ في عينها ، وقلت مُستنكرا : ما بالك تضحكين ؟! نعم عيشي الدَّوْر . فتحقيق الأشياء يا عزيزتي ، لا يتجسد الا بالأيمان بها .
لِمُلاقاتِه إبدأي بِقلبك لا بِعقلك . تخيلي مُفردات تضاريسه وأناقته وأناقته . وتواصلي مع عقله وروحه وقيمة . وأمعني الأنصات لبوحه . وإعملي على تحقيق حلمك بالعمل الدؤوب بالحوار . فنحن الذين نُسْعِدُ أنفسنا ، ونحن الذين نُشقيها . أما حديث الناس يا سيدتي ، نستكملة في نص قادم ان شاء الله .
فَردَدَتْ مع فيروز ، وإبتسامة حَيِيَّةٌ تَفوحُ عطرا من وجهها :
يا سنيني اللي ما رح تِرْجَعي لي ، إرجعي لي شي مرة . إرجعي لي ورُدِّي لي ضحكاتي إللي راحوا . وإنسيني ع باب الطفولة .