01-02-2008 04:00 PM
...كالعادة ..استقر المقام بأبناء العروبة الأموات على احدى مقاهي البرزخ السرمدي ...وكان ذلك بعد عصر احد الأيام المتشابهة ...ايام ..لا اسماء لها كما نعرفها في حياتنا الدنيوية ..ولا تواريخ لها ...فهنا ...يعتقدون ان لا شيء يستحق ان يجهد المرء نفسه بأطلاق اسماء وتواريخ على الأيام ..كما كان حال الناس في الحياة الدنيا ...تنحنح الكبير ليلفت اليه الأنظار ...وليهدأ ويسكت من كان مشغولا بالحديث ..وفعلا ..هكذا كان ..اذ صمت الجميع بانتظار ان يطلب الكبير من احد ما الحديث عن طريقة موته ...جال الكبير بعينيه الخبيرتين يمينا ويسارا ...يتفرس الوجوه ..ويحاول ان يستبق المتحدثين بأن يسبر اغوار الحاضرين جميعا ..اذ كان هذا الكبير يعتقد انه قادر دائما ان يتنبأ بطريقة موت اي كان من ملامح الوجه او نظرة العين ...كان عدد الجالسين اليوم كبيرا ..وفي احدى الزوايا ...جلس مجموعة من الشباب تحيط بهم هالة من نور ...وترفرف فوق رؤوسهم طيور بيضاء اللون ..صغيرة الحجم ...جمالهم ليس له مثيل ..يكاد نور وجوههم يطغى على كل ما سواه ...بمجرد ان يلمحهم اي انسان ...يشعر فورا بنوع فريد من الأرتياح لهم ..ويتمنى لو امضى ما تبقى له من عمر بالقرب منهم ...طلب منهم الكبير ان يقتربوا منه ..فاقتربوا ...كانوا اربعة او خمسة ..وربما اكثر من ذلك ..وما ان دنوا من الكبير حتى لاحظ انهم كلهم متشابهون ..حتى في الخلقة والملامح ..وكأنهم مجموعة من التوائم ...صحيح ان لهجاتهم كانت مختلفة ..مما يدل على انهم من اقطار عربية مختلفة ...الا انهم كانوا جميعا متشابهين ...رحب بهم الشيخ ..فقد كانوا يحضرون المجلس للمرة الأولى ...واخبرهم ان من تقاليد المجلس الراسخة (طبعا اصبحت راسخة ) ان يقص كل واحد من الجالسين قصة موته ...ولسبب لا يدريه الكبير ..حاولوا ان يتملصوا من الحديث ..ولكنه وبأسلوبه الخاص تمكن من اقناعهم ..بضرورة ذلك ...وبطريقة حاسمة ..طلب من احدهم الحديث ...اعتدل صاحبنا في جلسته وازاح من امامه كوب الشاي ...متسائلا ان كان بالأمكان ان يطلب كوبا من الزعتر البلدي ..مما تعود ان يشربه في بلاده ...فلسطين ...هنيهات ..وكان كوب الزعتر امامه ...رشف رشفة منه ..ثم بدأ الحديث فقال :....اعتذر لكم مقدما ...فأنا لا احسن الحديث وتنميق الكلام ...فأنا مت شهيدا ..والشهداء لا يتكلمون كثيرا ...الشهداء يفعلون فقط ..الشهداء يتركون الكلام لغيرهم ...نحن الشهداء نحسن الكلام فقط مع البندقية والرصاص ...بل اننا ايضا نحسن الغناء لهما ...قاطعه الشيخ الكبير ..(وهو نادرا ما يقاطع احد المتحدثين ) ..اهلا وسهلا ..عرفنا انك شهيد ونعلم ايضا ان الشهيد حبيب الله ..ولكن لم تقل لنا اين ومتى وكيف استشهدت .. .رشف الشهيد رشفة اخرى من كوب الزعتر ...وقال : ..توقعت ايها الشيخ ان تسألني : كم مرة استشهدت ....وتابع بينما كان الكبير والمستمعون جميعا يفغرون افواههم :...نحن الفلسطينيين نختلف عن كل شعوب العالم ..نعيش حياتنا على موعد دائم مع الشهادة ..نخوض المعارك ...وقد نستشهد ...تصعد ارواحنا الى السماء لتبعث من جديد في جسد فلسطيني آخر ..حتى يستشهد ...وهكذا .. فأرواحنا لا تفارق ارضنا ..بل تنتقل من شهيد الى شهيد الى شهيد ...تعيد السماء روح الفلسطيني لتزرع مرة اخرى في جنين ما زال في رحم امه ..فيكبر هذا الجنين ويصبح شابا جديرا بالشهادة وجديرة به الشهادة ..فيخوض ما قدرت له الاقدار ان يخوض من معارك مع اعداء كثيرين ومختلفين...