-->

حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,29 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 14667

وحدة الحوار بين الأحياء والأموات

وحدة الحوار بين الأحياء والأموات

وحدة الحوار بين الأحياء والأموات

10-03-2016 09:54 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - سرايا - أفـي الرسائل المتبادلة بين مؤنس الرزّاز وإلياس فركوح، ما يعلن عن مفارقة حزينة وجميلة، وما يخبر عن استذكار واستبصار حميم متميّز، يواجه عبث الزمن القاسي بكتابة متجددة. يأتي حزن المفارقة من رحيل أحد الطرفين.

جاء الموت إلى مؤنس مبكراً وقيّده إلى الصمت. رحل قبل أن يكتب الروايات التي كان يحلم بكتابتها. وتصدر جمالية الرسائل عن فضيلة الوفاء، التي جعلت إلياس فركوح يحمل ضجيج الحياة إلى صديق غادره.

جسّد إلياس بالكتابة المسافة الموجعة بين زمنين وأخبر، على طريقته، عن قوة الكتابة التي تصرخ، وتهمس، وتحاور، وتشاكس، وتستقر فـي موقع محاصَر بالاحتمالات. لكنه، وهو يستنجد بالكتابة، صرّح، حزيناً، بهشاشة الكائن ــ الكاتب، الذي يلتفت إلى الأموات ويعرف أنه سيلتحق بهم، فلكلّ كاتب نهاية.

تصادت فـي ذاكرته، قبل أن يعرف الكتابة، أسماء بعض الراحلين، ودخل إلى الكتابة دون أن تفارقه أطياف الأموات. ولعلَّ إيمانه بالكتابة، هو الذي جعله يستعيد بها صوت صديقه الذي رحل، كما لو كانت استضافة الراحل فـي حقل الكتابة تضعه «داخل الحياة» ولو إلى حين. تبدو الكتابة فعلاً سحرياً ويائساً فـي آن، يردّ إلى الحياة ما خرج منها، ويستدعي قلقاً لا يعالج بالكتابة.

دخل إلياس إلى عالم الرسائل من باب الاستذكار، إذ فـي دروب الصداقة الطويلة إلفة الأسماء والأصدقاء، التي تكسو النهار دفئاً وأسئلة. تقاسم الصديقان الحزن على صديق ثالث اغتاله «قنّاص» على غير توقّع، وتوازَعا دهشة مريرة من مآل إنسان «حُشرت أعضاؤه المقطّعة فـي كيس»، وتبادلا مسرَّات وأفكار قصص «قيد الإنجاز».

التقى الاستذكار بمنافذه المتعددة التي أطلّت فـي عمّان، ذات مرة، على مثقفيْن قومييْن يُنصتان إلى حديث «قائد قومي»، أراد لأمته السلامة فوقع فـي الموت. لكأن مؤنس «ولد بعثياً»، يقول إلياس، ناظراً إلى عفوية إنسانية نبيلة، لم تكن بحاجة إلى «أيديولوجيا كبيرة»، ذلك أنّ فـي الأيديولوجيات المتحزّبة، فـي لحظة انغلاقها، ما ينفي العفوية ويأمر بتماثل البشر، الذي يطالها باستقالة العقل المفكِّر.

يتراءى فـي مداخل الصداقة مكانٌ نظيفٌ أليفٌ فـي عمّان يُدعى «اللويبدة»، عاش فيه «الأب» الذي أعدمه «حزبه»، والابن الذي ولد كما أرادت له أسرته المثقفة، واختلف إليه «الصديق القومي»، الذي استعاد الأطياف جميعاً ووضعها فـي رسائل بين عاميْ 2015-2013. كتابة وأزمنة، أو كتابة فـي أزمنة، هذا ما أراده إلياس فـي كتابة متعددة المرايا، توحي وتشير وتلهث وتشي وتصرّ أن تبقى كتابة، فـي التحديد الأخير.

