-->

حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,29 نوفمبر, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 13327

إيقاع الرؤى في (بلاغة الضحى) للشاعر عمر أبو الهيجاء

إيقاع الرؤى في (بلاغة الضحى) للشاعر عمر أبو الهيجاء

إيقاع الرؤى في (بلاغة الضحى) للشاعر عمر أبو الهيجاء

31-03-2016 10:19 AM

تعديل حجم الخط:

سرايا - سرايا - جاءت معاودتي المغامرة النقدية في قصيدة النثر انقياداً وراء الإيقاع الذي ينتظمها، وهو إيقاع منظم، مزيج من الرؤى والواقعية في ألفة حميمة تشي بملاح الحزن المتشح بنبل التضحية والمشبّع بجدليّة الموت والحياة، إيماناً بدور الشاعر في المجتمع وحركته الإيجابية النامية التي تتابع ولادة الحلم لحظة بلحظة، ترنو إلى المستقبل، وتمهد له برؤيا قابلة للانكشاف شعريّاً والتلقي جماليّاً.

وهذه الرؤية لم تكن عفوية بقدر ما جاءت وليدة معاناة وتجربة، توحّد في مركزها الشاعر مع الحياة، لتنبض الكلمات بانبعاثات وجدانية، تتجسّد معها الرؤى في النص الشعري روحاً ثائرة، تتجاوز الحالة السكونية للحلم إلى تعالق بتواترات حياتية لا تنتهي.
عمر أبو الهيجاء في مجموعته «بلاغة الضحى» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012)، يتحصّن بالرؤى، ينتظر الذي يأتي بعد مخاضات الحياة العسيرة، في شعره عفويّة براءته وعذوبة نغمه، يوقد شمعة في الظلام مرتحلاً وراء الرؤى المنبعثة فيضاً من الوجد، وقبساً من الأمل، كما في قصيدته «سماء تقهقه بالرعد» ذات النبض القابض على الوجع، والدافق بالرؤى، حيث يقول:
«أقلب ُ البلاد بين يدي
تاركاً على الصدر الحمامْ،
وطنٌ صاهلٌ في الدم،
أصرخ بملء العتمةِ
مَنْ أضرم النارَ يا بلدي؟
أغنيةً للحزنِ،
وأطلقَ في أقصى المدن
غرابَ الموت،
ونام في جُرحنا،
أسئلةً تفيضُ كرغوة الحلمِ،
على عشب اليدينِ» (ص16).
هذه الرؤى لا تصدر إلا من شاعر مسكون بعشق الإنسانية، يتجاوز إيقاع الثورة إلى إيقاع الرؤى الناهضة بفعل الحياة، تنشطر فيه الذات إلى رؤى، ذلك أن القصيدة كينونة ذاتية وفرادة لغويّة وبوح شجي، ونتاج لتواترات في دخيلة الشاعر نفسه، محققاً رؤية أرسطو في أن الشعر تطهير لآلام المبدع، وتحصين للرؤى من الاندثار.
إنّ العناصر التصويريّة حاضرة في نص عمر أبو الهيجاء الشعري، بل إن إيقاع البلاغة يزاحمه توالي الأفعال وحركيتها الفاعلة بشكل مراوغ وبانعطاف شعوري يتصاعد من بؤرة الانفعال الحاد الذي يختزل مساحة النسيج اللغوي؛ لتتشكل الرؤى بإيقاع فني عذب ينعتق من مأساوية الواقع في فضاءات واسعة من الحرية، حيث يقول:
«دمعٌ على مفترق الحاراتِ،
سماءٌ تقهقهُ بالرعدِ،
أقدامٌ تسيرُ على الرماد،
وأيدٍ تلوِّحُ،
ترسمُ شارات النصرِ،
وأفواهُ البهجةِ تشكِّلُ التاريخَ،
تهتفُ عالياً
.. ارحل،
يا أيها الوطنُ الذبيحُ،
أعرني دمي ثانيةً،
لأعيدَ إليك الندى» (ص19).
فثمة تواشج يربط بلاغة الكلمات بإيقاع الرؤى، لكنهما يفترقان في أن الاستعارة تنتشر في التركيب اللغوي نفسه، بعكس الرؤى التي تنتشر في مجمل النص، وهكذا فإن الشاعر خلاّق يفتق اللغة لتمنحه طاقة تعبيرية وتمنحه فضاءً واسعاً تتحرك فيه رؤاه دون قيد، ممّا يعني أن شعريّة النص تنقاد وراء جمالية اللغة وسحر إيقاع مفرداتها الذي يكشف عنه المتلقي كلما أوغل في ثوابتها وبحث في معطياتها السياقية.