حتى يستشهد هو الآخر وتعاد الكرة مرة اخرى ...وهكذا دواليك ...قاطعه الكبير مرة اخرى ..وهو الذي نادرا ما يقاطع احدا :..انك تدهشني يا بني ...سألتك الحديث عن نفسك ..فأتيتني بما لم اسمع بمثله من قبل ...قل لي بربك ..متى استشهدت اول مرة ؟ وكيف كانت سيرورة روحك بعد ذلك ؟ مئات المرات استشهدت يا شيخ ...قال الفلسطيني ...منذ فجر التاريخ وانا اموت واحيا ...استشهدت للمرة الاولى ككنعاني عندما تصديت للغزاة من كل صوب ومن كل الملل والنحل والأمم ...واستشهدت صلبا مع المسيح الفلسطيني عندما صلبه الأفاقون ...واستشهدت مع الجيوش الأسلامية التي فتحت فلسطين وبيت المقدس ...وخلال الحروب الصليبية استشهدت اكثر من مرة ...وفي مواجهات متعددة مع المغول والتتار استشهدت كذلك اكثر من مرة ...واستشهدت كثيرا في معارك متعددة خضتها مع من حكمونا باسم الأسلام خمسة قرون ..واعني بهم العثمانيين ...اما في العصر الحديث ...فقد استشهدت مرات ومرات في عهد الانتداب الانكليزي البغيض وفي التصدي للعصابات الصهيونية ابتداءا من ثورة 1929 و ثورة الشيخ القسام عام 1936 وفي حرب 1948 ..و 1967 ...استشهدت في لبنان الف مرة ..وفي الضفة الغربية الف مرة وفي قطاع غزة الف مرة ...وصمت الشاب ...صمت فجأة وكأنه تذكر شيئا مهما كان غائبا عنه ..نظر اليه الشيخ فرأى دمعة تنسكب من عينيه الجميلتين ...سأله الكبير :..مالك يا ولدي ؟ لماذا لا تكمل حديثك ؟ اجاب الشاب بصوت انهكه التعب ..والله يا والدي ما استشهدت مرة الا وكنت فخورا بما قدمته ثمنا للشهادة ...الا في المرة الأخيرة ...اذ لا ادري هل انا مت ام استشهدت ام قتلت ام ماذا ...كنت في غزة يوم تقاتل الاخوة هناك ...كنت عائدا لتوي مع مجموعة من الشباب من احدى اشتباكاتنا اليومية مع العدو الاسرائيلي ..اسلحتنا معنا ...فخورين بما فعلناه من افاعيل بالعدو ...وفجأة ..انهمر علينا الرصاص من الجانبين المتقاتلين ...كنا ثلاثة مناضلين ...قتلنا جميعا ...هاهم زملائي ورفاقي يجلسون الى جانبي ...ولم يكتفي الجانبان بقتلنا ...بل انهما سرقا تاريخنا عندما اعلنا في بيانين منفصلين اننا منهما معا ...قل يا شيخ ...كيف نكون مع هذا وذاك في نفس الوقت ...وكيف نستطيع بعد ان متنا ان نشرح للناس اننا كنا فقط مع فلسطين ؟ ومع ذلك ليس هذا هو المهم ايها الكبير ...المهم ان ارواحنا التي تعودت ان تنزل الى الارض بعد كل مرة تصعد بها الى السماء ...ارواحنا هذه التي ما خذلناها يوما وما خذلتنا ...تأبى ان تنزل الى الارض هذه المرة ...ارواحنا تحتج على ما يجري ايا الشيخ ...ارواحنا ...ارواح شهداء ..ترفض ان تكون ارواح قتلى دون ثمن ...بل ترفض ان تكزن ثمنا بخسا لفرق الحساب بين هذا وذاك من الاطراف المتناحرة على سلطة موهومة ...ارواحنا يا سيدي الشيخ نعرفها جيدا ...ونعرف انها ستهبط يوما الى الارض لتحل في اجساد اخرى تبحث عن الشهادة في زمن حرمونا هؤلاء حتى من مجرد التفكير قيها ...وجم الشيخ الكبير ووجم الحاضرون الذين ذكروا فيما بعد انهم رأوا الكبير يتمتم بكلام غير مسموع ...وفجأة ..وكما هي عادته عندما يريد فض المجلس ...نظر الشيخ الى ساعته وتحجج ببعض المشاغل التي عليه الانتهاء منها واستأذن بالأنصراف على ان يلتقي جمع العرب الأموات عصر يوم آخر
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
01-02-2008 04:00 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |