02-01-2016 12:53 PM
بقلم : د. زيد محمد النوايسة
على أبواب العام الجديد والذي تفصلنا عنه ساعات قليلة، نستذكر حال الأمة من الماء إلى الماء ولا نجد إلا مزيداً من الدماء والحروب والقتل والفتن والفقر والجوع وغياب المشروع السياسي والتنموي الجامع والاكتفاء بلعن وشتم كل أصحاب المشاريع الأخرى وكأن مهمتهم هو إعادة إحياء الأمة التي كانت صاحبة دور وتأثير فأصبحت متأثرةً بكل المشاريع التي تحاك؛ فالعرب اليوم لم يغدوا شعوباً فقط يجمعهم رابطاً لم يبقى منه إلا الاسم "شارع الجامعة العربية في قاهرة المعز" بل أصبحوا أمماً وطوائف ومذاهب وقبائل وشيعاً وأحزاباً وأعراقاً الكل فيهم يقتل الأخر والكل يتهم الأخر والكل يبذل ويوظف الثروة التي كانت فيما مضى للأمة ومن اجل إحياء الأمة لإعادة الإنسان العربي ألف سنة للوراء وربما أكثر!!
كان العرب ومنذ استقرار أنظمتهم السياسية بعد الحرب العالمية الثانية يختلفون في الموقف والمشروع السياسي والمرجعية الدولية والانحياز لأي من القطبين العظميين. وكان هذا الاختلاف محكوما بمعادلات دقيقة ومتفق عليها وبما يضمن السيادة الوطنية لكل قطر من أقطار الأمة، وظلت العروبة والانتماء إليها الخيمة الكبيرة التي تذوب كل الخلافات مهما كانت كبيرة ومعقدة. كان دم العربي حراماً على العربي مهما كانت طائفته أو مذهبه أو قطره أو أصوله العرقية، فهناك آخرون ساهموا في حضارة هذه الأمة وإن لم ينتسبوا للعروبة قومياً كالأكراد والأرمن والشركس والامازيغيين، قبل أن يلغيهم ثوار الربيع العربي المظلم !!
اليوم نحن أمام صورة قاتمة بائسة وغير مسبوقة منذ أن قامت هذه الكيانات التي تشكل بمجموعها الأمة وإن كانت أقطارها بأنظمتها الحالية تبتعد شيئاً فشيئاً عن فكرة الوحدة العربية والدولة الواجدة بل أن شعار العمل العربي المشترك ولو بالحد الأدنى أصبح من غاليات الأحلام والأماني، فالدماء تنزف في معظم أقطار الأمة، بدأً من قلب العروبة النابض الذي كان يسمى "سوريا" التي استنزفت دماء شعبها وضاع مستقبل الأجيال فيها وبتمويل عربي سخي وتركت مشلوحة في عراء الخيبة والهوان العربي ليتولى خوارج العصر"الدواعش" ومن شابههم من فروع القاعدة؛ تدمير حضارتها ونهب ثروتها باسم الإسلام والحرية والديمقراطية ودولة الحاكمية التي أحالت سوريا مرتعاً لكل شذاذ الآفاق من أربع رياح الأرض يعيثوا فيها فساداً ودماراً فصارت نموذجاً للحروب الأهلية والطائفية والمذهبية المدمرة والتي لم يشهد التاريخ الحديث شبيهاً لها.
أما العراق الذي ينزف وتنحره المذهبية ذبحا من الوريد إلى الوريد مع مساهمة فاعله من الدواعش وشريك الوطن الكردستاني الذي يتحين الفرصة حتى لا يكون فرق عمله بما فيها التحالف مع السلطان الجديد في اسطنبول رغم العداء التاريخي المستحكم فالفرصة مواتية للاستقلال ولو على حساب العراق العظيم الذي غدا وليمة تتقاسمه إيران وتركيا والأكراد والدواعش.
أما الحديث عن المشهد الليبي الذي تحكمه العصبيات الجهوية والمناطقية فتمكن الناتو بمشروعه الديمقراطي من تمزيق ذلك البلد وتبديد ثروته الهائلة التي وظفت لتدميره أيام حكم الفرد الواحد وهاهي توظف أيضا لإلغائه كدولة مهمة في القرن الإفريقي ولتغدوا مصدراً لتصدير الإرهابيين إلى العالم. ولن ننسى اليمن الذي لم يكفيه الفقر والجهل والمرض والقبائلية المزمنة ليصبح مسرحاً لحرب لا نعرف مآلاتها ولا نتائجها ولا نهايتها. ولبنان الذي يستمر عنواناً للفراغ السياسي بلا رئيس وبحكومة مشلولة وباصطفاف طائفي ومذهبي يتعمق وتستمر داعش برسائلها المفخخة لتوغل في دماء شعبه.
أما مصر التي قررت أن تلج الديمقراطية عبر الصناديق كاستحقاق لثورة الميدان الأولى، فكان الاستئثار والإلغاء هو منطق الإسلاميين للأسف ليدخل الشعب المصري الذي عرف عنه التسامح الديني في صراع دموي من سيناء إلى قاهرة المعز التي ترزح تحت نير الفقر والفوضى والثورة المضادة وسيطرة إعلام فاجر فتنوي وانكفاء لدور مصر القائد في عالمنا العربي لصالح دول الثروة الطارئة التي لا تحمل من مؤهلات القيادة إلا إعلام وتمويل مالي سخي لكل من يخرج عن الشرعية!!
باختصار شديد هذا حال الأمة ونحن على أبواب ولوج عام آخر، المحنة التي نعيشها الآن هي أخطر من محنة سقوط فلسطين وهيمنة الاحتلال الإسرائيلي رغم قسوتها. لقد تهاوت وانتهت كل الشعارات الوحدوية التي سيطرت على الجماهير العربية وتحملت جور الأنظمة وطغيان بعضها وفساد بعضها الأخر في سبيل الشعار الخالد والحلم "الوحدة" و"التحرير" والعدالة الاجتماعية وقضية الحرية للوطن والإنسان ليتسيد المشهد العربي شعارات دينية فتنوية ومذهبية ليست من الدين الحنيف بشيء ليست معنية لا بالأوطان ولا بالحرية ولا بحق الإنسان بالحياة والكرامة فالديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية هي رجس من عمل الشيطان في فكرهم الظلامي الأسود الذي تتسع قاعدة ارتكازه للأسف يوما بعد يوم في صورة تعيدنا إلى حقبة ظلامية عاشتها الأمة وكان من نتائجها إنهاكها وفتح الباب أمام الهيمنة الأجنبية!!
على أن فلسطين وقضيتها ودماء شعبها "وجعنا الكبير"، صارت من مفردات الماضي ودخلت في باب لزوم ما لا يلزم وأصبحت في ذيل قائمة الأخبار التي لا يسعى أحد لمعرفتها طالما أن الأمة ونخبها مشغولة في إعادة اكتشفت طوائفها ومذاهبها فالزمن الآن زمن الأولويات وفلسطين وقضيتها لم تعد أولوية!!
لكننا وبالرغم من هذه اللوحة القاتمة والسوداء لن نفقد الحلم بالمستقبل وسنظل محكومين بالأمل وبأن الغد المشرق لم تقفل أبوابه بعد ولكن إعادة إحياء الأمة ومشروعها يحتاج المزيد من الوعي والإصرار على متابعة النضال من اجل مستقبل أفضل تكون فيه كرامة الإنسان وحقه في الحياة هي المبتدأ والخبر. ومن هنا يتأتى الرهان الكبير على مصر ودورها الكبير والمركزي في قيادة الأمة لأنها وحدها من يملك في هذا الزمن العربي الرديء مقومات الخروج من المأزق الصعب شريطة أن تعود مصر أولاً لشعبها، ويظل الأمل معقود على طبيعة مصر وشعبها الذي عرف عنه التسامح والبعد عن العنف والغلو والتطرف، وشواهد التاريخ تثبت ذلك وعبر كل المحن والصراعات حيث كان لمصر دورها الذي يأتي ليحسم الصراع ولو كان متأخراً!!
أما نحن في هذا الوطن الأردني الصابر والصامد والذي قدر له ومنذ أن كان أن يكون لأمته ولأبنائها رغم أن به "خصاصة" فكان عنواناً للوفاء والعطاء رغم ضيق ذات اليد والحال وشح الموارد؛ فكانت عاصمته موئلاً لكل من جارت عليهم أوطانهم وأزمانهم ولم يغلق بابه لعربي أو طالب إغاثة مهما كان. نسأل الله أن يديم عليه الأمن والخير وأن يحميه من الظلاميين ومكرهم وأن يحفظ شعبه وقيادته إلى كل خير وكل عام وانتم بخير.