22-02-2016 11:25 AM
بقلم : المهندس هايل العموش
الواسطة في اللغة: "مشتقة من الفعل (و س ط)، والوسط من كل شيء أعدله، ومنه قوله - تعالى -: ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ? [البقرة: 143].
الواسطة في الاصطلاح الشرعي: تُعَرَّف الواسطة بأنها "طلب العون والمساعدة من شخص ذي نفوذٍ وحظوةٍ لدى من بيده القرار لتحقيق مصلحة معينة لشخصٍ لا يستطيع تحقيقها بمفرده".
المحسوبية في اللغة: حسبه؛ أي: عدَّه، وبابه نَصَرَ، وكتب حسابًا وحُسبانًا، والمعدود محسوب، والحسَب: ما يعُدُّهُ الإنسان من مفاخر آبائه.
في الاصطلاح: هي اعتبار القرابة العائلية أو السياسية أو المذهبية في تحقيق مصلحة ما؛ كإسناد الوظائف أو الترقيات أو غيرها، وجعل الحسب أو النسب في المقام الأول.
الفرق بين الواسطة والمحسوبية.
يجد المدقق أن مفهوم الواسطة يختلف عن مفهوم المحسوبية، وإن كان كل من الواسطة والمحسوبية لا يوجد إلا بوجود سلطة أو نفوذ، ويهدف إلى تحقيق نفس الهدف.
أطراف الواسطة: للواسطة ثلاثة أطراف، هي:
أ- طالب التوسُّط أو المتوسَّط له.
ب- المتوسِّط.
جـ- المتوسَّط لديه.
موقف الإسلام من الواسطة:
أوجب الإسلام نفع الناس والسعي في حاجة الآخرين وقضائها، بل جعل نفعهم من أحب الأعمال إلى الله تعالى، فقد سُئل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أحب إلى الله يا رسول الله؟ فقال: ((أحب الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله - عز وجل - سرور تدخله على مسلم؛ تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا...)).
ومن هذا النفع المحمود والمطلوب التوسُّط لدى الناس لقضاء حوائج الآخرين، هذه "الواسطة" أسماها القرآن الكريم (الشفاعة)، وذلك في قوله - تعالى -: ? مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ? [النساء: 85].
فالشفاعة هي الواسطة، وقد قسمها القرآن الكريم إلى قسمين، حسنة وسيئة، أما "الشفاعة الحسنة فهي كل شفاعة لرفع الظلم، أو لإيصال الحق لصاحبه، أو العفو عما رغَّب الإسلام فيه بالعفو، أو الإحسان في كل ما رغَّب الإسلام فيه بالإحسان، أو الإصلاح بين متخاصمين، أو نحو ذلك، وهذا له صور وأشكال كثيرة جدًّا؛ كالشفاعة في الدَّين والزواج وفي حقوق الآخرين، كما أن لها شروطًا، هي:
• أن يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله - عز وجل، وألا تكون الشفاعة والواسطة على حساب الآخرين، وأن تشفع لمن تعلم أحقيته بذلك الأمر، وأن تكون ناصحًا له، وألا تكون الشفاعة فقط لصاحب جاه أو مال أو القريب، بل يجب أن يحظى الفقير والمنقطع والمحتاج بها، وألا يتبع الإنسان شفاعته ومعروفه بالمن والأذى، وألا يغضب الشافع ويُعَنِّف ويَتَّهِم إذا لم تقبل شفاعته.
أما الشفاعة السيئة فهي التي يترتب عليها ضرر أو ظلم أو هضم لحق إنسان - أيًّا كان - وإعطاء هذا الحق لغير مُستحِقه؛ قال - تعالى -: ? وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ? [النساء: 85]، وهي محرمة شرعًا؛ لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ضرر ولا ضرار))، وفي قصة المخزومية التي سرقت خير دليل على تحريمها؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسامة: ((أتشفع في حد من حدود الله؟ وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
وهذه أيضًا لها صور وأشكال متنوعة كثيرة، كالشفاعة في الحدود، أو ما يترتب عليها ضرر للآخرين، أو التي تؤدي إلى جر الأبرياء إلى مقام الحكم، لتولية القريب، مع علمه أن غيره أحق منه.
إن مما يؤسف له أن الكثير من الناس قد عدلوا عن الواسطة أو الشفاعة الحسنة إلى السيئة، فأصبحت كلمة "واسطة" في المجتمع تعني الظلم والجَور، وأَخْذ حقوق الآخرين، وقد انتشرت في مجتمعاتنا حتى أصبحت من المظاهر التي نراها في كل مكان، وثقافة تربى عليها أجيال منا.
وقد انتشرت هذه الواسطة السيئة لعدة أسباب تتمحور حول محورين، هما: ضعف الوازع الديني في المجتمع، وضعف القوانين والأنظمة، ولكل منها مظاهرها وأمور تترتب عليها؛ فضعف الوازع الديني والتقوى يؤدي إلى الجور والظلم، وإلى تقصير الموظفين في عملهم المنوط به، والتفاخر والتكبر على الناس، مما يدفع المواطن إلى اللجوء إلى الواسطات لحل مشاكله.
أما ضعف القوانين والأنظمة، فإنه سهل لبعض الناس اختراقه وتجاوزه؛ لهذا فإنه ينبغي وضع قوانين قوية وصريحة للثواب والعقاب، ومراقبة تطبيق هذه القوانين ومتابعتها بشكل دقيق وحازم دون تفريق بين مواطن ومسؤول، فالعدل هو الأساس، فلا محاباة عند القانون، كذلك تعيين من يُطبقون هذه القوانين ممن شُهد لهم بالدين والخوف من الله ربهم الذي يدفعهم دفعًا نحو النزاهة والصلاح والعدل، فإنه سيغضب لله، لا لنفسه؛ لذا فإنه لن يُعاقِب إلا على ما لا يُرضي الله، وبخوف من الله، كما أنهم لن يقبلوا أن يعصوا الله - تعالى - في واسطة أو شفاعة سيئة محرمة، فإن أمام عينيه مكتوبًا كلام ربه - تبارك وتعالى -: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [الحشر: 18].
كما أنه ينبغي معاقبة كل من يثبت تجاوزه للقانون الإلهي، أو الذي وضعه ثقات من أهل الدين والصلاح والاختصاص، وكذلك العدل وتطبيقه على كل من يُخالف، أيًّا كان، ثم إن مراقبة الموظف لرئيسه أيضًا مسؤولية عليه، حتى لا يبقى أحد يتجاوز القوانين ويخترقها.
ثم إن مراقبة الموظفين والعمال ليس الهدف منها معاقبة العمال أو الموظفين وذلهم والتجسس عليهم، بل تصحيح الأخطاء التي يقعون فيها، كونهم بشرًا، سواء كان الخطأ مقصودًا أو غير مقصود.
ينبغي للمسؤولين في الدولة أن يوظفوا الرجل المناسب الكفء في المكان المناسب، هذه القاعدة التي سار عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه من بعده، حتى نستطيع أن نحصل على الآثار الإيجابية للشفاعة أو الواسطة الحسنة، فإن لها آثارًا إيجابية كبيرة على جميع المستويات، الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
كما أن للواسطة السيئة آثارًا سلبية تؤثر على الفرد والمجتمع وتدفعه نحو الفشل والانحدار والتخلف، فإن من زاغ عن شرع الله، وعن أمر الله فإن عاقبته وخيمة، في الدنيا والآخرة، ومن خان الله - تعالى - وخان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وخان المؤمنين، فإنه بلا شك سيكون في طريقه نحو الدمار والهلاك والفساد؛ لهذا فإن للواسطة والمحسوبة السيئة - وهي معصية لله تعالى، وثبت في الحديث أنها خيانة لله وللرسول وللمؤمنين - آثارًا سلبية عديدة مدمرة للفرد والمجتمع، وعلى جميع الأصعدة، وفي كل الاتجاهات، وهي تتمحور حول محورين، الأول: الخلل في النظام المالي، والثاني: انتشار بعض المعاملات المحرمة؛ كالرشوة والاحتكار.
لهذا كله، يوصَى بـ:
أولاً: على المستوى الديني، بزيادة التوعية الدينية في المجتمع كله، وتعريفهم بعظمة ربهم جل جلاله، حتى يقدروا له قدره، فإذا قدروا له قدره أطاعوه وامتثلوا أمره، فإذا فعلوا ذلك، فإنه - جل جلاله - سيعصمهم من الوقوع في المعاصي التي منها الواسطات والشفاعات السيئة والمحسوبيات والرشاوى، وقد وصف الله - تعالى - من لم يُطيعوا أمره بقوله: ? مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ? [الحج: 74]، وهذه مسؤولية كل الأمة، الدولة والدعاة والأفراد.
ثانيًا: على المستوى القانوني، يوصى بـ:
1- مراجعة القوانين المعمول بها في الدولة من قِبل أهل الاختصاص وتحديد الصالح منها من غير الصالح، وما يوافق الشرع وما يُخالفه، وغربلتها.
2- تعيين أهل الاختصاص والقدرة لأجل تطبيق هذه القوانين، فالقوانين وُجدت لتُطبق، وليس لتبقى حبرًا على ورق.
3- تعيين مراقبين لتطبيق القوانين، من أهل الدين والصلاح؛ فإن التساهل يؤدي إلى التحايل، فإذا وُجد التراخي في تطبيق القوانين فمن الممكن أن يدخل الفساد بين الموظفين أو العمال أو حتى بين المواطنين أنفسهم.
4- توعية الناس بمدى أهمية هذه القوانين، وأهمية وتطبيقها، بكل وسائل الإعلام التوعوية، وأهم هذه الوسائل وأفضلها وأكثرها نجاحًا وأسرعها تأثيرًا على العامة القدوة الحسنة.
ثالثًا: على المستوى الإداري.
وهي توصيات للمديرين والمسؤولين على اختلاف درجاتهم ومستويات إداراتهم، من رئيس الدولة إلى أصغر موظف، ومن هذه التوصيات:
1- كلكم ستقفون أمام الله - تعالى - لِتُسألوا عن رعيتكم، قال الله - تعالى -: ? وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ? [مريم: 95]، ويقول - جل وعلا -: ? وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ? [الصافات: 24]، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لكم: ((إن الله سائل كلَّ راعٍ عما استرعاه، أحفِظ ذلك أم ضيَّع، حتى يسأل الرجلَ عن أهل بيتِه)).
2- أن تتقوا اللهَ في إداراتكم ومسؤولياتكم، فإن الله - تعالى - قد حرَّم على كل إنسان ولِيَ ولاية - وهي أي مسؤولية صغرت أو كبرت - ولم يقم بحقها، وغَش فيها، ولم ينصح لها، ففي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة)).
3- إن الواسطة والمحسوبية والشفاعة السيئة من أشر الأبواب التي تفسد على المسؤول والإداري دينه ودُنياه، فلا تغرنكم الدنيا، ولا يغرنكم أهلوكم ولا عائلاتكم ولا حزبكم ولا أصدقاؤكم، فإنهم لن يغنوا عنكم من الله شيئًا؛ ? يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ? [عبس: 34 - 37].
4- فالرشوة تؤدي إلى الطرد من رحمة الله - تعالى - ولعنته وغضبه، هذا في الآخرة، أما في الدنيا فهي طريق الفساد وانهيار المؤسسة أو الدولة، لذا حذركم منها حبيبكم - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)).
5- احذروا تعيين الموظفين أيًّا كانت وظيفتهم لأنهم أقارب أو لأنهم أصدقاء، فينطبق عليكم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يُروى عنه: ((من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)).
6- اطلبوا النصيحة من أهل الخبرات والاختصاص، ومن العلماء، فهذا دأب الصالحين من الولاة والمسؤولين، فكم في تاريخنا من المواعظ للعلماء أسدوها للمسؤولين بناءً على طلبهم، فكانت لهم نبراسًا يُنير لهم الطريق إلى العدل والحق، كما فلتشاوروا مرؤوسيكم، فلعل عند أحدهم رأيًا مفيدًا يُنقذكم من أزمة.
7- اطلبوا مساعدين من أهل الدين وأهل الصدق، لأنهم لن يخدعوكم بكلمة: (كله تمام يا سيدي)، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من أمير إلا وله بطانتان من أهله، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، فمن وُقِي شرَّها فقد وقي، وهو مِن التي تغلِبُ عليه منهما).
8- العدل بين الموظفين أو المرؤوسين، فالتفريق بينهم له سلبيات كبيرة، وأن تُشعرهم بعدلك دائمًا حتى يقنعوا بعدالتك، فترتفع معنوياتهم، وفي نفس الوقت يمنحونك ثقتهم؛ قال - تعالى -: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [المائدة: 8].
كما يُقترح ما يلي:
1- عزم وحزم في تطبيق القوانين، وخاصة مع المسؤولين الذين يُخالفون القوانين لكونهم قُدوة لغيرهم، وكذا عدم التساهل أو التهاون مع المقصرين في واجباتهم أيًّا كانوا.
2- إجراء تغييرات في القوانين حتى تتلاءم مع هذا الحزم.
3- تشديد الرقابة وخاصة في الأماكن أو الأزمنة التي تؤثر فيها الواسطات أكثر على الدولة أكثر من غيرها، كالمنح الدراسية المحلية والخارجية، واللجان المختصة في تقييم أو امتحان الموظفين في المقابلات الشخصية.
4- إيجاد فرص عمل للعاطلين عن العمل، فهذا يدفعهم إلى عدم اتخاذ واسطات لأجل التوظيف.
5- اعتماد مبدأ العدل في التوزيع، أقصد توزيع أي شيء، الوظائف والخدمات وغيرها دون اي اعتبارات مصلحية او انتخابية او عشائرية او مناطقية.
6- تشجيع العمل في مرافق أخرى غير الوظائف، كالزراعة والأعمال الحرة، وتشجيع المشاريع المنتجة الصغيرة ودعمها.
7- تشجيع الدراسات القليلة النادرة وذلك حتى لا تتكدس أعداد كبيرة من الخريجين في مجال تخصص واحد.
8- إشراك المواطنين أو المجتمع في مكافحة الواسطة السيئة، عن طريق نشر ثقافة القانون وبلورة رأي عام مجتمعي رسمي وشعبي لمحاصرة هذه الظاهرة، وبذل مجهود وطني مشترك من جميع الأطراف المعنية الرسمية والأهلية.
9- إدراج ثقافة احترام القانون وتحريم الواسطات السيئة ضمن المناهج الدراسية ابتداءً من أي فصل يراه التربويون مناسبًا لذلك؛ حتى تتأصل هذه الثقافة عند الأطفال من صغرهم.
10- العمل على دورات تدريبية للموظفين الذين يتعاملون مع الجمهور، فإذا كانت طريقة تعاملهم غير لائقة فإن هذا يدفع المواطن إلى البحث عن واسطات لإنجاز معاملاته.
11- توفير عدد الكوادر المناسب في المؤسسات لإنجاز معاملات الجمهور، فتأخير معاملاتهم بسبب قلة الموظفين وعدم مقدرتهم على تقديم الخدمة في الوقت المناسب يدفع لذلك أيضًا.
12- كل ما سبق لا يتم إلا بمبادرة جادة وصادقة من الجهات المسوولة اي كانت واجباتها بالتعاون مع المؤسسات المجتمعية.