14-03-2016 09:45 AM
سرايا - سرايا - يرى الفنان والناقد غسان مفاضلة ان الحركة الفنية الاردنية حتى تكون جديرة بصفة «الحركة» عليها أن تكون حاضرة وفاعلة في محيطها المحلي على أقل تقدير، وليس محيطها العربي العالمي. ولا يقتصر الحضور والفاعلية على ما تشهده الصالات الفنية من عروض تشكيلية متواصلة على مدار العام، كما هو الحال في عمّان التي قفزت، دفعةً واحدةً، مع أعاصير المنطقة، إلى واجهة الصدارة؛ لكنها في الواقع لم تتخط حال العجز والركود الذي صبغ مشهدها الفني منذ التأسيس
وتاليا حوار مع الناقد مفاضلة
ناقد فني أم فنان، ماذا تطرح نفسك ولماذا ؟
حقيقةً، لم أطرح نفسي بوصفي ناقداً، أو فناناً، ولا أميل إلى التصنيف الذي يسحبني إلى هذا الجانب، أو ذاك، لأسباب عديدة، منها: عدم تيقني مما أفعله، إن كان فناً، أم شيئاً آخر يقترب من الفن أو يشابههُ؟ وبالتالي، لا أجدُ مسوّغاً لأن ألصقَ بنفسي صفةً غير متيقنٍ من حقيقتها، وهي الحقيقة التي لا يتيح لها السؤال حول المصدر الذي يضفي الشرعية على صفة «فنان» إن تكون بمنأى عن اللُبس والتأويل، سواءً أكان المصدر متأتياً من العمل الفني، أم من الآخرين (ومن ضمنهم النقّاد) أم من الفنان، إن قرّر إن يخلع على نفسهِ هذه الصفة، أم من هذه الأطراف مجتمعة، والتي نادراً ما يسلم أحد أطراف هذه العلاقة، أو جميع أطرافها، من العطب الذي يمسّ العمل الفني وبيئته على السواء، مثل: تفشّي «الأميّة» البصرية، وتدني الذائقة الجمالية في المجتمع العربي ومؤسساته الحريصة على تكريس قيم الإستهلاك والتسطيح. إضافة إلى اختلاط القيم الفنية ومعاييرها التي بات يختلط معها «حابل» الجمال والإبداع بـ «نابل» القبح والاجترار. ناهيك، عن حالات «التورم غير الحميد» والزهو والإنتشاء، التي صارت من «عوارض» الاختيال بصفة «فنان».
والأمر نفسه، لا يختلف كثيراً، برأيي، حول صفة «ناقد» التي لا تعني مجرد الاجترار الإنشائي للموضوعات الفنية في الصحف وإصدارات الكتب والندوات والمؤتمرات، وهو اجترار يتغذي على القطيعة مع العلوم والمعارف التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالممارسة النقدية. وفيما نحن لا ننتج المعرفة، بل نستهلكها، علينا مواجهة السؤال التالي: كيف نستطيع أن نؤسس نقداً حقيقياً في ظل تلك القطيعة؟ وما هي الإمكانات والشروط المتاحة لتأسيس فكر نقدي يمارس فاعليته في قرآءة المجتمع والسلطة والدين والثقافة، ومظاهر الحياة كافةً؟.
لهذه الأسباب، إضافة إلى عدم توفّر إمكانية الوقوف العياني على المنجزات الفنية العالمية، ومتابعة التحولات والمستجدات المتسارعة التي تشهدها الفنون البصرية على غير صعيد؛ لا اصنّف نفسي ناقداً بالمعني الإجرائي الذي يُفضي إليه هذا المفهوم، وإنما «قارئاً» يسترشدُ بما يتيحهُ العمل الفني ويتوفر عليه من خصائص تكوينية، وجمالية، وتعبيرية، هي بمثابة (الهوية) البصرية العمل. ومن ثم، محاولة رصد تعيّنات تلك الخصائص، وتغطية آليات عملها، والوقوف على تأويلاتها، عِبر النّص اللغوي، بهدف الاقتراب من (الماهية) التي ينطوي عليها العمل نفسه.
كناقد وفنان، هل ترسم بعين ناقد، وهل تخضع اللوحة لشروط الناقد؟
بعيداً عن التصنيف، وقريباً من جوهر الفعل نفسه (العمل الفني وقراءته) فأنا أنتج أعمالاً توصف بأعمالٍ فنية، أو تمتلك ضمن نسقها التشكيلي، مواصفات الأعمال الفنية. وما أنجزه من أعمال إنشائية ونحتية وتعبيرية، لا يخضع إلى محددات سابقة عليها، لأنها غالباً ما تكون وليدة لحظتها، أو بنت التماعتها، وهذا لا يعني أنها محصّنة أثناء صيرورتها من المعاينة، وعمليات الحذف والإضافة والإختزال.
لماذا لم تنشا حركة نقدية في البلاد العربية عموما ؟
إذا سلمنا بعدم إمكانية عزل مسار الممارسة النقدية، عن مسار الممارسة الفنية نفسها، سيكون من الطبيعي أن ننطلق مع هذا السؤال من العلاقة السببية التي تحكم المسارين. فالمشهد التشكيلي في العالم العربي، يُعاني منذ ارْتِسام ملامحه الأولى قبل نحو تسعة عقود، حالاً من الاضطراب والتخبّط، صبغ جلّ مخرجاته التعبيرية، خاصةً في ظل محاولات التأسيس والتأصيل، والبحث عن خصوصية الهوية الإبداعية، وإحالاتها المرجعية؛ وهو الحال الذي لم يخرج عن كونه «ردّة فعل» عاطفية، عبّرت عن نفسها بوضوح شديد مع مطلع منتصف القرن الماضي، إبّان المدّ القومي، وحركات التحرّر من الإستعمار التقليدي للعالم العربي.
في ضوء ذلك، لم تسْلَم مستويات «الخطاب النقدي» في حقول عملها المتنوعة، من تشنجات «التوتر العاطفي» المقرون بالقلق والإرتباك. تشنجاتٌ ما تزال تسمُ، حتى الآن، محاولات النقد نفسه في معاينة مناطق عمله؛ والخلاصة «نتاجات نقدية» لم تسعفها أدوات عملها من تخطي «إعادة إنتاج» المنظومة الذهنيّة السائدة في الوعي الاجتماعي. كل ذلك، رافقه عجزٌ وقصورٌ واضحين، اضطلع بهما، على وجه الخصوص، نتاج النقد التشكيلي في مشهده العربي، لجهة تطبيقاته الإجرائية. وهو ما مهّد الطريق في العقدين الأخيرين، لشيوع أعمال فنية فرضت شروطها «النقدية» ومعاييرها «الجمالية» عِبر المال والإعلام، مصحوبةً بالترويج لموضوعات معزولةٍ عن حاضنها الثقافي والإجتماعي، ومأخوذةً بالانكباب على صرعات «ما بعد الحداثة» في مجتمع ما يزال ينظر إلى الفنون نفسها، حتى التقليدية منها، بعيون التوجّس والارتياب.
رايك في النقد الصحافي وهل ساهم في تحريك الراكد ام اثر سلبا ؟
في اعتقادي أن المتابعة الصحافية التي تُعنى بالفنون التشكيلية، أو «النقد الصحافي» إن جازت التسمية، يُعدّ حلقة الوصل الرئيسة بين الفن والمتلقي، وذلك لأن الكتابة الفنية عِبر الصحيفة بوصفها وسيلة إعلام جماهيري، تخاطب فئات المجتمع وشرائحه المختلفة. وربما لهذا السبب تكون مهمتها شاقة وعسيرة، إذ يتوجب عليها أن تُراعي التباين في مستويات التلقي لدى القراء، خاصة أنها تتحرك مع موضوعات بصرية بواسطة اللغة التي عليها أن تغطي موضوعها، وتبرز خصوصيته على مستوى الرؤية والتقنية، والتعريف بملامحه الجمالية والتعبيرية؛ وهذا غالباً لا يتوفر عليه «النقد الصحافي» السائد الذي تطغى عليه النمذجة الصحفية، والمواربات الأدبية والإنشائية التي تقول كل شيء، ولا تقول في المحصلة أي شيء. وبالتالي، ظلّ تأثيره محدوداً في إثراء المشهد التشكيلي، وأحياناً ساهم في تعزيز مَواطن اللبس والتشكيك واختلاط المعايير، التي تعتوي المشهد الفني ذاته.
الى ماذا تحتاج الحركة التشكيلية في الأردن ؟
حتى تكون الحركة التشكيلية في الأردن جديرة بصفة «الحركة» عليها أن تكون حاضرة وفاعلة في محيطها المحلي على أقل تقدير، ولا أقول محيطها العربي والعالمي. ولا يقتصر الحضور والفاعلية على ما تشهده الصالات الفنية من عروض تشكيلية متواصلة على مدار العام، كما هو الحال في عمّان التي قفزت، دفعةً واحدةً، مع أعاصير المنطقة، إلى واجهة الصدارة؛ لكنها في الواقع لم تتخط حال العجز والركود الذي صبغ مشهدها الفني منذ التأسيس، حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي. وما يزال الحال الواهن الذي وسم المشهد التشكيلي «العمّاني» يجدّد نفسه على إيقاع الاستهلاك والمصالح والساحات الخلفية.
إلى ماذا تحتاج الحركة التشكيلية المحلية في ظلّ عزلتها عن محيطها وبيئتها؟ وإلى ماذا تحتاج في ظل تفشّي ثقافة التطرّف، وإقصاء الثقافة المفتوحة على آفاق الإبتكار والتجديد، لصالح ثقافة نصيّة مغلقة على الاجترار والتقليد؟.. إنها تحتاج، فيما تحتاج إليه، إلى تضافر خلّاق يعلي من شأن الحياة، وإشاعة قيم الحب والجمال، مقابل التحشيد الأعمى للموت والخراب. وأولاً، وقبل كل شيء، تحتاج إلي فنانين منحازين إلى جوهر الشرط الإنساني في الفن والحياة على السواء.
صالات الفنون كيف تقيم مساهمتها الفنية ؟
على الرغم من زخم المعارض التشكيلية التي شهدتها العديد من المؤسسات والمراكز وصالات العرض في عمّان طوال العقدين الآخيرين، إلا أنها لم تساهم في تحقيق تراكمات فنية يمكن الإشارة إليها بوضوح، بسبب غياب المنظومة الثقافية التي تنطلق في تطلعاتها وطموحاتها، من الواقع الفعلي للمشهد الفني، ومعاينة أزماته وظواهره انطلاقاً من نسيجه العضوي الذي تتواشج خيوطه عِبر حيوية العلاقة بين الفنان وصالة العرض والمتلقي والمقتني، إضافةً إلى المؤسسة الرسمية التي انسحبت من المشهد تماماً.
قبل تسعينيات القرن الماضي، لم يكن في عمّان سوى أربع مساحات للمعارض الفنية، وهي: المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة، والمركز الثقافي الملكي، وجاليري عالية، ومؤسسة عبد الحميد شومان. وبعد حرب الخليج الثانية تزايدت صالات العرض بوتير متسارعة حتى وصلت الآن إلى ما ينوف عن 20 صالة. بيد أن هذا الحراك، لا يعبر بالضرورة عن عافية المشهد التشكيلي المحلي الذي وسم اختلاط المعايير الفنية، جلّ نتاجاته على نحو توليفي الطابع، استهلاكي التوجه والتعبير.
كيف تقيّم أداء كليات الفنون، وهل من سبيل للخروج من الأكاديميا الروتينية؟
المؤشرات الفنية، والمخرجات الثقافية التي يمكن التقاطها من طلبة كليات الفنون وخريجيها، تؤكد أن كليات الفنون لدينا، معزولة عن سياق محيطها الفني والثقافي والاجتماعي. وهذا لا يُرجع إلى الجمود الأكاديمي فقط، وإنما إلى الكيفية التي يتم التعامل بها مع تدريس الفنون. وللخروج من الإطار الروتيني داخل أسوار الجامعة، لا بد من سعي أعضاء هيئة التدريس إلى اكتشاف القدرات الذاتية عند طلبتهم، وتحفيزهم على الابتكار والتجديد، والتعّرف على تجاربهم والتعريف بها خارج أسوار الجامعة، ووصلها بالمعارف والثقافات الفنية المتنوعة، إضافة إلى التجسير بينهم وبين المؤسسات الفنية والمتاحف والمعارض التي من شأنها تعزّز وعيهم بتجاربهم الذاتية، ومنحهم خيارات مفتوحة في الإطلاع على تجارب فنانين من بلدان وأجيال مختلفة. حينها، تبقى الإمكانية متاحة لرفد المشهد الفني بإضافات نوعية، وبروافع أكاديمية وجمالية.
(الرأي)