04-04-2016 09:57 AM
بقلم : أ. عمار البوايزة
بضــعٌ وعقــدين من السنين مضت منذ ذلك الصبــاح ، يومَ أن حطّت أولى رواحلي على أرضكِ أيتها الأمُّ الجامعة والجامعة الأم ، يومَ أن حملتُ أحــلامي على كتفي ، وتركتُ ورائيَ ابتهالات أمّي ، وهي تداعبُ ما في أحشائها من تواشيح الصبر والكبرياء ، وتنفضُ عن جبينها بقايا شتاءات اليأس وبعضاً من دموع الضَّنــك ؛ يومَها أدركتُ كم هو الصبر ثقيل! وكم هو الحلم كبير!
وقفُ على بواباتهــا الخضراء ، وتحدّى ناظري أســـوارها ليرى أشجــار السرو الشامخة الضّاربة في جــذور الزمن ؛ ولم أكنُ أعلم حينهــا أنهــا تسجِّل فصــولاً من رواية التاريخ الأردني امتدت مشاهدها على مدى سنــين ، وأنَّ تلك التي طبعت في عقولنا قول الحقِّ تعالى شأنه : "سنُقرئُكَ فلا تَنسى" تميــدُ حُسنــاً وفخــراً في وجداننا بأنْ نستذكر بُناتها الأوائــل من عمالقة الثقافة والعلم والنّضــال ، حينما أرادوها منبراً للعلم وحاضنةً للفكــر الحر ومهــداً للحضــارة ..
لا تزالُ تصهــلُ في ساحاتها خيــولُ "المشير حابس المجالي" و "وصفي التَّــل" كما لو تعــدّت "الكرامةَ" و "باب الواد" و "جلعــاد" ..
لا تزالُ أنفاسٌ زكيّــة من عبق العلامة "د. ناصر الدين الأسد" تُعطِّــرُ ميادينها ومدرّجاتها وكُتُبهــا ..
لا يزالُ هدير العالم المعلم والطبيب "د. عبدالسلام المجالي" يلجُّ في فضاءاتها بعزيمــةٍ لا زالت تنبتُ في الحَجَرْ ..
وتوالى بعدهم الكثيرون منذ ذلك العام 1962 من أهل العلم والمعرفة ورجالات الوطن ليكملوا النسيج ويوصلوا البناءَ بالبناء متجــاوزين كل المنعطفات والمزالق والعقبات في سنينٍ عِجـافٍ عايشها الوطــن ، فلم تُغمــد لهم سيوفٌ رغم قهــر الأيام والمحــن ، بل استمرت مع "الكرامة" ، وبقيت تاج يُحلّي جبينَ الوطن ؛ فرحم الله من قضى منهم ومن ينتظر ..
لم أكنْ أعلم في تلك الأيــام حينما كنتُ أرشفُ قهوتي تحت ظلال أشجــارها الوارفــة تائهــاً بين غربــة المقعــد وفلكلوريــة المشهــد أنْ سيأتي يومٌ عليها تحتضنَ فيه منازلهــا اسمَ الشهيد "معاذ الكساسبة" رحمه الله ، حُرقــةً وشمــوخاً وحكــاية عــزٍّ وصمــودْ ، ليصبحَ عليها ويمسيَ كلما من التفت إليه من أبنائها في غيابه ، فيدرك معنى "أن تستشهد لأجل وطن" ، وكأنهم يلقــون عليه وعــدَ درويش :
نعيش معك .. نسير معك .. نجوع معك ..
و حين تموت ..
نحاول ألا نموت معك ..
ففوق ضريحك ينبت قمحٌ جديد ..
و ينزل ماءٌ جديد
و أنت ترانا .. نسير .. نسير .. نسير ..
واليومُ ، وبعدَ أكثر من خمسين عامٍ على تأسيسها ، يأخــذني الزّمـن إليها من جديد حينما يمَّمتُ أرضها زائراً ، تُرافقتي أســرابٌ من الشوق والحنــين ، حينئذٍ لفَّ قلبي وعيني طيفٌ يناجيها وروحٌ من مغانيها ، فعــاد الى خاطري الجواهري حينّ حلَّ بيافا :
وقفت مُــوزّع النَّظـــرات فيها .. لطرفي في مغانيها انسيابُ
أخلو ونفسي إلى قهقهــاتِ الشــوارع وابتسامات النوافــذ والمنافذ بين أزقَّتها ، وتمتمــاتِ العشَّــاق الحــائرة بين الأوراق ، ونداءاتِ الحـرية ونوافــير الصيحات تَهُبُّ مناديةً "وطني .. وطني" أمام "برج الساعة" .. تلك الساعة اليَقِظة التي تنــام أبــداً في صــدر من عشقَ "الأردنية" ؛ أخلو ونفسي إلى ذلك الضجيج المتسرب من بين أروقة "دائرة القبول والتسجيل" ، ونحن ورفاقنا في زحــام وقلقٍ وبراءة ابتســام ، أحلو إلى بعضِ حصى الطريق المتناثر كأنه الورد أرقبُ بهيــام ماجــدةَ نابلس لتسكبَ قطــرات "النسكافية" من شفتيها شهــدٌ على طاولة "الكافتيريا" ، إذ كُـنّـا وكانت تُداري خجلها بدفترها وهي تُدندنُ : "نعمه النسيان" ..
أخلو ونفسي إلى ليالي الحكايات المدفونة في الضمــير كأنها انبلاجــات الصباح ، ليالي غربة الطريق والمأوى ، وظمــأ أبوابٍ يدقُّها العطش والرضا ، ليــالٍ استراحت في الذاكــرة ، فاستعذبها أنــين المعابر والمنازل بين "الجبيهة" و "صويلح" و "الكمالية" في سهــرٍ مستغرق مع شيخ الرفاق والحكاية التي لا تنتهي "عطالله البنوي" على روحه السلام ، ونجله صديق العمر "كمال" ، وهو يمازحُ شقــاءَ البؤس ضاحكاً :
لَســري لهم بالليــل .. هيّــه على هيّـــه
و إنْ تعبت الرجلــين .. لَمشي على ايديه
والكثيرون ممن استأنَسَت بهم حياتي ، وبقـوا جزءاً لا يتجــزأ من كياني ..
وأنا في خلوتي هذه ما بين خَفــقٍ وخفقان ، يغمرني الزمن بسحائبه السَّخيَّــة لأمر على كرام القوم من أساتذتي "عدنان عوض" و "حسن العزة" و "شاكر نزال" و "هارون الربضي" و "غازي حمزة" و "وليد سيف" وغيرهم من الصَّحب لألقي عليهم سلامَ المشتاق الغائب ، وأصلي على روح من قضوا منهم وصحبهم صلاة الغائب ؛ أولئك الذين تعلمتُ منهم "كيف أُعانقُ جبهة المجد" ؛ وكأنَّني تُهتُ في غَـرام جبهة المجد "الأردنية" لأفقـــدَ طريقي في العودة إلى مرابع الجنوب الملتفَّــة على خاصرتي في بردها ووردها ، وخبزها وصبرها ، لأجــدني أستأذنَ الجواهري مرةً أخرى في نومتــه ولُحــوده وأنشـدَ لها :
وأنــتِ لَـــمْ تَبْرَحي في النَّفْسِ عالِقَــةٌ .. دَمــي ولَحْمي والأنْفَاسَ والرَّمَقَـــــا
تَمــوّجيــنَ ظِـــلالَ الذِّكريَــــاتِ هَـــوىً .. وتُسعِديــنَ الأسْى والهَمَّ والقَلقَـــــا
ذلك زمــانٌ لا يشبههُ الزمــانُ ، الزمــانُ الذي طلعت عليه الشمس نقيّـة ، وطلعت فيه شمسُنا توّاقــة متبخترة ، تَزُفَّهــا "الأردنية" عباءات فرحٍ مثلما كانت هي الساطعة الأولى على جبين الوطن ، فمدّت بسحرها عروقه دمــاً طاهراً زكيّاً يروي كل ميادينه ، ويُغــذي مؤسساته بالعقــول والهمم الوثَّابة العالية التي أثرته في كل المجالات ، فصارت شاماتٍ يُفاخر بها القاصي والداني ؛ هذه الدوحة الغناء التي امتدت وتغلغلت في كل أصقاع الأرض رسالةً وتميزاً وريادة على مدى سِِنــيّ عُمرها ، حتى غدت قبلةً يؤمُّها الدارسون والباحثون وأعلام الفكر والأدب ، فنعمَ هي ، ونِعمَ بها ..
هذه هي "الأردنية" كما نقشت على جــذور سروها أنامل الرفاق "نحبُّكِ لأنك أنتِ" ، فإن القلبَ والوجدان يبقى فيها أسيراً ، لا يسلو بغيرها ، نقول لها :
سنأتيك كلما شاقت قلوبٌ ، وشفَّ القلب إليكِ الحنــين ..
ammar2015.abba@hotmail.com