تحيل شظايا الكتابة على العالم الروحي لمثقفين استغرقتهما الكتابة المفكرة، وعلى زمن ثقافـي ــ سياسي، لم يكن مثالياً، يغاير ما أعقبه، ويفرض على الروح الكاتبة طبقات من التأسي والحنين. أراد مؤنس وإلياس كتابةً مفكِّرة، فـي زمن هجين، يبشّر بالجديد ويتمسّك بالقديم. كتابة ــ معاناة أقرب إلى التفاؤل، أو كتابة متشائمة ترتكن إلى «الأمل»، تخالطها إيمانية العمل وميتافيزيقا الإرادة. يقول مؤنس لصديقه: «الفعل هو الوسيلة الوحيدة التي تقيك الغرق... حاولْ أن ترى متعة الصبر ولا تسأل كثيراً..».

وقد صبر مؤنس على ما يُصبَر عليه ثم رحل، وتابع إلياس المساءلة: نقد الفكر الذي انتسب إليه، ثم نهره، دون أن يكف عن تجديد الأسئلة، مقارناً، بوعي أسيان، بين أحاديث الشباب فـي «اللويبدة» وألوية الجهل المتعالية فـي زمن «تحرير الرسائل».

كان محمود درويش يقول: «كل مثقف من المثال الذي يتطلع إليه»، ثم يكمل القول بتعليقات ساخرة، مميزاً بين الحنطة والزؤان. ولعل المرور على أسماء الكتب والمفكرين الذين كان مؤنس يحتضنهم، وهو ذاهب من مدينة إلى أخرى، ما يضيء المثال الصعب «الهائل» الذي كان يتطلع إليه، وهو فـي أوائل عشريناته. فحين كان فـي «بيرمنغهام» البريطانية، باحثاً عن تكامل روحي لن يصل إليه، يذكر هيرمان هسه وألدوس هكسلي وبروست، مسائلاً العلاقة بين الفلسفة والأدب، ومتوقفاً أمام كير جارد وهيدجر ومارلو بونتي، إلى أن يصل إلى مدينة واشنطن، ليستأنف شغفه المعرفـي، متحدثاً عن نيتشه وبيرغسون وهيوم و»عمل جويس العبقري: يوليسيس»...

فـي الوقوف أمام مكتبة إنسانية «عبقرية»، كان مؤنس يرزح تحت وطأة حلم ثقيل، يشي بروح صابرة حالمة ترهق صاحبها، تراهن على ما لا يمكن الرهان عليه، إذ للمكتبات «تاريخها»، وللمدن فتنتها، وللشوارع مصائدها، وللأحلام غوايتها وجحيمها فـي آن. ولعل تلك الأحلام، فـي سياق عربي رماده أكثر من جمره، وفـي مدار شخصي تتعقبه المأساة، هي التي قادت مؤنس إلى طيران معوّق، كلّما ارتفع ازداد اضطراباً. ولم يكن ذلك الطيران الطموح والمستحيل، إلّا مرآة لوعيٍ رومانسي، يرى فـي الكتب قوة خالقة، ولالتزام قومي تحاصره «أرواح ميتة»، ولحساسية عالية « مغتربة المتكأ».

يشير مؤنس إلى فرحه «بصديقين»، مؤكداً لصديقه إلياس أنّ «الاثنين عدد كبير»، لا يمكن الاستخفاف به. والسؤال هو: إذا كان مؤنس مسكوناً بشهوة إصلاح العالم، حال الرومانسيين جميعاً، فما هي حدود اغترابه الروحي، وهو يحتفي «باثنين» لا ثالث لهما؟ هل هي قوة الأمل، أم «التأقلم» مع خيبات لا تكف عن التوالد؟
لا غرابة أن يرجع الشاب الناحل، القريب من الخجل، إلى رواية كامو «الغريب» أكثر من مرة، وأن يعيش غربة متعددة الأبعاد وهو يراقب، فـي بيروت، «رفاقاً» تخلّوا عنه فـي لمح البصر. ولا غرابة أن يقرأه «نصفُ أصدقائه»، أي إلياس، بمقولة المسيح، وأن يقرأ بها والد مؤنس، بمعنى التخلي وشقاء الطريق. يرتسم فـي المصائر الثلاثة معنى التجربة، التي دفعت بالوالد إلى مآل ظالم لم يكن يتوقعه، وأملت على الابن أن يتعهد أحلامه بمواد متقشفة، واستبقت إلياس بكتابة متجددة تتطيّر من اليقين والمطلقات، التي تحسن الهدم وتستولد السراب.

تبادل الصديقان استضافة الروح، فكتبا وتحاورا، واحتفظ كل منهما بموقع يخصّه، بملاحظات تصوّب النظر، إنْ أوغل فـي الحلم أو عاجله التجريد. غير أنّ تلك الصداقة الطويلة الأمد، فـي زمن يضنّ بالثقة، لم تكن ممكنة من دون «شراكة روحية»، مهجوسة بتساند لا حسبان فيه، وبإخلاص لا يتبدّد فـي الطريق. لذلك تبدو الرسائل، الممتدة فـي زمن يقترب من الأربعين عاماً، رسالة واحدة، ترسم صداقة لا تخبو، وتؤرّخ لواقع بليد الخُطا، يخذل الأحلام ويتقدّم إلى حيث يريد. وإذا كانت الصداقة من وحدة هدف يصوغه نَظَران، فإنّ جماليتها من اختلاف النظرين المتكاملين، اللذين يتقاسمان قيماً مشتركة، واجتهاداً لا يُختزَل إلى صيغة مفردة.

يقول إلياس، محذّراً من هشاشة القراءة و»فتنة الكتب»: «غير أن الكيفية التي نقرأ من خلالها الكتب، بصرف النظر عن أهميتها ومداها، فتلك هي الإشارة الأدقّ التي تتجلّى فـي المكتوب»، ذلك أن فـي القراءة سطوحاً نافلة، وأعماقاً خصيبة تبني وترمّم وتلغي بممحاة عاقلة. شيء قريب من أشكال الابتسام، فتلك التي لا تخفي وراءها إلّا الأسنان، تغاير أخرى صادرة عن قلب صادق.

فـي «رسائلنا ليست مكاتيب» ما يشهد على كتابة ــ وثيقة، تستعيد زمناً مضى، تواجهه بحاضر تقهقر عنه، إلى تخوم الانقطاع تقريباً. لم يكن ما كان مثالياً، لكنه قابل للتحمّل، ولا يفصح عن كارثة. كان مؤنس يتحدّث عن الأمل والنشوة: «رسالتك بعثت فـيّ أملاً ضاعف من نشوتي. 1/3/1977»، قبل أن يتحدّث إلياس، بعد ثمانية وثلاثين عاماً، عن عالم غاضت إنسانيته: «العالم يتصحّر يا أخي كل يوم.

يحتشد بجموع الضباع ويصخب بعواء الذئاب، دولاً، وفرقاً، وأحزاباً، وأدياناً ملفقة...». ذهب ما كان وأعقبه ورثة كاثروا أمراضه، وأطلقوا النار على احتمالات العلاج. عرف الصديقان زمناً عربياً يريد أن ينهض، سافر مؤنس إلى عاصمة العباسيين فـي طورها «البعثيّ» الواعد بتغيير العوالم، والتحق إلياس بمقاومة فلسطينية فـي بيروت ثم نظرا، بنسب مختلفة، إلى انكسار الأحلام: احتلت إسرائيل العاصمة اللبنانية، ودخلت بغداد، بعد الاحتلال الأمريكي، إلى أطوار متصاعدة من الانتهاك والتدمير والسديم والاغتصاب. يتعيّن ما كتباه، بهذا المعنى، سيرةً ذاتيةً ــ جَماعية، فما دارا حوله طويلاً ارتبط بالشأن «القومي»، بعيداً عن ثقافة الاختصاص.

يتذكّر إلياس فركوح، فـي الرسائل التي أشرف على إعدادها، ويستذكر فـي آن: يتذكّر مناخاً ثقافياً ــ سياسياً، تناءى إلى تخوم الغياب، ويستذكر صديقاً تقاسم معه «أحلاماً كتابية هائلة». تحضر الذاكرة وهي تزور ما كان وتداعى، رحل الصديق وتداعت الأحزاب، ويتجلّى الاستذكار فـي أسلوب محوّط بالحنين وبدمع محتجب. إنها التجربة، التي جاءت وذهبت، لم تعطب العقل، لكنها تركت فـي الروح ندوباً كثيرة.

تحدّث الفيلسوف الألماني هانز بولمنبرغ عن «قراءة العالم»، إذ كل شيء، فـي قديمه وحديثه، عملية قراءة، تستنطق وتصوغ ما يشبه الإجابات. حاول إلياس فركوح، الذي يرى الأدب لغة منذ بداياته، أن يترجم ما عاشه إلى كلمات، ترسم وتصوّر وتسرد، مشتقاً الفكر من لغة تصوغه، تنفذ إلى جوهر الأشياء، وتترك الكلمات تنسج المعنى وتشير إليه؛ فلا معنى لبلاغة تخطئ موضوعها. ولهذا بدت رسائله درساً فـي الأسلوب، يلاحق العالم ويصوغه فـي كلمات تجمع بين الصور والمفاهيم، تُستكمل بهوامش «دقيقة»، تنصف الأشخاص وتلامس «روح المرحلة».
فـي الاستذكار الذي يعطف الكتب على المدن والوجوه على الأفكار، استبصار يحاذر الغضب، ويحتضن الأشياء كما كانت وكما ستأتي، طالما أن صور «السادة» الذين جرفتهم البلاغة، من صور الخاضعين الذين ورثوا عاداتهم. ينتهي الكتاب بقصة لمؤنس عنوانها: «البحث عن النشوة المستحيلة»، تلك النشوة التي تقف على الباب طويلاً وتهزها المفارقات القاسية: «فـي عينيك حساسية الغضب وقسوة الصدمة». لا تختلف جملة الاستهلال فـي قصة مؤنس عن استهلال قصة «الحصار» لصديقه إلياس: «مدججاً تأتيني بحزنكَ وما اختزنتَ من طعنات أسلحة الزمن القاتل..». يتراءى ما أتى وما سيأتي فـي متواليات من الكلمات، حدّها الأول «صدمة قاسية»، وحدّها الأخير «طعنات قاتلة». أغلق الكتاب فضاءه المأساوي بما كتبه مؤنس عن عبد الوهاب الكيالي، الذي اغتاله «أنصار الالتزام»: «لماذا يتسع هذا الوطن الكبير لملايين الشهداء ويضيق بأحلامنا الصغيرة؟».

كُتبت «الرسائل» عن وطن يختار شهداؤه الحياة، ويصادرهم الموت. حلمَ المثقفان الأردنيان المتميزان بوطن يطرد الضجيج الكاذب ويستضيف السكينة. استضاف كلٌّ منهما الآخر، ولا يزال، نافرين من «كواتم الصوت»، هاجسيْن «بأحلام صغيرة»، مستحيلة التحقق، لا مكان لها فـي متاحف الكوابيس، ولها بعض المكان فـي أرجاء الكتابة.

احتضن الكتاب، كما أعدّه إلياس فركوح، سيرتين مجزوءتين:
سيرة ذاتية ثقافية لجيل من المثقفين العرب، صالح بين الغضب والأهداف النبيلة، وحصد رماداً يحرق العيون، وسيرة أخلاقية ــ إبداعية لأديبين مختلفين، تحتفي بذات المبدع وتزهد بالشعارات الفارغة، وتعطي الكتابة تعريفاً لا يُلحق بها الإهانة.

نرى فـي هذا الكتاب إلياس فركوح وشقاءه النبيل فـي حقل اللغة، مصرحاً بذاتية تفصل بين الواحد والمتعدد وبين النثر والإنشاء، ولا تلغي المسافة بين النقد والكتابة. كما لو كان يقول: إن أخلاقية المبدع من لغته، وأن فـي لغته المبدعة ما يجسّد جماليات الحياة والصداقة، التي تجلّت فـي راحل جميل يدعى: مؤنس الرزّاز. شكل جديد من سيرة الكتابة الإبداعية، تتجاوز التصنيف، ترى الجنس الأدبي فـي مسار الأديب، وتحتضن أخلاق الكاتب وتاريخه الكتابي فـي آن.








طباعة
  • المشاهدات: 14667

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم