23-04-2016 10:43 AM
بقلم : الدكتور المحامي إبراهيم النوافلة
لقد استيقظنا في سالف الأيام القليلة الماضية، على وجع جديد، ألا وهو الشروع في دسترة ازدواجية الجنسية. وكأننا بولاة أمرنا (بعض من وزرائنا وأعياننا ونوابنا) قد أدمنوا علاج جروحنا بالملح. ولا أعرف مرمى حكمائنا من هذه الخطوة التي أراها بالغة الخطورة ، وتراجعا حقيقيا في خيارات الديمقراطية. وأسفا أقول : إنها فكرة سوداء في حقبة رمادية في جوار يكتنفه حزن دفين.
ولعلنا نلمس معاناة الذات الأردنية ، بل ونعيشها بتفاصيلها التي كادت أن تفتك بالكبد والرئة والقلب. لذا خرج قلمي من غمده وعاندتني محبرتي على مسافة واضحة من إرهاق النفس واختناق الروح ووعثاء الرحلة في ضبابية الدرب، التي لا تقود إلا إلى ناصية رابضة على فوهة الطين ، ونحن كأردنيين كنوارس حزينة ضائعة في لجة الملح ورمضاء القتامة.
وبعد ، فالذي أراه أن إزدواج الجنسية يتعارض مع مفهوم الجنسية ذاتها، والتي قوامها ولاء وانتماء الفرد لدولته. الأمر الذي معه لا يمكن تصور ولاءا حقيقا للفرد لأكثر من دولة واحدة. فالولاء واحد لا يمكن تصوّر تعدده . وفي ازدواجية الجنسية تشتت في الولاء لمزدوج الجنسية. وبالنتيجة لا يمكن أن يكون متعد الجنسية مؤتمن الجانب من قبل الدولتين اللتين يحمل جنسيتهما في آن معا.
وفي فكرة دسترة إزدواجية الجنسية خروج على الدستور ذاته، والذي ينص في المادة (6/1) منه على أن: (الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين). وفيه خروج على المواثيق الدولية ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي ينص في المادة (15/1)على أنه : ( لكل فرد حق التمتّع بجنسية ما)، وقد جاء نص الإعلان العالمي على حق الفرد بالتمتع بجنسية واحدة وإلا لقال الشارع الدولي بحق الفرد في التمتع بجنسيات متعددة . كما أن في ازدواجية الجنسية خروج على اتفاقية لاهاي بشأن تنازع القوانين في الجنسية والتي توجب على الدول تلافي ظاهرتي تعدد الجنسية وانعدامها.
ومن حيث النتائج ، فهناك جملة من النتائج السلبية التي تخلّفها فكرة ازدواجية الجنسية. منها ما هو متعلق بحامل جنسية الدولتين، وأهمها مسألة تنازع القوانين في جوانب متعددة منها الزواج والطلاق والميراث والتكليف بأداء الضرائب والخدمة العسكرية والمسؤولية عند ارتكاب الجرائم......الخ . وكلها موضوعات تدخل في دائرة الخلاف حول قانون جنسية الدولة الواجب التطبيق على الشخص مزدوج الجنسية الأمر الذي يردنا إلى قواعد الإسناد الوطنية والفكر المسندة وما تتركه من آثار قانونية . ومنها ما هو متعلق بإعاقة سير العمل عندما يتشتت ولاء مزدوج الجنسية فيما بين مصالح الدولتين المتعارضة والتي يحمل جنسيتيهما، لاسيما عندما يقف مزدوج الجنسية حائرا أمام ضميره، ويتذكر قسم الولاء الذي أداه في الدولتين مانحتي الجنسية، وهذا في وقت السلم. وكيف به في وقت الصراع لا سمح الله، أوليست الدولة الصديقة عدو محتمل في فقه الساسة ؟!. ثم أن الأمر يزداد خطورة عندما يتعلق بمن يتبوءون المراكز الحساسة في الدولة ، تلك المراكز التي تختص وتسهم في صياغة التشريعات وتسيير مرافق الدولة ، الأمر الذي يوجب أن لا يكون لهم ولاء لدولة أخرى.
وخلاصة القول فإنني أرى أن دسترة ازدواجية الجنسية تشكل خطورة أمنية واستراتيجية على أمن الوطن ، وبها يفتح الباب على مصراعيه للطعون الدستورية في شرعية عضو البرلمان.ويعيد الوطن إلى تجاويف متروكة ،وصرخات مبتورة هرب منها ذات اشتهاء وانتماء.
والسؤال الختامي : كيف لمن يزهد في جنسية هذا الوطن أن لا يتنازل عنها ؟! وماذا ينقص حكمائنا من رعاية الدولة الكاملة حتى يتجهون لدسترة ازدواجية الجنسية ويتطلعون إلى جنسية دولة أخرى .
وأخيرا، رحم الله المنفلوطي إذ يقول :( من أصعب المسائل التي يحار العقل البشري في حلها: أن يكون الحيوان الأعجم أوسع ميداناً في الحرية من الحيوان الناطق، فهل كان نطقُه شؤماً عليه وعلى سعادته؟ وهل يجمل به أن يتمنى الخرس والبله ليكون سعيداً بحريته؟! يحلق الطير في الجو، ويسبح السمك في البحر، ويهيم الوحش في الأودية والجبال، ويعيش الإنسان رهين المحبسين: (محبس نفسه، ومحبس حكومته) من المهد إلى اللحد، صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالاً، وسماها تارة ناموساً وأخرى قانوناً، ليظلمه باسم العدل، ويسلب منه جوهرة حريته باسم الناموس والنظام).
في اليقظة لا يغادرنا وعينا وإدراكنا لما يدور حولنا، وفي الحلم لا تفارقنا جل أحاسيسنا، نتكئ على المشهد، ونتوجّس خيفة من الآتي . والله نسأل أن يحفظ الأردن من كل سوء.