ويفيض شعر أبو الهيجاء بالمعاني الخبيئة التي تتجاوز محدودية الكلمات إلى لغة لا تنتهي وسرد لا يتوقف، وذلك بالاستناد إلى بلاغة تكسر نسق اللغة وتوحّد من خلالها دهشة الرؤى في أنساق مفاجئة للواقع مراوغة للمعنى لكنها متّسقة مع المشاعر الإنسانية التي يرفدها عالم اللاشعور بفيض من الرؤى، كما في قصيدته «الجهات مؤقتاً» التي يقول فيها:
«الظلامُ هو الظلام،
وقطعانُ الحَيْرَةِ تلفُّ الجهات...،
يا لهذا البريق،
كم يضيءُ
بجلالهِ مهبط الأرواح،
مؤثثاً اللا معنى في مخيلة الأحلام،
كلُّ الجهاتِ معاقلٌ للعواءِ،
في يقظة الميتين» (ص26).
يعمد الشاعر في بلاغة الرؤى إلى تمازج الصور وتعدد علاقاتها الدلالية، فيرسم عالمه بصورة الواقع الذي يستبد به الحزن، وتستفيق من كلماته الآلام، إذ يبعث الشاعر في قصائده ما يُثير الشجى، ويعزف على لحن الخذلان الذي أفقد الألفاظ حلميتها وأوقعها في قالي من القتامة وبشاعة فعل الفقد، حيث يقول:
«الجهاتُ مبلَّلةٌ بِعَرَقِ الأجساد.،
ليلٌ يحزُّها،
على مذبح التاريخ.
الجهاتُ مؤقتاً،
أسيرةَ الأقدامِ المغبَّرِة،
يقرصُها البردُ،
تعْوِلُ الريحُ في أثدائها
الجهاتُ لا تملُّ الوقوفَ،
في انتظار
المتعبين» (ص37).
إنّ مرارة الواقع تؤكدها دلالات الصور وإيقاعيّة الألفاظ في توافقها وترافقها المنكسر لتحتضن الرؤى، وتتكشف الفاجعة بومضات خاطفة ضمن معطى لغوي يمعن في إدانة الواقع، ومنح الذات سلطتها في البوح، وممارسة فعل الكشف، وهذا لا يتم إلا بصخب وجداني تمارس فيه الذات سلطتها بعدما فقدت قدرتها على التواصل مع الآخر، حيث يقول:
«كلما دقّقتُ النظر في العتبات
أخذتني قافيتي إلى مبتغاها
وجسدي وحيداً في الطرقات
تحاصرني أقدام ُالغبارِ
لمّا أبحث عنّي فيَّ.
من يدلُّني عليَّ؟
بيوتٌ كثيرةٌ تنام داخلي
وبيتي خارجَ كلّ البيوت
بيتي... القصيدة» (ص43).
إنّ هذه العداوة التي ينتجها الشاعر مع الواقع تمارس فاعليتها في النص برفض الواقع وإعلان الشاعر انسحابه منه، ممّا أوجد عالماً بديلاً لصيرورة الواقع وانبعاثاته الأليمة.
ومن المشاعر الفردية والأحاسيس الجمعية يمتد الأفق الشعري، وتنفلت الألفاظ من مألوفيتها؛ لتوغل في الأسى غيمة مكتنزة بالرؤى، والارتداد إلى إرث خصب ، كما في قوله:
«أيّتها المنافي
الكثيرةُ في لحمي،
رأيتُ فسحةً من وقتٍ غيرِ قليلٍ للريحِ،
لأعبرَ مساءاتٍ أثقلَها حزني.
أنا الولدُ العشبيُّ،
نبَّهني أبي للغة البلاد البعيدةِ،
ومضى عجولاً في الدروب،
وقال: يا ولدي عَجَنَتْكَ الخِيامُ،
ونامتْ على ذراعيك الشموسُ» (ص55).
لعلّ تشكيل الصورة بوساطة الرؤى يُكسب النص قيمة وحيوية؛ تنتسب إلى روح الشعر وأهميته في بعث المشاعر الإنسانية بعيداً عن مألوفية الألفاظ ومنطقية الواقع، إذ ينسج الشاعر نصه بنسق تعبيري يحمل مدلولاً آخر يكمن في الرؤى التي تفرزها التراكيب، وتبعثها تراكمات اللاشعور.
لذلك فإن محاولة القبض على المعنى تخف وطأتها بفعل سلطة السرد وانفلات الذات بشكل يمنح النص قدراً من التفصيل، ويبعث فيه رؤى متمردة لا تقبل الاستكانة، ممّا سمح للصور بالاحتشاد، وللغة بالتشكّل وفق منظومة جديدة توحّد الذات في مدركات حسيّة نازفة، كما في قوله:
