16-02-2016 10:40 AM
سرايا - سرايا - يسرح في خيال صوفيّ لكنه لا يحلم برؤيا إلا بحدود قصيدة تتركه مغشيا عليه. ويؤنث الأمكنة ويعيد إخصابها لتتوالد نبوءات وبذار قصائد تحلم بمطر من عطر اللغة كي تنبت هناك، وتبلل ريق الكون.
جاء من رحم راكين ليحمل نبوءة قاسيون وسط هذا الظلام السرمدي فأصغى طويلا لسر الحوار بين الرغبة والحلم ويكون «أرني انظر إليك»
خلدون امنيعم الشاعر الذي غرق في صوفية عتيقة ، واصدر مجموعته الأولى «أرني انظر إليك» عن الآن ناشرون وموزعون بعد كتابين في النقد هما: « مرايا ونوافذ» و» دوائر الخفاء».
خلدون امنيعم الذي يقرأ سير القديسين فيحيلها وهجا آخر، صوتا شعريا متفردا لم يقع في فخ المواضعات الشعرية السائدة والمألوفة.
وتاليا الحواره :
ثمة أسئلة على بداهتها تربك، فهل يربكك سؤال من أنت؟
يقيني أن الجاهل لا يرتبك، فكم أنا مرتبك، تربكني سورة الضحى، ولوحة العشاء الأخير لدافنشي، وأوركسترا يوهان شتراوس، وأوراق الغرفة رقم 8، والثلاثي جبران، والدم العربي يربكني، والكثير الكثير يربكني.
يربكني أني محض كائن أعزل إلا من لغتي المحملة بروائح البراري البكر، أنا ابن عين السماء ـ راكين، حيث المدى في عليائها أجنحة، والصلاة على ثراها أغنية، والماء في جرارها عماد الأولياء، ولدت هناك، على سفح غيمة تحلب الجدات ضرعها، لتسقي به الكروم والعرائش في وادي الكرك، حيث إطلالة على ظل الله بين هيبة قلعتها وسمو مقدسها: سفر مقيم بين إسراء التاريخ غوايةً، ومعراج السماء تبتلا... أنا محض كائن مسكون بالضجيج، وضجيج يطمح للسكون، وهل أنا إلا ضوء خافت في صَرَّة نسائها.
رؤيا صوفية عميقة في مجموعتك الشعرية أرني أنظر إليك، فماذا أراكَ، وماذا نظرتَ؟
لست الموسوي النبي السالك دروبه لاصطلاء جمره، فخرّ أمام الجبل المدكوك صعقا؛ لأكون أول التائبين والمؤمنين، ولست الفارضي الصوفي العارف، الذي سأل الرؤيا، فأباحه المولى سر النظر، فتعرّف بها بعد أن كان منكّرا، لست سوى فلك ما بينهما، لا أراني في كل دروبي إلا صحوا مغشيا عليه من فرط سكره.
من أي الأبواب تأتيك القصيدة وتدخلك، وإلى أي الأبواب تأخذك وتفتح لك؟
أي مكان لا يؤنث لا يعول عليه، والأمكنة في مخيالي إناث، المكان الأنثى معبر برق القصيدة ومطلعها، وسر إيقاعها، على مصراعيها تنفتح الأبواب جميعها: الطفولة، والصلوات، والخلوات، وتراتيل والدي ذات فجر بعيد، وحوارية الورد في حديقة البيت، حيث بنات الدار التسعة ـ اللواتي يكبرنني ـ قوام القصيدة، وقلب أمي المتعب إيقاعها، كل هذه الأبواب تأخذني إلى أبواب مغاليق أفتحها، ومفاتيح أغلقها، مجاهيل أعلمها، ومعالم أجهلها، تلك الثنائية الشهقة في رحلتي مع القصيدة رقصة عرفانية، أكتشف بعدها أني في قلب الدائرة، ما وطئت أرضا، ولا حرثت امرأة.
من يستضيف منكما الآخر، من يستدعي من؟
سؤال يحيل إلى سؤال تمثيلي للمعنى، ترى: أيهما يستضيف الآخر آن الولادة، الطفل أم العالم؟ من يستضيف من؟ أرى أن ثمة حالة برزخية يشكلها الرحم، فلا أنت منفصل عنه ولا أنت متصل به، تلتقيان وتفترقان، تتصالحان في عتمة كهفه، وتتخاصمان في الضوء القادم من كوّته، أنت هو وهو أنت، وفاصل واصل شفيف يطل عليكما معا، ولعلك تكون الطفل البرزخ بين رحم معتم وعالم مضيء، وفي حالة الاستضافة للنص الشعري تمثل اللغة البرزخ المضياف لكلينا: جنة شرفتي، وجحيم حجابي، امتداد وارتداد، دلّ وغنج وصدّ ورد، وكأني في الحضور بينهما ـ كذلك ـ برزخ عني، وفيَّ برزخ.
ما سر التماهي الممزوج بالدهشة بين الأنثى والقصيدة في «أرني أنظر إليك»، أيهما الأعمق حضورا في النص الشعري؟
بدءا، أرى الشعر كائنا بريّا شرسا، قلقا، ذا نزعة موغلة في الرعوية وأجراسها المعلقة في دبيب الكائنات، لا ينفك عن مطاردة نايه، ولا يكف الناي عن ترويضه، آدم الشعر ونايه حواء، لقاؤهما ولادة القصيدة، لا تجريد ولا جفاف إنهما ماء اللغة، وحده الشاعر من يبلل ريق الكون آناء الكتابة، أما الأعمق حضورا، فكلاهما يتمثلان ذات الخلق، يلدان بعضهما ويتوالدان في سيرورة، تتنهد خلالها الكتابة، تقف، تقلق، تسكن، ثم تنبثق، يسقط الشاعر قبلها وبعدها ولا تسقط، إنها حالة أبدية تستضيف كائنا مؤقتا يتوهم اختطافها، ويتوهم خلوده، لكنها تطويه كما انطوى في رحمها هوميريوس وأوفيد وطرفة بن العبد، وشكسبير، وبريخت، والمعري، والسياب،... وغيرهم.
مطلقها، ما أمكنة التأسيس والبناء؟
المكان ليس جغرافيا، ولا خريطة، ليس المكان أوعية، إنه أقرب لخفة فراشة أسميها مجازا « راكين»، وشراسة نبوءة أسميها حقيقة» قاسيون»، فسبحان ما بينهما، وما حولهما، وما قبلهما، وما بعدهما، وما تحتهما، وما فوقهما، صفحة ماء أراني فيها ولا أرى إلا ذاتي الجريحة النزّاعة إلى مطلقها، ولا سبيل إلى خلاص:
جدران من هواء، وأغصان، وهضاب، وسفوح، وزعتر بري، وناي الراعي، ومجاز عين الحمار، ثعالب، وعناكب، موانئ ومطارات، لوحات ومعزوفات، وجوه، وأيد، ومدن، ونساء، ونصوص، وصباحات صاعدة، ومساءات هابطة، شكوى أرامل، وقهر اليتامى، وانتهار السائلين، أنثى شموس، وخيل جموح، وشبق الصبايا تسير بأكتافهن الجرار في منحدرات «عين سارة» ، لعلها بعض الأمكنة.
هل المتلقي حاضر أثناء كتابة النص الشعري؟
الكتابة ولادة، والشاعر مخصاب، يحضرني أن كانت النسوة يلدن وحدهن دون الداية أو الطبيب في سالف أوقاتهن، ومن تحظى بداية، فتلك محفوفة بسيل الحظ، ووليدها شامة في خد الداية ـ الأم، لا سبيل إلا قيصرية الحلم إذا كان الوليد في الرحم مختمرا، كحال الممتطين الوهم خيلا، والكتابة وزيفا ابتغاء احتطاب المتلقي؛ لأن الولادة قيصرية.
أكتب نصي ولا يحضرني لا القارئ ولا الناقد آناءها، لكن هنالك حضورا خفيا فوقيا ثالثا، أملي عليه، ويملي عليّ، فننكتب معا في القصيدة، ما زلت أبحث عن هذا الحاضر الخفي والشهي، أكاد ألمسه، وأجسه، وأراه، وأسمعه، ليس وجه أمي في الظلام، ولا صوت أبي في نداء الفجر، ليست الحبيبة المخاتلة، ليس النهر ولا ضفافه، ليس البحر ولا مناراته، أو الصديق وخياناته، ولا القهوة على جدران معبدي السري، إنه أبعد وأبعد... أشبه باختطاف مباغت.
ماذا بعد « أرني أنظر إليك»؟
أيضا، أرني أنظر إليك، سفر دائم دائب في وديان هذا الكون، في إصغاء عميق لسر الجذور، وحوارية آدم وحواء بعد الخروج الأخير، يقول آدم: ليس لي امرأة لأدق باب الليل كلما انهمرت سماء، تقول حواء: ليس لي رجل لتصعقني بروق يديه في ليل النساء، إنها هسيس الرغبة، ونداءات الالتحام بالمطلق، هذا ما يشغلني وما أشغله.