09-01-2016 10:35 AM
سرايا - سرايا - *لم تخل حياة الانسان من عنف عبر وجوده منذ بدء التاريخ، فقد تنوعت صور الارهاب والعنف كالارهاب الفكري والعنف الجسدي وصولا الى العنف المجتمعي، إنه التهديد المباشر لوجود الانسان وكينونته، فمعظم الذين يطالبون بالاختلاف على شتى انواعه يتعرضون لإرهاب مركب ومتنوع ،عبر التهديد او التصفية الجسدية أو السجن.
فمنذ ان كانت الضحية تقاد الى المذبح كقربان للآلهة ،كان الانسان ضحية معتقدات سادت في تلك الحقب ،فقد دفعت الضحية سيلا من الدم جراء ذلك.نعيش اليوم في ازمان مركبة اختلطت فيها العصور، فهناك سلوكيات تنتمي لعصور غابرة الى جانب رفاهية التكنولوجيا التي اجتاحت الارض ،كما لو اننا أمام ارجوحة تاريخية تذهب بنا الى الوراء ثم تلقي بنا الى آخر ما توصل اليه العلم، سوريالية الانسان المعاصر الذي يمكث في صندوقه الالكتروني ،ليشتبك مع عوالم صادمة شكلت وعيه الانساني الجديد، فاصبح في حيرة من أمره في المقاربة بين الخطأ والصواب.ففي زمن الاحتلالات المتنوعة، والإرهاب بشتى أنواعه، والقتل، نرانا نتحرك بين خرائب وجثث الأفكار الجديدة التي تدفع بالسلطة إلى إنتاج أدوات متقدمة في القمع، وهذا الأمر له سياقاته التاريخية التي اصبحت الآن جزءاً أساسيا من منظومة السياسة العالمية.
نبذ الحرب والإرهابأخذ التاريخ سياقاته الطبيعية كي يكشف عن مكنونات عالم الإبداع الذي نبذ الحرب والإرهاب بشتى أنواعه رغم وجود بعض الفنانين الذين تحمسوا لها على إعتبار أن الحروب تطهر الأمكنة من النفاق ، والذي حدث العكس تماما، حيث يؤثث المنتصر دولة للنفاق والسلطة المطلقة ،فقد أعلن أندريه بريتون الذي يشكل الرأس المفكر للسوريالية عن نبذه للحروب وإحتقاره للحماس السخيف لها.لم يكن الفن بمنأى عن تلك التحولات، حيث حبرت الروح الانسانية عبر الفن منجزات هائلة تنقد تلك السلوكيات اللإنسانية ، وأذكر هنا ما ذهب اليه فرانشيشكو دي غويا في لوحة (الاعدام رميا بالرصاص ) الذي قدم من خلالها غويا كشفاً مهماً عن أعمال نابليون بونابرت في إحتلاله لأسبانيا ، وقام بقتل من يقف ضده ، حيث شكلت اللوحة مادة فاعلة لإدانة بونابرت على مدى التاريخ، وإلى يومنا هذا واللوحة تعرض الآن في متحف دي برادو بمدريد.الإبداع الإنسانيالفنان غويا كان رافضا للاحتلال الفرنسي لوطنه ومناصرا للمقاومين والثوار مسجلا احساسه العالي في تلك اللوحة والتي لاقت تعاطفا جماهيريا وتفاعلا منقطع النظير ، واعتقد ان احد اسباب هذا التعاطف اضافة الى فكرة نبذ الاحتلال هو قوة غويا في التعبير عن الحالة المأساوية التي تعرض لها المقاومين ، فقد ركز على مصدر الاضاءة من الاسفل ليبين الخوف المرعب في لحظة الاعدام اضافة الى حركة الايدي للمعدومين.فالإرهاب والحروب بشتى انواعها سواء كانت أهلية، أو من قبل عدو خارجي كانت مصدرا مهما للمقاومة عبر الإبداع الإنساني، بل وشاهدا على تلك المآسي التي خلفتها الحروب، فأصبحت تلك الأعمال وثائق بصرية دائمة تتحرك في وجدان الاجيال ،عبر الحوار والمشاهدة والكتابة عن تلك الاعمال الخالدة.
الفنان الاسباني بابلو بيكاسو في لوحة الغيرنيكا سجل انتصارا للفن ضد الإرهاب وضد أفعال فرانكو تحديدا، الذي استوحاها بيكاسو من قصف مدينة غورينيكا من قبل الطائرات الألمانية والإيطالية في العام 1937،وقد عرضت الجدارية لأول مرة في الجناح الأسباني – المعرض الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة الذي اقيم في باريس في العام 1937فأصبحت معلما مهما للتذكير بمآسي الحروب وتجلياتها السوداوية على الإنسان، وأستطاع بيكاسو أن يقدم وجهة نظره عبر هذا العمل العظيم الذي أختار له الدكانة بالأسود والأبيض والأزرق الداكن ، وتجولت اللوحة في معظم متاحف العالم كدعوة للسلام، ونبذ الحرب ومآسيها ،وهي معرضة الآن في متحف مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون.صرخة ضد الحربما فعله الروسي فاسيلي الذي أُتهم بنقده للحرب، بأنه يخدم الأعداء تحديدا في لوحته انا طائر في السماء وهي عبارة عن مجموعة من الجماجم تشكل تلة هائلة من جماجم بشرية مرعبة كنتاج لخرائب الحرب.الجماجم التي يعتيلها مجموعة من الغربان السوداء والجوارح، كانت اللوحة مدوية في صراخها ضد الحرب وضد قتل الانسان، فما كان من روسيا القيصرية أن حظرت جميع رسوماته ومنعتها من النشر حتى بعد أن أصبح مشهوراً، وهذه دلالة على موقف السلطة السياسية من الموقف الناقد لسلوكياتها، فمسألة المنع والحظر على لوحات فاسيلي نوع من الإرهاب الفكري والإنساني.هناك الكثير من الفنانين الذين نبذوا الحرب بوصفها آلة للدمار والتخريب ،ووقفوا ضد ما يمارس على شعوبهم من إرهاب منهم: الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط وسليمان منصور والعناني وغيرهم وكذلك الكويتي سامي محمد والإنجليزي ماكس في لوحته (الانجليزي القتيل) والسوري يوسف عبدلكي واخرين كثر.فشموط قدم جملة من آثار الإحتلال الصهيوني عبر مجموعة من الأعمال الفنية ،بل كرًس جل تجربته في كشف عورة الإرهاب الذي يمارسه الكيان الصهيوني على الفلسطينيين ، تخصيصا في لوحته (إلى أين) وهي تبين رحلة الفلسطيني في مجهول الشتات وتركه لأرضه قسرا جراء ارهاب الإحتلال ، واللوحات التي ركزت على التهجير، والمقاومة ، والشهداء وصولا إلى إظهار الفلكلور الفلسطيني في الألبسة كجزء من المقاومة وضد المحو الذي يتعرض له التراث الفلسطيني من قبل ماكينة الإحتلال، ونرى كذلك الى لوحة سليمان منصور (جمل المحامل) التي أحذت مجالاً كبيراً في الانتشار في ضمائر الناس كونها تعبر عن تمسك الفلسطيني بأرضه، ووطنه حتى اثناء وجوده في الشتات.بينما يذهب السوري يوسف عبدلكي الى نقد إرهاب السلطة السياسية، من خلال مجموعة من الاعمال بالأسود والأبيض ، أعمال تحمل في تفاصيلها تراجيديا جارحة ومؤثرة في طريقة تعبيريتها عن مواضيع التعذيب والسجن وظرف الانسان الحُر في السطات السياسية.حيث يظهر السلام المقتول عبر رمز الحمامة الذبيحة ،وكذلك الشخص المقتول المضرج بدمائه.التراجيديا السوداءفي أغلب أعماله إختار اللونيْن الأسود والأبيض لتعميق حالة التراجيديا السوداء في مواضيعه التي إختارها في الرسم ، ونجد تمركزه في عناصر تكاد تكون محدودة منها القضبان والسكين والكرسي والانسان المقاوم أو المضطهد ،او الطاغية ، فكل تلك المفردات هي مؤونته التي تعبر عن كشف حالة الإرهاب السياسي من الدولة في العالم الثالث خاصة ، وفي العالم عامة.بينما يظهر الفنان الكويتي سامي محمد في مناخات أخرى عبر اظهار صورة الإنسان المقاوم للظلم والاضطهاد ، فمعظم اشخاصه يتحركون ضمن حالة التخلص من القيود ، او الخروج من الجدران الصلدة للحصول على الحرية ، فدائما نجد منحوتاته يتمظهر فيها الإنسان في وضع مأساوي محاولا عبر صراع صعب التخلص من حالة المأساة التي يمكث فيها العربي، الصراع المستمر في البحث عن فضاء إنساني جديد ، فقد حقق في أعماله حالة القلق والتوتر في شخوصه والتي تنعكس على المشاهد مباشرة.شخوصه حالة من الحوار بين ما هو مظلم ومضيء، حالة تمزقية تتحول إلى مقاومة متوالدة للحصول على خيط الضوء.فرغم من إستمرار الارهاب في حياة الإنسان على مر التاريخ إلا أننا أمام منافسة قاسية بين إجراءات الظلم وتبعات، وبين حالة الابداع الرافضة له، والكاشفة عن عوراته، وتعرية تفاصيله للاجيال المتعاقبة.