«أنا الغريبُ الوحيدُ الذي لم يعرفْ
غيرَ طفولةِ اللاشيء،
الفراغُ بامتدادي ينهضُ كأفعى
تحاورُ الجسدَ في عتمة الحواسِ،
غبارَ الأمكنةِ رائحةَ رؤوسٍ
مشجوجةٍ في الرمالِ،
أنا الغريبُ الوحيدُ
معطلةٌ أيامي
على مخلب ِ الوقتِ،
وجسدي طفولةُ السؤالِ» (ص95).
ويبعث الشاعر رؤاه في حوارية «غرناطة دمي» وفق بنية تشكيلية درامية، وبأداء تعبيري مكثف، تستلهم مشاعر غائصة في توترات الذات، وسعيها للإمساك بالرؤى، بعدما استنزفتها جراحات الواقع، ممّا جعل الشاعر يتكئ على الدفق النفسي لبث رؤاه بإيقاع اللغة الشجي بعيداً عن الوصف، إذ يُقيم حواريته بسكونية المعنى، وثورة اللغة، حيث يقول:
«قلتُ: هرمنا.. هرمنا
على بوابة الليل،
ليس لدينا،
نافذة أخرى،
نطل على مشيب،
... الوقت فينا،
... ونطل علينا،
قالت: هرمنا ولم نزل نركض
خلف شفة الطفولة،
نُغني بنصف قلب جرحنا» (ص118-119).
ويتصاعد النغم الحواري بطيف ذاتي يضاعف من ضمير المتكلم ليبدد وحشة الواقع، ويبدد ليل الأسى في نبرة شجية الإيقاع واضحة قريبة للروح، ممّا يبعث إحساساً إنسانيّاً ساكناً في الأعماق يلحّ في استحضار أنبل القيم الإنسانية في مواجهة الواقع، فكانت أنات الشاعر الحائرة، وصرخاته الغاضبة التي ينشد فيها الخلاص من كلّ ما يُكرّس الهزيمة في حياتنا، حيث يقول في قصيدته «هذا أنا.. كما أنا» في محاولة غوص جمالي لاكتشاف الذات وصولاً إلى الحقيقة:
«أمشي على ماء القصيدةِ،
أغرقُ في الحرفِ،
أسائلُ الحروبَ،
عن أغنية المنفى.
وأقولُ:
ويردُّ الصدى...،
رطبةٌ خرائطُ التاريخِ،
رطبةٌ خطايانا» (ص140).
إنّ المعطى الحواري في مجموعة الشاعر يرتكز على متخيّل سردي، يمهد لبوح ذاتي شفيف، يتجاوز حدود البلاغة ليتشكل وفق دوائر نسقيّة تحمل الرؤى، تكشف عن باطن الشاعر المضمخ بالحزن والأسى لما يجري في الواقع من أحداث مريرة، ممّا سمح لصوت الشاعر بالارتداد ليحمل رؤى التاريخ الذي ينحو من خلاله منحى قصصيّاً يمعن في كشف المأساة، وبيان أبعادها الحياتية.
كثيراً ما يغلب الشاعر في رؤاه الوجد والحب الشفيف الذي يجعله يعزف الإيقاع شعراً، يبعثه في المتلقي نغماً يلامس القادم الجميل، فتتبدّى أصالة الشاعر ورقة مشاعره ذات الإيقاع النابض بالحياة، وبخاصة عندما تكون المحبوبة حاضرة ، كما في قوله:
«ما الذي تبقينه
من عنبر الشفتينِ؟
يا امرأةً
أضاءتْ لي في المنامِ
حكمةَ الخيولْ» (ص178).
يُلاحظ أن صوت القصيدة في اقترابه من عالم المرأة يعمد إلى الإيجاز وتكثيف الرؤى بل وجعلها مركّزة في كلمات معدودة تقطر رقة وجمالاً، ينشد محبوبته بوجد شفيف، ولغة مثقلة بالمشاعر يبعث من خلالها ما لا تستطيع الكلمات وحدها بعثه في المتلقي، كما في قول الشاعر:
«قتلتني موسيقا الشفتينِ
فعزفتُ على خلجانكِ
لغةً ماطرةً» (ص196).
لقد افترش عمر أبو الهيجاء في مجموعته «بلاغة الضحى» إيقاع النص، وتشابك مع رؤاه في شذرات جماليّة من لغة كاشفة للذات واثبة للمتلقي، فيما يشبه استلاب الوجود وصهره في نص شعري ذي أداء تعبيري يستند إلى بلاغة العواطف والمشاعر بواسطة إيحاءات نابعة من ترابط الصور البلاغية مع ذات الشاعر الحالمة.








طباعة
  • المشاهدات: 13327

إقرأ أيضا

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم